Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

عدالة أم "مؤخرة شرطي"؟

يستمر الصراع بين الـ "بونليو" وبين الدولة الفرنسية بارتدادات أبعد من المقتل المأسوي للشاب

ضباط الشرطة يعتقلون رجلاً خلال احتجاجات في ليل شمال فرنسا 29 يونيو 2023 (أ ف ب)

ملخص

 وسط الصراع البيّن والانقسام الواضح بين الـ "بونليو" وبين الدولة الفرنسية، تقف فرنسا وأوروبا على مفترق طرق جديد بين الاندماج والتعددية الثقافية وبين التعايش والعنصرية وبين الإقصاء والتسامح والمساواة.

أواخر عام 1981 أجلس في الصالة مع الأميركي تشارلز بوستيك، أحد مشاركي شقة السكن الطلابي بمبنى الـ "بلانواز" الطلابي الشهير بمدينة بيزانسون الواقعة شرق فرنسا.

كانت الساعة قد تجاوزت الـ 10 ليلاً، وفجأة ومن دون سابق إنذار دوّى اختراق رصاصة زجاج الصالة الحاجز لبلكونة الشقة.

مرت الرصاصة بيني وبين تشارلز، وقحصت واقفاً منتخياً "أخو سارة"، بينما رمى تشارلز بنفسه إلى الأرض وراح يحبو نحو زر الضوء بالصالة ليطفئه، وهو يصرخ بي "الأرض... الأرض" (GET DOWN ... GET DOWN).

خرج مصطفى، زملينا السوداني الثالث بالشقة مستفسراً بهدوء، "يا إخوانا إيش الصاير يا إخوانا؟"، صرخ به تشارلز (GET DOWN …GET DOWN) وتابعت الصراخ بمصطفى مترجماً "انبطح يا زول انبطح".

جاءت الرصاصة من مبان شاهقة قبيحة كعلب الكبريت يسكنها خليط متكدس من المهاجرين والعمال الذين قدموا في الغالب من أوروبا الشرقية الشيوعية آنذاك ومن شمال أفريقيا، وكانت من الحارات التي تتجنب حتى الشرطة الذهاب إليها.

خف الهرج والمرج وسط ظلمة الصالة وحبونا جميعاً خارج الشقة واتصلنا بالشرطة، وصل شرطيان بليدان تعاملا مع الحدث ببرود.

"كيف لنا أن نعرف من أطلق عليكم النار من هذه الغابة الأسمنتية؟"، قلت له بفرنسيتي المكسرة جداً في حينها مشيراً إلى الرصاصة التي استقرت في جدار الصالة، "أنتم الشرطة وهذا عملكم"، لكني استعملت لفظاً دارجاً لا يحبه الشرطة بفرنسا وهو (FLIC)، والكلمة شائعة بين الفرنسيين لكن الشرطة يفضلون كلمة "بوليس" الرسمية.

كنت قد تعلمت كلمة "فليك" من فيلم شاهدته قبل أيام من تمثيل وإخراج الفرنسي الشهير آلان ديلون وكان عنوانه (POUR UN PEAU D"UN FLIC)، وترجمته "من أجل مؤخرة شرطي".

سارعت زميلة جارة من الأردن تسكن الشقة التي فوقنا وفرنسيتها ممتازة إلى شرح وتبرير أن فرنسيتي مكسرة وأنني لا أقصد إهانة الشرطة، فأنهى الشرطيان تحقيقهما القصير بنصيحتنا بإغلاق ستار الصالة وعدم الجلوس فيها، وأغلق التحقيق.

قبل يومين وبدم بارد أقدم شرطي فرنسي على قتل فتى في الـ 17 من عمره من أصول جزائرية اسمه نائل مرزوقي في الـ "بونليو"، وهي كلمة فرنسية تعني الضواحي التي خارج المدينة، لكنها أخذت مدلولاً آخر منذ تكاثر المهاجرين في ضواحي المدن الفرنسية نهاية الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي، فأصبحت تعني المناطق المحرومة اقتصادياً ومتردية الخدمات وعديمة الأمن، فبها تنتشر البطالة والمخدرات والدعارة والعصابات والعنف.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

كان اللاعب الفرنسي الشهير كيليان مبابي وكذلك اللاعب الجزائري رياض محرز قد عاشا في هذه الضواحي المليئة بالعنف والتطرف بجميع أنواعه، الإجرامي والديني والقومي والعرقي وغيرها.

يقول مبابي عن طفولته إن الرعب الذي كان يعيشه في حارتهم وسماعه المستمر لطلقات الرصاص خارج بيتهم بين عصابات مختلفة كان حافزاً وراء مثابرته الرياضية لتحقيق طموحه والخروج بعائلته من هذه الغابة البشرية بالـ "بونليو".

اشتعلت ضواحي الـ "بونليو" في مدن فرنسية عدة، ليس احتجاجاً على جريمة القتل البشعة وحسب، لكن لأن الشرطة كذبت في تقريرها الأوليّ حين ادعت أن الفتى قام بدهس الشرطة، مما اضطرهم إلى إطلاق النار عليه دفاعاً عن النفس، لكن شريط فيديو أظهر أن القتل تم عند نقطة تفتيش توقف عندها الفتى وتحرك فأطلق عليه الشرطي النار من قرب شديد فمات متأثراً بجراحه.

أحداث العنف الفوضوي الذي يحرق كل شيء في طريقه بالضواحي الفرنسية وقت كتابة هذه المقالة يربّح كثيرين ويخسّر أكثر، فتجار المخدرات يرون في هذه الفوضى نوعاً من اللامبالاة النسبية الموقتة لتوزيع تجارتهم لانشغال رجال الشرطة بإخماد الاحتجاجات، والعصابات تنشط للنهب والسلب وتصفية حساباتها بعيداً من أعين الشرطة المنشغلة بالاضطرابات.

كما يجد العنصريون في هذه الاحتجاجات فرصة لتعزيز خطابهم الإقصائي، "هذه نتيجة السماح بالهجرة والمهاجرين الذين يخربون بلادنا الجميلة"، ويتكسب الدواعش الفرنسيون على اضطرابات الـ "بونليو" لتعزيز "الغيتو" الإسلاموي الذي يرفض الاندماج والتعايش مع الفرنسيين والأوروبيين عموماً، "إنها حرب صليبية ضد المسلمين"، وهكذا فمصائب قوم عند قوم فوائد.

ووسط الصراع البيّن والانقسام الواضح بين الـ "بونليو" وبين الدولة الفرنسية، تقف فرنسا وأوروبا على مفترق طرق جديد بين الاندماج والتعددية الثقافية وبين التعايش والعنصرية وبين الإقصاء والتسامح والمساواة.

وفي محاولته لامتصاص الغضب والاحتجاجات سارع الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون بالتصريح بإدانة القتل قائلاً بأنه "غير مبرر ولا يغتفر"، وقدّم الشرطي القاتل للمحاكمة العاجلة بتهمة القتل ليستمر الصراع بين الـ "بونليو" وبين الدولة الفرنسية، بارتدادات أبعد من المقتل المأسوي للشاب انتظاراً لتحقيق العدالة، فهل تتحقق العدالة لنائل مرزوقي أم تنتهي كعنوان فيلم آلان جيلون "من أجل مؤخرة شرطي"؟

اقرأ المزيد

المزيد من آراء