Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

المشهد الشعري العربي يرسخ هويته والأصوات النسائية حاضرة

دواوين ومختارات تتحدى حال الجمود وانحسار القراءة وأحوال العزلة والحجر

الرسام ضياء العزاوي محاوراً الشعر (صفحة الرسام على فيسبوك)

يسعى الشعر الجديد إلى أن يكون فن الالتقاط الدقيق، والتصفية من الشوائب، وقنص الجوهر وسط الركام، وبلوغ الهدف من أقصر الطرق. وفي سبيل تسميته الوجوه والأشياء بأسمائها، فإنه يستبعد الزيف والأقنعة، ويزهد في الفصاحة والمراوغات اللغوية والبيانية، ويعمد إلى الاستغناء والاقتصاد، وتكثيف اللحظة الحياتية الجديرة بالاستخلاص والتفجير بين نثارات المواقف اليومية، وتركيز الخميرة النشطة في السياقات التعبيرية والتخييلية. عطفاً على ضخّ الحالة الإنسانية الزاخمة بسيولتها التلقائية، التي لا تتعارض مع حضور الوعي كعنصر مرن سلس، وليس كقالب هندسي جامد أو كضرورة مدرسية صارمة.

تحت هذه المظلة الرؤيوية والجمالية الواسعة، جاءت عشرات الدواوين التي صدرت في عام 2021، لشعراء عرب من أجيال متلاحقة، حاولوا تطويع جمرات الكلمات، وتطوير إيحاءاتها وظلالها وإشاراتها الكامنة، لإقامة عوالمهم الخاصة الشفيفة، التي تتحدّى المَوات والخراب والدمار والشتات. وتتلمّس التواصل الدافئ الحميم مع المتلقي، هنا وهناك، على الرغم من قسوة الصقيع على الكوكب، ورضوخ البشر لقوانين العزل الصحي والتباعد الاجتماعي لفترات طويلة من العام. ويُلاحظ كذلك، أن الأصوات النسائية قد برزت بشكل لافت ومؤثر في خريطة هذا المشهد الشعري العربي، المنحاز بامتياز إلى خصوبة الحياة واستمرارها.

شَرَك لاصطياد الموت

يستحضر الشاعر اللبناني عباس بيضون في ديوانه "الحياة تحت الصفر" (دار  نوفل) ملامح الإقامة في العزلة، بكل ما فيها من جفاف وجفاء وفقدان وانطواء على الذات. وفي الآن ذاته، يتقصى، على الضفة الأخرى من المتاهة، كيف يمكن أن يصير العالم، أو كيف يعود مثلما كان، بعد زوال الكوابيس وانصراف الأشباح، في زمن "لا يزال يتنفّس ويدمدم".

في ديوانه الجديد الذي يضم مجموعتين هما "يوشك أن يحدث" و"مرآة النائم"، الذي صدر عن دار مسيكلياني ، يوغل الشاعر السعودي أحمد الملا (1961) في عالمه الشعري المتفرد بلغته وصوره وتخييلاته وأبعاده الوجودية، ويرقى في مراتب الخطاب الشعري الهادي والشفيف، والشبيه بالمباشر، من دون أن يكونه، عبر أسلوب قصيدة النثر الذي عرف به منذ التسعينيات من القرن الماضي إلى يومنا هذا.

في ديوانه "ضريح أنّا أخماتوفا" (الهيئة العامة لقصور الثقافة) ينصب الشاعر المغربي حسن نجمي شركاً لاصطياد الموت، إذ يبدو للوهلة الأولى كأنه يستسلم له، متوقفاً عند قبر الشاعرة الروسية "أنّا أخماتوفا" والكثير من الأضرحة والجنازات للأهل والأصحاب والمبدعين والرموز التاريخية. لكنه في حقيقة الأمر يكتب قصائده لكي يزيح هذا الموت بعيداً، أو يروّضه، لتتنفّس الحياة وتشرق الشموس وتزهر أغصان الأمل "تحمل الريحُ أغنياتي لتوزّعها على المنازل".

ويسعى الشاعر المصري سمير درويش في ديوانه "ديك الجن" (دار ميريت،) إلى فتح آفاق للدهشة، ومغازلة القارئ البسيط من دون تَعالٍ على تصوراته، ويستخلص أنفاساً بالغة الحيوية والتدفق من تفاصيل اعتيادية ولحظات مجانية، محرراً قصيدة النثر من وضعيتها المألوفة كناقلة للحدث المتوقع، وذلك بعد أن "أخذته المدن وناسها والعمارات المتشابهة".

الشاعر العماني زاهر الغافري صدر له هذا العام ديوان بعنوان "هذيان نابليون... ولعلنا سنزداد جمالاً بعد الموت" (دار خطوط وظلال). وفيه يواصل الغافري لعبته الشعرية المميزة بطرافتها وسخريتها السوداء ومأسويتها الوجودية. وقدّم له الشاعر أدونيس قائلاً عنه: "يدخل الغافري إلى هذا العالم طارحاً تساؤلات لا يعرف أحد أن يجيب عليها، ذلك أنه يدخل شاعراً، لا أيديولوجياً، ولا دينياً، ولا سياسياً ومثل هذه التساؤلات أساس أولُّ لكل شعرية خلّاقة".

مشهد ماسوي

وفي الذكرى السنوية الأولى لانفجار مرفأ بيروت أصدر الشاعر عقل العويط ديوانين شعريين الأول هو "الرابع من آب 2020" (دار شرق الكتب، 2021)، وسعى فيه إلى جعل حادثة انفجار مرفأ بيروت حدثاً في قلب اللغة، فإذا الشعر شاهد وشهيد في آن واحد، يشهد للحادثة الرهيبة ويعيشها في الصميم، جاعلاً من القصيدة حيزاً لغوياً وبصرياً، حسياً ومجازياً، تنعكس في ثناياها أو طبقاتها، اللحظة المأسوية الرهيبة. والثاني هو "آب أقسى الشهور يشعل الليلك في الأرض الخراب" (دار نلسن، بيروت) وفي هذه القصيدة يعارض قصيدة ت. س. إليوت الشهيرة "الأرض الخراب" مسقطاً طابعها المأسوي على بيروت الجريحة والمهدمة. وفي الذكرى الأولى لانفجار مرفأ بيروت أيضاً قدّم الشاعر عبده وازن كتابه الشعري " بيروتشيما: بيروت 4 آب/ أغسطس الساعة السادسة مساءً" (منشورات لانسكين، فرنسا) بثلاث لغات: العربية، الفرنسيّة بترجمة أنطوان جوكي، والإنجليزيّة بترجمة بول ستاركي، ويتضمن الكتاب قصيدة واحدة ذات نفس ملحمي يستحضر فيها وازن المأساة واقعياً وتخييلياً وتعبيرياً راسماً مشهداً تراجيدياً للناس والمدينة ومعالمها.

وأصدر الشاعر الفلسطيني نجوان درويش ديوانه "كرسي على سور عكا" (المؤسسة العربية ودار الفيل)، وبدا الديوان متميزاً بصوت شعري مجروح مشبع بالألم والقلق والخوف. لكن درويش الذي يعد من أبرز الأصوات الشعرية الفلسطينية الشابة، يكتب قصائده بروح المواجهة، مواجهة العالم القاسي والمستبد، باللغة والصور المجازية واللغة الكثيفة والعالية.

وفي ديوانه "الوداع في مثلث صغير" (المتوسط/  ميريت)، يسكن الشاعر المصري أحمد يماني قصيدته بوصفها طوق نجاة أو كبسولة للارتحال، خارج وجود ضيّق "لم يعد يسمع فيه أحدٌ سوى الصرخة المرعبة". وتأتي كهرباء الحالات الشعرية، ببراءتها ووهجها وشحناتها الطازجة، لتحاول إصلاح الإخفاقات الحياتية، وفك شيفرة الارتباكات الملغزة.

وفي "كتاب الحدوس" (خطوط وظلال، عمّان) يوظّف الشاعر الأردني علي العامري نصوصه كموتيفات مفتوحة على الأنساق الإبداعية المتنوعة، ليستدعي من خلالها العشق والسحر والأسطورة والمستحيل من أجل "تأثيث بيت النشيد، ولمس روح الأبد"، وتشكيل واقع جديد ملموس، هو أقرب من حبل الوريد، لكنّ اكتشافه بحاجة إلى الكتابة، والحدس.

وبعنوان "عندنا الآهة والأغنية وجارنا المطرب الصدى" (نلسن، بيروت)، يأتي ديوان الشاعر اللبناني شوقي أبي شقرا، محتضناً الفانتازيا الشعرية، التي تجعل التفاعل مع الفظاظة مقبولاً، والسير من دون حذاء فوق الأشواك ممكناً، فلربما "لا تنطبق جفون الصباح"، ولربما قد تتمكن حمامة من أن تتوقف قليلاً فوق "تمثال الوحشة".

وفي المختارات الشعرية "ثلاث ليالٍ سويّاً"، للشاعر الأردني الراحل جريس سماوي، تمضي النصوص صوب استبطان الداخل الإنساني، وتعرية الروح، وتعبئة الحالة بالروائح الطيّبة والعطور الغامضة، لتطهير الذات، والصلاة لأجل الوطن، وإيجاد تراب وسماء مختلفين، من خلال الكتابة الصوفية، حيث يتزوج الشاعر القصيدة، و"يدخل إلى جسدها المضيء، ويشتعل".

خارج الوقت

وفي ديوانه "أيها الهواء يا قاتلي" (خطوط وظلال)، يقترح الشاعر اللبناني شربل داغر فرصاً للهرب من الخطر، ويطرح منافذ للنجاة من الغرق، وذلك بواسطة التمدد خارج الوقت، وضرب مواعيد مع الحظ، وافتراض القدرة على تخليص الحياة من تعقيداتها وترتيباتها "دَعْني، أيها الوقت، لا أعبأ بالوقت".

كما يقدّم المصري محمد أبو زيد في ديوانه "جحيم" (روافد)، الذي أعيد نشره بعد فوزه بجائزة الدولة التشجيعية في الشعر في مصر كأول ديوان قصيدة نثر ينال هذا الاستحقاق، تعريفه الخاص للشعرية، كحال انقضاض على السكون المحيط. فمثلما أن الحياة هي قفزة خارج الرتابة والملل، فإن الديوان الشعري هو الذي "يقضم أصابع اليد التي تمتدّ إليه لكي تُمسك به".

وفي ديوانه "في النور المنبعث من نبوءة الغراب" (الجمل)، يفتش الشاعر العماني سيف الرحبي عن شرارات ابتعاث الإرادة الإنسانية وإيقاظ الأمل، بعد انخراط طويل للبشرية في المخاوف والسواد والامّحاء والرضوخ للوحوش الضارية "سأمضي بكل هذه العزيمة الجريحة، ميمماً شطر جزيرة القرش".

بدوره، يتقصى الشاعر العراقي عبّود الجابري في ديوانه "أثر من ذيل حصان" (اتحاد الأدباء، بغداد) بقايا مظاهر الحياة قبل أن تدكها الزلازل وتطمسها البراكين، متحدّياً بأجنحة القصيدة آلات الحرب الطاحنة والحدود الجغرافية والأسلاك الشائكة، ليصل إلى أنه بالمقاومة المستمرة "يمكن للدم أن يبدو أخضر، على طين جلودنا".

وفي ديوانه "الشظايا الخمسمائة... أين يمضي الذي لا تلمَسهُ يداي؟" (المدى، بغداد)، يجتذب الشاعر السوري سليم بركات "البرق من شَعره" عبر ومضاته الخاطفة، مستعيناً على قياس زوايا عالمه الخاص بفرجار الشك، وناحتاً ما يصادفه من صخور، فلربما صارت هناك وسيلة للمضي قدماً في الحياة، وبلوغ "تعريف الإنسان".

وكذلك، يطارد الشاعر البحريني أحمد العجمي في ديوانه "يضعُ العَمَى مكانَ الكتاب" (إصدار خاص) ألغاز الوجود بنصوص بصرية، مستلهماً أسرار الأضواء والحروف، وناسفاً حزام المعاني الكاملة، وراجياً عودة الكائن الآدمي الأوّل، ليعجن الضوء بيده الطينية، غير ملتفت إلى بندول الساعة العصرية.

وفي ديوانه "سيارة من الأناناس وسائق صغير من الفراولة" (الهيئة العامة لقصور الثقافة)، يستعين الشاعر المصري عصام أبو زيد بالعوالم الغرائبية والسحرية كفضاءات بديلة مبهجة، ويخلق بالصور المرحة البريئة والسوريالية واقعاً موازياً مليئاً بالصخب والورود والثمرات اللذيذة والضحكات المجنونة، في لعبة "الرقص فوق الماء، والترويج السريّ للعواطف".

حضور نسوي وأنطولوجيات

ويأتي الحضور البارز للأصوات النسائية، كمّاً وكيفاً، كأحد ملامح الحركة الشعرية في 2021، فقد صدرت مجموعات شعرية كثيرة متميزة للشاعرات العربيات، منها: "مقهى لا يعرفه أحد" (زيزي شوشة)، و"الاعتراف خطأ شائع" (رضا أحمد)، و"بحّة في عواء ذئب" (آلاء فودة)، عن (الهيئة المصرية العامة للكتاب)، وكذلك "حين أردتُ أن أنقذ العالم" للشاعرة جيهان عمر (دار المرايا، القاهرة)، و"أرني وجهك" للسورية لينا شدود (الدراويش، ألمانيا)، وغيرها.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

وتواجه هذه الكتابات النسائية تحجّر العالم، ويبوسة أرضه، وبؤس وقائعه المكرورة، بحفرها اللاهث في اتجاه الانزياح والتمرد، على مستوى خلخلة النمطي والجاهز والمعلّب في جماليات الكتابة وأدواتها ولغتها وخيالاتها وصورها من جهة، وعلى مستوى تجاوز الأفكار السائدة حول اقتران الأدب النسوي على نحو مباشر بقضايا المرأة القريبة ووضعيتها المجتمعية وصراعها مع الرجل وما إلى ذلك من جهة أخرى، إذ تنصهر مثل هذه المسائل في الكتابة الشعرية النسائية الجديدة مع قضايا إنسانية أكثر اتساعاً وشمولية وعمقاً، على رأسها نشدان الحرية كمطلب أوّل للبشر، لكي يتمكنوا من "أخذ حقهم من الحياة"، كما تتمنى زيزي شوشة في إحدى قصائدها.

وعلى صعيد آخر، فقد شهد عام 2021 صدور بعض الأنطولوجيات الشعرية المهمة، منها على سبيل المثال "30 حاسة جديدة - ‏مختارات من قصيدة النثر  السعودية"، التي جمعها وأعدّها الشاعر السعودي محمد خضر الغامدي (نادي الطائف الأدبي، ودار ميلاد)، وهي تعكس بأمانة أبرز نتاجات شعراء قصيدة النثر في السعودية خلال نصف قرن، وتكثف الضوء على تجارب أولئك الذين حاولوا مفاجأة الحواسّ وإحداث حراك فني واجتماعي في آن، بداية من الشاعرة فوزية أبو خالد في منتصف السبعينيات، بوصفها أيقونة الكتابة الطليعية، وصولاً إلى أحدث تمثلات اللحظة الحالية، وكتابات الشباب.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة