ملخص
ابن الجنوب المصري صاحب "الطوق والإسورة" استوحى التقاليد الشعبية بأبعادها الغرائبية
يشكل المكان علامة بارزة في عالم يحيى الطاهر عبدالله (1938 - 1981) الروائي والقصصي، وقد رصده كثير من الكتب والأبحاث العلمية. فهو واحد من أربعة موضوعات تناولها النقاد في تحليلهم لإبداعه. ويأتي المكان وتأثيره في قمتها. الأول ركز على لغته الشاعرية، وبنية قصصه بين السرد والحوار. والثاني ركز على دوره في القصة المصرية. والثالث توجه ناحية البعد الرمزي داخل أعماله، ورصد الجانب الثوري فيها وخطابه السياسي. أما الرابع فانشغل بالحكي الشعبي والتراث. ومن الدراسات في هذا السياق "التراث وصياغة النص الرمزي في أعمال يحيى الطاهر عبدالله" لخالد طايع، و"العالم الافتراضي في أدب يحيى الطاهر عبدالله بين الواقع والمعتقد الشعبي" لفتوح قاسم، و"دلالة المكان في روايات يحيى الطاهر عبدالله" لسعيد الطواب، و"الكرنك في أعمال يحيى الطاهر عبدالله وبهاء طاهر" لمي فرج، و"القرية المصرية الكرنك في أعمال يحيى الطاهر عبدالله" لسامي الشيخلي، و"الجنوب في أعمال يحيى الطاهر عبدالله" لأمينة عبدالعليم.
ويأتي كتاب "الكرنكي: أنسنة المكان في قصص الطاهر عبدالله" (دار كميت للنشر والتوزيع) للباحثة المصرية أسماء خليل ضمن هذه الفئة التي اهتمت بموقع المكان في عالم يحيى الطاهر عبدالله. و"الكرنكي" هنا هي نسبة إلى قرية "الكرنك" التي ولد فيها يحيى الطاهر عبدالله، وهي قريبة من مدينة الأقصر، وتشتهر بالمعبد المصري القديم الذي يحمل اسمها، وهو اسم حديث محرف عن الكلمة العربية "خورنق"، وتعني القرية المحصنة.
ابن الجنوب
نقل يحيى الطاهر عبدالله عبر القصة والرواية عالم الجنوب المصري المجهول، سرداً على خلاف صديقيه عبدالرحمن الأبنودي وأمل دنقل اللذين أبدعا شعراً، فيما تفرد هو بالنثر، فأجاد وصف البيئة التي نشأ فيها. وكان أول من رسم صورة الجنوب إبداعياً من خلال السرد القصصي والروائي، ليس بعين الغريب وإنما بعين ابن المكان الذي يعرف عاداته وتقاليده. فكان المكان واحداً من أهم الخصائص التي ميزت ما أنتجه الطاهر عبدالله في جنس أدبي لم يكن المبدعون الذين جاءوا من جنوب مصر (أسوان، الأقصر، قنا) يفضلونه في بيئة تحتفي بالشعر والشعراء. فكانت واحدة من علامات تفرد الطاهر عبدالله وتمرده فهو سلك جنساً أدبياً لم تكن له المكانة الكبيرة في نفوس الجنوبيين، لكن ذلك النزوع إلى النثر لم يمنع أن تكون لغة الطاهر أقرب إلى روح الشعر، تلك اللغة التي لفتت كثيرين. وروي عنه أنه كان يحفظ قصصه القصيرة وينشدها لسامعيه في جلساتهم كما ينشد الشعراء شعرهم.
ومن علامات الشاعرية في لغة الطاهر عبدالله القصصية هي الأنسنة، خصيصة حاضرة بقوة في إنتاجه كما يكشف كتاب "الكرنكي" في تحليله لمجموعته الأولى "ثلاث شجرات كبيرة تثمر برتقالاً". تشير المؤلفة في مقدمة كتابها إلى أن أنسنة الأماكن والأشياء فاعلة في أدبنا العربي منذ العصر الجاهلي حيث الوقوف على الأطلال والبكاء والشكوى إليها وسؤالها عن الماضي. وامتدت هذه الروح الشعرية إلى قصص الطاهر فأنسن الحجر والشجر وجعل من الصفصافة امرأة: "أكره أشجار الصفصاف. أكره أن تقهرني عوانس الصفصاف مدلاة الشعور". ويخاطب بطل قصة "35 البلتاجي، 52 عبدالخالق ثروت": "يا شارع البلتاجي بسكانك جميعاً أنت حر...". ويقول في قصة أخرى: "كنت أنظر إلى لسان الضوء الذي يلعق ساق الطفل العارية". ويشبه السماء برامي السهام: "كانت السماء قد شدت قوسها وأطلقت باتجاهي سهماً من نار". فقصص الطاهر زاخرة بهذه الروح الشعرية التي تخاطب الطيور والحيوانات والأماكن، وتلبسها لباس البشر فتشاركهم الأحزان والأفراح، والقهر والمعاناة والتعب وتنزع عنها صفة السلبية والحيادية.
المكان والعادات والتقاليد
أخذ المكان في أعمال الطاهر دور البطولة فهو يعبر من خلاله عن عادات وتقاليد أهل الأقصر، كاشفاً عن رؤيتهم للحياة والأساطير التي يؤمنون بها، في مجتمعات مهمشة لم تلق الرعاية والاهتمام اللازم من مؤسسات الدولة المركزية في القاهرة. فيركز في إبداعه على القبلية وأهمية الأنساب في صعيد مصر الذي يتمايز فيه الناس طبقاً لأصولهم العرقية. فهناك عرب وأشراف يعدون من علية القوم، وهناك الجمس والحلب يعدون درجة أدنى من الناس ويعيرون بأصولهم. يحاول أحد أبطال قصصه أن يرفع هذه الوصمة عن هؤلاء المنبوذين فيقول لأهل القرية: "الجمسا عرب، ومن خيار الناس، وكانوا يسقون الناس من النيل، غير أنهم تأخروا عن القوم فقال النبي عنهم: جم مسا... كانوا يسقون في الخلاء فأدركهم المساء، الجمسا عرب عرب".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ومن القضايا التي يولدها المكان في قصص يحيى الطاهر عبدالله قضية عدم توريث البنات من الأرض، أو إجبارهن على عدم الزواج من خارج العائلة، حتى لا تذهب الأرض إلى غريب. ويتناول في قصة "طاحونة الشيخ موسى" حكاية موروثة في المجتمع الجنوبي، مفادها أن الطاحونة لا تعمل إلا بدم طفل صغير، مما تسبب في رفض أهالي القرية العمل في طاحونة "الخواجة نظير"، خوفاً على أبنائهم: "يعني ما إحنا من عمرنا بنشوف المكن ما يدورش إلا إذا أكل عيل صغير... مش كل المكن بيصرخ توت توت يعني أنت هتغيره يا خواجة نظير؟". فأسطورة الدم تلك ترتبط بكثير من المعتقدات في الجنوب، ومنها أن الكنوز المدفونة تحت الأرض والتي تستعصي على الخروج، يكون سبيلها هو إراقة الدم عليها فتظهر على الفور. فليجأ "الخواجة نظير" إلى الشيخ موسى صاحب السلطة الدينية في القرية كي يقنع أهالي القرية بمشروعه الجديد الذي سيوفر على أهالي القرية الذهاب إلى البندر لطحن غلالهم، مما يكشف عن مكانة الدين في نفوس الناس وتلاعب المشايخ به بحسب مصالحهم. هذه القضية سلط عليها يحيى الطاهر عبدالله الضوء بقوة في روايته "الطوق والإسورة" التي تحولت إلى فيلم بعد وفاته، من بطولة عزت العلايلي وفردوس عبد الحميد والرائعة شريهان وإخراج خيري بشارة.
الشاي الأحمر
ومن المعتقدات الشعبية التي ترصدها الباحثة أسماء خليل في قصة "جبل الشاي الأخضر" أن ولع الأطفال الشديد بالنار يجعلهم يبولون على أنفسهم أثناء النوم. فيقول على لسان الحفيد الذي يحاول رفع تهمة الجد عنه بأنه يبول على نفسه وهو نائم: "يصرخ باعتقاده القاطع بأنني أبول على نفسي أثناء نومي على رغم أني لم أعد طفلاً. ينسب ذلك لحبي للنار المشتعلة. وولعي بالجمر الأحمر المتقد".
ومن المعتقدات التي يرصدها الطاهر في هذه القصة الاعتقاد أن الشاي الأحمر يحرق الدم: "مش أنت يا جدي زمان كنت صغير زينا، وكنت تشرب الشاي الأحمر، لكن كبرت وعرفت الشاي الأحمر بيحرق الدم فشربت الشاي الأخضر... طيب ليه عواطف الصغيرة تشرب الشاي الأحمر، والله العظيم ثلاثة يا جدي دمها كله حيتحرق، أصل دماغها ناشفة من النوع الحجر وعايزة الكسر".
تكشف هذه القصة كيف تنتقل هذه المعتقدات من الأجداد إلى الأحفاد، فقد وثق عالم الطاهر عبدالله هذه المعتقدات الشعبية في الجنوب التي تتعلق بالموت والحياة، والخصوبة والعقم، والجنيات والعفاريت، وأضرحة الأولياء، ولم يبتعد عن هذا العالم إلا في القليل جداً من أعماله التي أنتجها في حياته القصيرة التي تجاوزت الأربعين عاماً بقليل.