ملخص
هاني عفيفي وإبراهيم موريس يواصلان مشروعهما الموسيقي لإحياء تراث مصري عريق
يظل إنتاج المسرح الغنائي في مصر ومعظم الدول العربية، محفوفاً بالمخاطر، فهو يتطلب كلفة مالية كبيرة، ويحتاج إلى توافر عناصر تمثيلية تجمع بين القدرة على التمثيل والغناء والرقص. ويحتاج أيضاً، وهذا هو الأهم، إلى جمهور يتقبل هذا النوع من المسرح الذي لم يعتد عليه بعد أن ندر تقديمه وكاد يندثر.
العرض المسرحي الغنائي "ولا في الأحلام" الذي يقدم على مسرح قصر النيل وسط القاهرة- هذا المسرح الذي لطاما وقفت عليه سيدة الغناء العربي أم كلثوم لتقدم حفلاتها الغنائية- يعيد الحياة إلى هذا المسرح من ناحية، ويعيد من ناحية أخرى الحياة إلى المسرح الغنائي مجدداً. مخرج العرض هاني عفيفي نفسه قدم عرضاً مماثلاً (ليلة) منذ خمس سنوات مع مؤلف النص وموسيقى العرض نفسه (إبراهيم موريس). وها هو الثنائي يعود مجدداً لخوض تجربة أخرى فيها الكثير من المغامرة، أي أنهما استغرقا خمس سنوات حتى يعودا بعمل جديد. فهل يسعى عفيفي وموريس إلى استعادة هذا اللون من المسرح؟ وهل لديهما القدرة على الاستمرار في تقديمه على رغم ما قد يعترضهما من عقبات إنتاجية؟ علماً بأن الإنتاج هنا خاص وليس تابعاً لمؤسسة رسمية.
حكاية بسيطة
النص حكايته بسيطة ومسلية، وهي سمة ربما تكون عامة في غالب عروض هذه النوعية التي لا بد أن تخاطب الجمهور العام وتحرص على تسليته وإمتاعه، وإن لم يغفل العرض هنا عن طرح أسئلته المتعلقة بالسعادة ونسبيتها. نحن في حارة شعبية يعيش فيها شقيقان في مرحلة الشباب فترة الستينيات من القرن المنقضي، أحدهما مولع بالعلم والاختراعات، يخترع تركيبة تحقق لمن يتعاطاها، السعادة في الأحلام، يجربها على شقيقه الذي كان يحب فتاة من الحارة تدعى جميلة ويتهرب من أخرى تحبه زهرة. يحلم هذا الشقيق، بعد تعاطي التركيبة، بأنه ارتبط بفتاته التي أحبها، ويلمس خلال الحلم، رقتها وعاطفتها وحنوها على الأطفال. هذا عندما يذهب معها إلى إحدى الحدائق ويلتقيان طفلة يتيمة ووالدتها، ويعلمان أنهما بلا مأوى. تحنو عليهما الحبيبة وتسعى إلى توفير فرصة عمل للأم. لكنه عندما سعى إلى تحقيق حلمه في الواقع، واصطحب فتاته إلى الحديقة نفسها والتقيا الطفلة نفسها ووالدتها، اكتشف النقيض تماماً في فتاته، فهي رفضت التواصل مع الطفلة اليتيمة وعاملتها بقسوة، في حين اكتشف أن الأخرى زهرة التي كانت تحبه ويتهرب منها، تحمل الصفات الطيبة نفس التي حملتها حبيبته في الحلم. وذلك من خلال تكرار زيارة الحديقة، ولكن بصحبة زهرة والالتقاء بالطفلة ووالدتها، ومشاهدة رد فعل زهرة تجاههما.
اكتشف في الواقع أن الفتاة التي أحبته من جانبها فقط تستحق حبه، فتزوج بها، وإن كانت تحولت بعد الزواج والحمل وأعباء المنزل، ففتر الحب بينهما، أو اختلفت صورة التعبير عنه، وهو أمر معتاد في معظم حالات الزواج.
كل ذلك يدور في إطار غنائي ممزوج بالجمل الحوارية العادية، وهو ما تطلب تمتع الممثلين بقدرات غنائية تعينهم على أداء أدوارهم بشكل مقبول، وقد نجحوا في أدائها، بخاصة أننا لسنا بصدد أغان تطريبية.
حكاية اجتماعية رومانسية بسيطة، وأحداثها ومصادفاتها المتكررة يمكن قبولها في إطار عمل فني، فيه قدر من الخيال ربما لا يتحقق "ولا في الأحلام". هي حكاية لا تناقش قضية كونية، القضية هنا تكاد تكون معتادة، والعبرة في كيفية صياغتها وتقديمها عبر الغناء والرقص والتشخيص، في شكل كوميدي لطيف وغير مفتعل. صحيح أن بعض الخطوط الفرعية لا تكتمل، وصحيح أن بعض الرقصات جاء كنوع من الترف غير الفاعل درامياً، ورغبة في إثراء الصورة لا أكثر، لكن العرض إجمالاً حمل الكثير من المتعة البصرية والفكرية، وجاء مناسباً للجمهور. وأيقن صناعه أن فكرتهم التي تتناول نسبية السعادة، وأن الواقع بحلوه ومره أفضل من الاستغراق في الأحلام التي جاءت مصطنعة بفضل التركيبة، فكرة بسيطة، فمرروها بشكل بسيط ومنضبط إلى حد كبير.
الاعتماد على الصورة
هذه النوعية من المسرح تعتمد أكثر على الصورة، ومن هنا استعان المخرج بمصمم ديكور صاحب خبرة في الأعمال الموسيقية الراقصة (محمد الغرباوي) الذي صاغ حارة شعبية بيوتها على جانبي المسرح، واستغل العمق، من خلال شاشة سينمائية، في تجسيد البيوت من الداخل مع إضافة بعض القطع كمنضدة أو مقعد. وكذلك في تجسيد إحدى الحدائق، وترك مساحة واسعة للاستعراضات. واتسمت تصميماته بالمرونة التي تتيح تغيير المنظر بسرعة لا تخل بإيقاع العرض، وكذلك بألوانها المبهجة التي تناسب أجواء المسرحية، وسارت الإضاءة (صممها ياسر شعلان) على الدرب نفسه، مراعية احتدام المسرح بالحركة والنقلات المتعددة في العرض.
الفترة الزمنية التي يدور فيها العرض هي الستينيات من القرن المنقضي، وهو ما فطنت إليه مصممة الأزياء مروة عودة في تصميماتها، فأضفت على ملابس بعض الشخصيات لمسة كوميدية تناسب طبيعتها. وبعيداً من إقحام بعض الرقصات غير المتماسة مع طبيعة العرض، جاءت تصميمات سالي أحمد بالمشاركة مع رجوى حامد، متسمة بالرشاقة والحيوية، وربما استخدمها المخرج كعنصر جاذب ومسل ليس أكثر.
عادة ما تكون الموسيقى حية في مثل هذه العروض، لكن يبدو أن الكلفة المالية الكبيرة للاستعانة بفرقة موسيقية حالت دون ذلك، فجاءت الموسيقى مسجلة والغناء حياً، وهو ما دفع المخرج إلى الاستعانة بمهندس صوت (علي صدقي) على درجة عالية من الخبرة مكنته من الخروج بالعرض إلى بر الأمان.
العرض لعب بطولته: محمد عبده في دور "سفرجل" الذي تعاطى تركيبة الأحلام السعيدة، ولعب هاني عبدالناصر، وهو ممثل وموسيقي، دور "برجل" شقيقه المخترع. ويبدو أن اختيار اسمي (برجل وسفرجل) جاء ليناسب الطبيعة الكوميدية للشخصيتين، وهو ما اتسم به أداء الممثلين وحقق الغرض، بخاصة أن الكوميديا هنا نبعت في الغالب من المواقف وليس من "الإفيهات"، فجاءت طبيعية ومن دون افتعال أو استظراف.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ولعبت منى هلا دور "جميلة" التي أحبها سفرجل واكتشف زيفها في الواقع، بأداء مقنع في الحلم والواقع، وكذلك زهرة رامي في دور "زهرة" التي تزوجها سفرجل بعد اكتشافه طبيعتها الخيرة وصدقها في حبه، ومعهما شادي عبدالسلام "صاحب محل الخردواتي"، ومنار الشاذلي "الأرملة"، وحبيبة عادل "الطفلة دودو"، ومعهم من أهل الحارة بهاء الطمباري، وتالا رضوان، ونيفين محمود، وإبراهيم سعيد.
يمكن القول إن العرض الغنائي "ولا في الأحلام" إرهاصة طيبة ومهمة لاستعادة هذا اللون من المسرح الذي ظهر مبكراً في مصر على يد الشيخ سلامة حجازي في بداية القرن العشرين، وطوره من بعده سيد درويش بأعماله التي ما زالت عالقة بالأذهان. صحيح أنه لم يتم تسجيلها، لكن ثمة فرق أعادت تقديمها، ومنها "العشرة الطيبة"، و"شهرزاد"، و"البروكة"، وغيرها من الأعمال. وإن كانت التطورات التكنولوجية التي لم يحظ بها حجازي ودرويش يمكنها أن تصنع فارقاً لو تم استغلالها على نحو جيد.