Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

نجوى بركات تروي جنون ما بعد الحرب... البلد فندق في شكل مصحة

"المستر نون" رواية اللقاء بين شخصيات معطوبة ومكان مدمر

الروائية نجوى بركات (يوتيوب)

تنفتح رواية الكاتبة اللبنانية نجوى بركات "المستر نون" (دار الآداب) على خروج لَعَازر من قبره بعد أربعة أيام قضاها في اللاوجود. ويأتي هذا المفتتَح بحرف طباعي مائل،سيتكرر ظهوره لماماً، لنتبين أن لَعازر ليس إلا المستر نون نفسه: كائن افتراضي غير مرئي يخرقه الهواء، ويتقيأ حبرا وورقاً وقتلة وكذبةً وجلادين. وبعد غيبة تمتد حتى ص 158، يتذكر  المستر نون لَعَازَر، ويتساءل عما حل به بعد قيامته، وما إن كان سعيداً بعودته إلى الحياة، فهو الوحيد الذي عبر "المرآة" وأدرك ما وراء الموت. سيتحدث نون عن شخصية أخرى (داوود / ماجد) الذي أُدخل في القبر، ولن يكون له من سيأتي لقيامته، كما جاء هو، أو المسيح، لقيامة لعازر. ومن بعد لن يظهر لعازر حتى نهاية الرواية عندما يخاطبه نون: " دعني مدفوناً هنا".

تلك طبقة سردية أولى وأصغر. أما الطبقة الكبرى التي تأتي بحرف الطباعة العادي، فهي التي يتولاها نون بضمير المتكلم غالباً جداً، وبضمير المخاطب نادراً، مما سينبه نون إليه القراءة: " ها إني قد عدت إلى استخدام ضمير الغائب. ما الصعب إلى هذه الدرجة في استخدام ضمير الأنا؟".

يظهر نون – أو السيد أو المستر نون، كما يتردد في الرواية – نزيلاً في فندق باذخ، بل مشفى باذخ، بل مصحة نفسية كما يتكشف رويداً. ومن البداية إلى النهاية يتولى نون سرد حياته منذ الطفولة إلى المصحة، وسرد حيوات الشخصيات الأخرى، وفضاءات الرواية، إلا في ما ندر من إسناد السرد لشخصية ما، كما في الفصل الذي تفتحه عبارة "وروى أبي"، وفيه يروي والد نون ما جرى له في ليلة من بداية الحرب الأهلية اللبنانية، وهو الطبيب الذي كان يداوي الفقراء مجاناً كل سبت. وحين ألجأت ممرضته الأطفال إلى عيادته، فخدرهم ليحميهم من مداهمة القتلة (بقيادة الأبرص)، فقضوا والممرضة، وعاد الأب إلى البيت مغمساً بدمه، وحمّل نفسه وزر موت / قتل الأطفال، فاعتزل الناس إلى أن انتحر، وهو من كان ملجأ الطفل نون، على النقيض من الوالدة / العدوة ثريا.

الكتابة والإنقطاع

منذ خمسة عشر عاماً انقطع السيد نون عن الكتابة، بل كرهها، وصار يتذمر مما يُقرأ أو يُسمع. لكن مسّ زهرة التي ترعاه في المصحة تنصحه بأن الكتابة ستريحه، وإن لم يعد يرغب بالكتابة، تنصحه بالعودة إلى القراءة. وباستجابته للنصح ما عاد يطيق الدواء. وقد اختفت بعد حين أوراقه، لنتبين أن مدير المصحة /المستشفى/ الفندق 5 نجوم، هو من أخذها، وأعادها بعد قراءتها، وأثنى على نون الذي قرر أن يعود إلى الكتابة بتحريض من مس زهرة، فالنساء يحببن الكتاب كما لاحظ، ما عدا أمه ثريا وندى حبيبته.

من سيرة نون التي يستعيدها في ارتجاعات هي القوام الروائي الأكبر، يظهر في الطفولة ذلك البري السكوت المكتئب الحذر الخجول، لأن أمه لا تلتفت إليه إلا بعداء، مؤثرةً الابن الأكبر سائد الذي سيصبح من عتاة الحرب، ويؤول إليه الإرث، وسينفق على نون في المصحة بصفته الوصي الشرعي عليه، وقد حضر إليها ليصطحب نون إلى دفن والدتهما، لكن نون يرفض.

في الارتجاعات يتبدى الرسم الحاذق لشخصيات الرواية. فمن الطفولة، تتوالى شخصيات خادمات ثريا: سوران التي أذاقها المر، أريغاش الإيثوبية التي هربت مع الآشوري العراقي، وماري التي علمت نون كيف يخرج من دهاليزه. ولا يتعلق التميز برسم الشخصية. بحصتها من السرد، فقد تكون عابرة كالملاك التي أنقذته من أيدي بلطجية لقمان، وقد تكون أكبر حضوراً مثل ندى الحبيبة والزميلة في الكلية التي يعطي نون فيها دروساً في الكتابة الإبداعية، لطلبة يحلمون بأن يصبحوا كتّاباً. لكن ندى تهجر نون بعد سبع سنين.

في حمأة الحرب قطع نون علاقته بالأحزاب، فصار في عرفهم مجنوناً. وبدلاً ممن يسميهم قطعان مواشي الرب في بيروت، أي أهل القاع، قرر التخصص في قطعان الأجانب. وإذ يصادف شايغا في حانة المستر جو، تكويه وقدة العشق. لكن محاولته إنقاذها من ربقة العهر والعبودية، ترميه في الهلاك على يد المستر جو الذي يتخلص منها هي أيضاً. لكن اعتداء المستر جو يجعل المستر نون نزيل المستشفى ورهين الاختلاطات الذهنية، لذلك يودعه أخوه سائد في المصحة.

في زمن المصحة يأتي جيران نون، وأولهم السورية مريم المسكونة بالأرواح، والتي تعد كل مساء عشاء اللحظة السحرية التي يفترض أنها تجمع أفراد أسرتها الذين نجوا من فخاخ القتل والخطف والقنص والتفجير والبراميل. فما كان يعني هذه السورية الهاربة من جحيم الحرب السورية في حلب، هو أن ينتهي نهارها بسلام من دون جريح أو فقيد أو سجين أو مخطوف أو قتيل، ويكتب السيد نون: "فلتستمر الحرب إلى ما لا نهاية، إلى الأبد، ما يعنيها هو أن تجتمع عائلتها كل مساء"، وهذا هو حال اللبنانين كما يتابع نون" من قبل، وما تزال، لسنوات.. لدهر".

ما قاد مريم إلى المصحة كونها فقدت أسرتها جميعاً، إذ عصفت بها الاختلاطات الذهنية، فكان أن انتحرت. ويعلق نون على انتحارها: "نحن لم نفعل بها شيئاً. الحرب في بلادها هي التي فعلت، وانتهت حياتها حتى من قبل أن نراها. لقد أكل الغول عائلتها، ودمّر مدينتها، وأبقاها حيةً كي يزيد من عذابها". ومريم أستاذة جامعية مكتئبة، وقد نجت بأعجوبةٍ تظل تفتقر إلى قدر الإقناع منذ نزولها في طابق الميسورين من المصحة التي جعلت طابقها الأدنى لـ "المستذئبين".

جلاد بلا ضحية

وهذا ماجد الذي سماه جاره نون داوود، يصر على أنه هو من قتل زوجته التي انتحرت فصارت جلاده، وصار جلاداً بلا ضحية. كما يتهم ماجد / داوود نفسه بقتل مريم فيرمي بنفسه في غيابة السجن. وأما كل هذا العطب في شخصيات الرواية فهو إرث الحرب بعد عقود مما يفترض أنه انتهاؤها في لبنان. والعطب في الماضي أو الحاضر ليس حكراً على البشر، بل تنعم به الفضاءات التي تجعلها الرواية وكدها كما الشخصيات. ففي بيروت "تغلي الشوارع الصغيرة كقفير نحل بعمال ينتمون إلى ألف عرق ولون، وبنازحي كل حروب المنطقة". وتبدع الرواية في رسم بيروت كأحياء ممزقة، بقي بعض أشلائها معلقاً على أسلاك الكهرباء، فيما استمر بعضها الآخر حياً (يعبط) في الوحول، لكأنها دغل. إنها مستوطنات مواشي الرب من  متسولين ولاجئين وقطط معوقة و.. وما هو اهتراءات المشهد التي كثرت على المستر نون، مثلما كثرت عليه حياته باختلالاتها، من كتمانه لما شهد من انتحار أبيه أو مريم أو زوجة ماجد، إلى يقينه بأن أمه هي من قتل أباه بإهمالها وخيانتها، إلى رفضه المسامحة عن زمن الحرب، وإصراراه على المساءلة والمحاسبة.

بمثل وقوع يونس في بطن الحوت، يتشبه نون وقومه في بطن المدينة، أي في قاعها، وقاع قاعها: الكويكب الملعون، الكويكب البشري في منطقة مارمخايل، نهر النفايات: نهر بيروت، أحياء برج حمود والكرنتينا وشارع أرمينيا وشارع الجميزة ووسط البلد ومستديرة الدورة... وإذا كانت التأرخة ستبهظ السرد هنا أحياناً – من شارع عبد الوهاب الانكليزي إلى الكرنتينا – فالغالب هو أن يحضر الفضاء الروائي في مشهديات تلوح في تفصيليتها لأسلوب صنع الله ابراهيم في الوصف المدقق، كما يلوح نون لبطل رواية "تلك الرائحة" في مشهد التبول(ص113).

ليس العطب وقفاً على لبنان – وضمنه سوريا – بل هو عطب هذا العصر الذي يصفه نون بعصر التواصل والمساواة والانفتاح والأخوة وموّال الليبرالية والقرية الكونية والمواطنة في العالم. ولعل شخصية لقمان تختصر كل ذلك بمختلف ظهوراتها، من لقمان بطل الحرب الأهلية الذي أسس مع أقرانه القتلة شركة لإبادة الجرذان، إلى لقمان بطل رواية نون السوداء الذي يسأله في منتهى الرواية "لم قتلتني وأنا بطلك"، فيرد نون: لأنك وهم، ولست حقيقياً. وتتدافر الأخيولات والكوابيس والهلوسات في منتهى الرواية، حيث يجأر نون: "كيف لك أن تبقى سوياً في بلد كهذا لا يخضع إلى عرف أو قانون". ثم تأتي مفاجأة الصفحة الأخيرة في الرواية، إذ نكتشف أن مدير المصحة يكتب تقريره عن السيدة نون الكاتبة المعروفة التي انتحرت بعد خمس عشرة سنة في المصحة، مخلفة حولها أوراق مخطوطة عنوانها "المستر نون" فيما كانت يدها ملقاة على ورقة بيضاء منفصلة كتبت عليها بأصابعها المغمسة بدمها: "أخيراً، لقد تخلصت منه".

قد يكون من المبالغة أن يقدّر المرء أن الهتفة الأخيرة لتلك الكاتبة هي هتفة نجوى بركات عن بطلها الذي ينادي من روايتها "يا سلام" أصناءه: لقمان بطل الحرب الذي نجا منها ومات خنقاً بعدها، الأبرص الذي يعذب أسراه كأبرص رواية "المستر نون"، والجرذان التي تترك سلام أخاها سليم الذي جننته الحرب، لقمة لها.. فأي فعل للكتابة يمكن أن يكون إزاء كل هذا العطب والكلح .. والعيش الرغيد في لبنان أو سوريا أو العالم كله؟

المزيد من ثقافة