Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

بيروت مدينة لا تموت... ولكن تعجز عن القيامة

فتحت أبوابها أمام المفكرين المضطهدين وصنعت مجد الستينيات

بيروت بين الواقع والكابوس بعدسة المصور فرانسوا سارغولو (صفحة المصور - فيسبوك)

ملخص

شارع الحمراء في بيروت تحوّل من خليط الشارع التجاري والثقافي إلى شبه ميت، على رغم تجديد العروض الثقافية في عدد من المراكز الفنية

يمكن إجمال مشاعر مجموعة من الأصدقاء الشعراء والمثقفين العرب والأجانب الذين زاروا بيروت فرادى، للاستمتاع بربيعها حين وصفوا ما شعروا به حيال مجريات الحياة اللبنانية، على اختلاف أوجهها الثقافية والسياسية والاجتماعية، بأنها أقرب إلى لا واقعية الأحلام. أو كأن حياة اللبنانيين تدور في منامات أو كما لو أنهم يحيون وقائع وأحداثاً حلمية من دون تشبيه أو مجاز. فكما غرائبية الأحلام وتقاطع أحداثها وعدم ترابطها وصعوبة تركيبها بعضها ببعض وصنع رواية معينة لها، هكذا هي حياة اللبنانيين في هذه الآونة من عمر بلادهم.

أحد الأصدقاء اللبنانيين الذي غاب مديداً في الاغتراب وصف المواطن اللبناني بالسيد "ك" في روايات فرانز كافاكا "المحاكمة" و"المسخ"، فبطل الرواية الأولى يستدعى إلى متاهات المحكمة وبيروقراطيتها الإدارية من دون أن يعرف سبب محاكمته، حتى ينصاع في النهاية إلى تصديق أنه مرتكب لجريمة ما، لا بد. أما بطل الرواية الثانية، فقد استيقظ من النوم ليجد نفسه وقد تحول إلى صرصار منقلب على ظهره، وقد شعر أن حاله هذه أفضل، ليروي أحداث حياته الجديدة من خلال عدسة عيني الصرصار. ولكن يصبح السؤال في هذه الحالة، أي الانسحاقين أصلح لوصف حال اللبنانيين، ذلك الذي يجعل كل منهم مسخاً بمفرده لسبب لا يعرفه، أو انسحاقه بعد امتساخه صرصاراً؟.

الكرامة والشعب العنيد وفسحة الأمل

 

إلا أن الوصف الأدق لحالة اللبنانيين اليوم، يمكن استلاله من مسرحيتي زياد الرحباني اللتين عرضهما في بدايات التسعينيات من القرن الماضي، "لولا فسحة الأمل" و"بخصوص الكرامة والشعب العنيد". وفيهما استشرف عودة اللبنانيين إلى العصر الحجري، على رغم غرابة أن يستشرف مفكر أو فنان مثل هذا الاستشراف الغريب، أي أن يتحول بلد وشعب بأكمله من حال مفترض أنها متقدمة، إلى حال متأخرة. ولكن بمراحل تعيد الكائن اللبناني إلى كينونته البدائية الأولى حيث يتعلم استخدام الأدوات الحجرية والنار والعمل في البحث عن الماء والكلأ كالرحل البدائيين، بلا كهرباء أو وقود أو شبكة إنترنت. إنه تحوّل يكاد يكون واقعياً بحرفيته، لو اعتبرنا أن ما يفرق إنسان العصر الحجري عن الإنسان الحديث هو الكهرباء والماء والتنقل والتقدم التقني وشبكة الإنترنت وإدارات الدولة ومؤسساتها التي تنظم حياته، وعلى رأسها القضاء العادل والتمثيل الصحيح للمواطنين داخل أروقة الإدارة. ومن ثم التمدن والتحضر والتعبير الفني والثقافي عن هوية شعب من الشعوب. وبما أن هذه المتطلبات كلها باتت مفقودة أو شحيحة أو تخضع لبازارات الأسواق السوداء الحرة، المتلاعبة بكل شيء اليوم في لبنان، فإن إنسان العصر الحجري لم يكن أفضل حالاً من لبنانيي هذه المرحلة، وتحديداً فقراءهم، وقد باتوا كثراً بعد انحدار الطبقة الوسطى إلى درجة الفقر، بعد التضخم المالي الكبير الذي يشهده لبنان.

ومن المعروف أن هذه الطبقة تضم غالباً الفنانين والأكاديميين والمتعلمين والموظفين، ومنها تخرج معظم الأفكار والصور والرؤى التي تعبر عن الهوية والثقافة لدى الشعوب. فبعد شيوع كلمات مثل: الانهيار، الفراغ، التعطيل، انفجار المرفأ، المصارف، الأموال المنهوبة، الدعم، رفع الدعم، الكابيتال كونترول، التحقيق الجنائي، الاستحقاقات الدستورية، الكهرباء، التقنين، العتمة الشاملة، ترسيم الحدود البحرية، التطبيع، حقول النفط والغاز، انتخاب رئيس للجمهورية... صار كل شيء بالنسبة الى اللبنانيين اجترار كلام، "حتى الهواء في الشوارع صار كاسداً وخاملاً. ووجوه العابرين في الشوارع تبدو سادرة بلا ملامح. والكلام المتناسل اليوم عن الفيدرالية، واللامركزية الإدارية والمالية، والأمن الذاتي، والتقسيم... وغيرها من صنف آخر في موسم مقبل قريب، فليست سوى كلمات لا تعني شيئاً، في بلاد مختنقة ومقطّعة الأوصال. وها قد تقطعت أوصال الأماكن والأوقات والاجتماع في بيروت الإفلاس الكبير والفقر، فتمزّق نسيجها وإيقاع الحياة اليومية فيها، وذهبت بعيداً في الاختناق والبكم والعزلة والشحوب الذي يكسو وجوه سكانها المتنقلين مبنّجين أو مخدرين ذاهلين في شوارعها الكالحة". كما كتب الروائي اللبناني محمد أبو سمرا، في تحقيقه "بيروت اليباب" في مجلة "المجلة" قبل أسبوع.

بيروت ونهضتها وأفولها

 

عاشت بيروت منذ بدايات القرن العشرين نهضة تعليمية كانت رافعتها الأساسية مدارس الإرساليات وجامعتاها المتنافستان في بيروت، جامعة القديس يوسف للمرسلين اليسوعيين الكاثوليك، والجامعة الأميركية للمرسلين الإنجيليين البروتستانت. وقد تزامنت نهضة التعليم وشمولها أجيالاً متعاقبة، مع نشوء الصحافة وازدهارها في بيروت وجبل لبنان منذ عشايا الحرب العالمية الأولى، قبل أن تشهد توسعاً نوعياً في بيروت غداة تلك الحرب. فبيروت عاشت منذ ما قبل منتصف القرن التاسع عشر، أكثر من نهضة مدينية وسّعت رقعة عمرانها وأخرجته من انكفائه داخل أسوارها القديمة.

"كان عدد سكان بيروت يناهز المئة ألف نسمة في أوائل القرن العشرين، بعدما كان 60 ألفاً في 1836". قفزات تزايد سكان المدينة كانت سريعة ومضاعفة أيضاً، منذ مطالع القرن التاسع عشر. وكان التعليم ركناً أساسياً في نهضة بيروت الحديثة هذه وازدهارها، كما كانت نهضتها وازدهارها من عوامل تنامي التعليم وتوسعه، وشموله النساء وخروجهن من كنف الحياة البيتية والعائلية إلى الفضاء المديني العام. وكان صدور "المكشوف" جريدة لـ"العري" في سنتها الأولى عام 1935، علامة فاقعة ومثيرة لذلك الخروج، قبل أن تصير الجريدة جريدة للأدب والأدباء والكتّاب، شأن عشرات الصحف الناشئة، والمتخذة مكاتب لها كدار للنشر أيضاً، في وسط بيروت المديني المتجدد، منذ مطلع القرن العشرين. واجتمع والتقى وتعارف في مكاتب هذه الصحف وعلى صفحاتها، عشرات وربما مئات من الكتّاب المتعددي الأجيال والتجارب والخبرات.

 

في أواسط الخمسينيات كانت قد اكتملت العدة البيروتية لتجعل من العاصمة الوليدة مركزاً للحرية والأدب، ومحل انتقال الأموال والآراء. واستقبلت المنفيين من بلاد الثورات العسكرية، واستقبلت الفلسطينيين أدباء ومنظرّين، وعرباً كثراً من داعمي القضية الفلسطينية. فـ"النكبة" كانت لا تزال طازجة، تسهم في تفريخ أحزاب قومية وعروبية وماركسية في كل مكان، والاستقطاب على أشده بينها. وكانت بيروت تستقبل المثقفين العرب من كل مكان، وتستقبل أيضاً الفرق الموسيقية والمغنين والممثلين العالميين، وتعيش كل مظاهر اللهو والترفيه. وكانت الحركة الطالبية في بدايات صعودها قبل أن تصبح طرفاً فاعلاً في العمل السياسي اللبناني في السنوات اللاحقة.

قوميات متعددة

كانت كلّ تلك الأفكار، العروبية والقومية واللبنانية، لا تزال في بداياتها، ومن يشارك في نقاشها فإنما كان يشارك أيضاً في صناعتها وبلورتها. وفي تلك الفترة كانت الهيئة التعليمية في الجامعة الأميركية –على سبيل المثال- تتألف من مفكرين ومنظرين وباحثين عرب أو ممن أصبحوا كذلك في ما بعد، ومنهم قسطنطين زريق وشارل مالك ونبيه أمين فارس ونقولا زيادة وسيسيل حوراني واسحق موسى الحسيني وأنيس فريحة.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

وهؤلاء الأساتذة خرّجوا طلاباً صاروا من قادة الأحزاب في العالم العربي، ومن أصحاب المناصب الرسمية في حكومات بلادهم ومن الأدباء والمفكرين، ومنهم جورج حبش ووديع حداد وسمير صنبر وشفيق الحوت ونهاد هيكل وصالح شبل من فلسطين. ومن سورية هاني الهندي وثابت المهايني وعماد حراكي ورياض الأزهري. ومن لبنان خليل حاوي ومُنح الصلح وسليم الحص والياس سابا. وغيرهم كثر. ومن العراق كان يدرس في تلك الفترة مسارع الراوي وحمد دلي الكربولي وهشام إبراهيم الشاوي وباسل رؤوف الكبيسي وحامد الجبوري وغيرهم.

أما في شارع الحمراء الذي لم يتجاوز طوله الكيلومتر الواحد، فكان مقهى "الإكسبرس" القريب من مبنى "النهار" القديم مرتعاً لذوي الثقافة الفرنسية، بينما كان "الهورس شو" ملاذ ذوي الثقافة الأنجلوسكسونية، وكذلك يمكن توزيع الرواد في مقاهي شارع بلس تحديداً في "الأنكل سام" و"فيصل". كان لمقهى "الهورس شو" ومطعم "فيصل" شأن كبير في تأسيس الكتابة الشعرية الجديدة على أيدي سوريين مهاجرين أمثال يوسف الخال وأدونيس ومحمد الماغوط ونذير العظمة وفؤاد رفقة.

في بيروت هذه الأيام يحاول بعض الشعراء إعادة المجد للقراءات الشعرية في الحانات، لكن هذه الجلسات لا تستقطب جمهوراً، وكأنها "فعاليات" قديمة لا تتناسب مع زمن المدينة الحالي المنكب على الانهيارات. أما شارع الحمراء فقد تحوّل من خليط الشارع التجاري والثقافي إلى شارع شبه ميت، على رغم تجديد العروض الثقافية في عدد من المراكز الفنية التي تلقى دعماً من الاتحاد الأوروبي أو من مؤسسات غير حكومية في الغرب، إلا أنها لا تجتذب سوى بعض المهتمين من اللبنانيين والغربيين الذين يعيشون في لبنان.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة