Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

كيف ابتلع عنف البراري عاصمة السودان؟

بدت الخرطوم فريسة لم تتوفر لها الحماية اللازمة كما مثلت هدفاً اجتماعياً بعد أن فقدت توازنها المجتمعي

ليس من المؤكد أن "قوات الدعم السريع" ريفية الطابع تدرك أن المدن عموماً تمثل أحد اهتمامات السياسة العالمية (أ ف ب)

ملخص

خلق تدفق النازحين من الحروب والفقر في الأقاليم البعيدة إلى الخرطوم بيئة خصبة للتعبئة الاجتماعية المناوئة لسكان العاصمة، وتلك هي الحقيقة الواضحة.

كان العنف السياسي يتم بعيداً من المدن حتى مع استمرار النمو السكاني الحضري بوتيرة غير مسبوقة في مناطق الحروب في السودان. وأكثر من نصف أحداث العنف خلال العقود السابقة في حربي الجنوب ودارفور وقعت في مناطق ريفية، لأن الحركات المتمردة بطبيعتها حركات ريفية ولدت من رحم الهامش، وبذا اكتسبت الحرب طابعاً ريفياً. وبتغير أنماط الاستيطان بشكل أساسي مع ما يترتب عليه من آثار على النظام الاجتماعي والسياسي والاقتصادي تكشفت العلاقة بين العنف السياسي والمدن عن وجود أنماط من العنف تنمو بسرعة في السودان، بينما في دول الجوار حدث العكس، حيث اتخذت الحرب هناك دورتها في المناطق الحضرية والمدن ثم تحولت إلى الأرياف.

هذه العلاقة ليست مفاجئة بالنظر إلى أهمية العاصمة الخرطوم كموقع لسلطة الدولة والنشاط السياسي والاقتصادي والاستثمار والجامعات وغيرها، إذ عمل النظام السابق عبر ثلاثة عقود على استغلال عديد من عوامل الجغرافيا السياسية، حيث كانت النزاعات الأهلية التي دارت في إقليمي جنوب السودان ودارفور متركزة بشكل أساسي في المناطق الريفية. ولأهمية المدن التي يبدو أن الجماعات المتمردة تضع عينها عليها منذ زمن ستظل المناطق الحضرية نقاطاً محورية مهمة للحروب، فإن انتهت في الخرطوم ربما تنتقل إلى مدينة أخرى، ورأينا في الفترة الماضية عدداً من الصراعات بين قوات الجيش والدعم السريع في مدن الأبيض والجنينة والفاشر وبورتسودان.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

قامت قوات الدعم السريع الآتية من دارفور باحتلال المنازل في أرقى أحياء العاصمة السودانية الخرطوم، سواء بكسر الأبواب المحصنة أو طرد ذويها منها، وبثت عدداً من الفيديوهات تصور طريقة نهب هذه القوات للممتلكات من سيارات وأجهزة كهربائية ومدخرات شخصية، وما لم تستطع سلبه تقوم بتخريبه أو حرقه.

لم تكن هنالك حدود للقتال، فمن خلال محاولات الاستيلاء التدريجي على الخرطوم، انتهكت قوات الدعم السريع أملاك المواطنين وأعراضهم، بحسب ما نقلت منظمات ووسائل إعلام مستقلة. بدت الخرطوم مثل فريسة لم تتوفر لها الحماية اللازمة، كما أنها مثلت هدفاً اجتماعاً، إذ فقدت في الفترة الماضية التوازن المجتمعي المرتب والمستقر، فغير الداخلين إليها في قوات محاربة، هنالك الأحياء العشوائية على أطرافها وهي ممتلئة بالنازحين من الحرب في دارفور، وجبال النوبة واللاجئين من بعض الدول الأفريقية، الذين تحول كثير منهم إلى عصابات "النيغرز". وأصبح كثير منهم أيضاً بعد بداية الحرب إما ضمن قوات الدعم السريع أو موالين لها ومستفيدين من تجاوزاتها. وشوهدت فيديوهات لعمليات كسر قوات الدعم السريع للبنوك المحصنة أو خزانات المؤسسات العامة والخاصة، لتأخذ الأوراق المالية ذات الفئة الكبيرة وتترك ما تبقى لعصابات "النيغرز" والفارين من السجون.

صفقة اقتصادية

اتخذ اندلاع الحرب في العاصمة الخرطوم أبعاداً كثيرة سياسية واقتصادية واجتماعية وعاطفية، إذ يمثل مكان اندلاعها أهمية مختلفة عن غيرها من المناطق، وذلك لأسباب عدة. الأول أنها مدينة مكتظة بالسكان واستطاعت أن تستحوذ على أهمية متفردة عن كل المدن السودانية الأخرى سياسياً واقتصادياً ورمزياً، فارتبطت مؤسساتها بسيادة السودان، ومبانيها العريقة بتاريخ البلاد الوطني في فترتي الاستعمار ثم الاستقلال، مما جعل تأثير الحرب وسيرها وحجم الدمار أكبر وأعظم أثراً مما حدث في أي مدينة أخرى. أما الثاني، بمقدار الحرص الذي لمسته قوات الدعم السريع من الضربات الأولى للجيش التي تفادت المناطق المأهولة بالسكان، كان الدمار، وذلك لأن هذه القوات اكتشفت منذ اللحظة الأولى أنه يراد إخراجها من الأحياء السكنية حتى يتم الهجوم عليها، فحفزها ذلك على التوغل في منازل المواطنين والمستشفيات وبقية المؤسسات. ولم تتردد قوات الجيش طويلاً فوقع الهجوم على الأحياء السكنية والمباني وسبب أضراراً هائلة، ولذلك كانت استراتيجية الصراع مختلفة تماماً في الخرطوم عن ما عداها من مدن بعيدة.

أما السبب الثالث، فإنه ليس من المؤكد أن "قوات الدعم السريع" تدرك أن المدن عموماً ومن بينها الخرطوم تمثل أحد اهتمامات السياسة العالمية سياسياً أو اقتصادياً، وتعدها الأمم المتحدة أحد محركات التنمية، لذلك عندما ينشأ النزاع في المدن سرعان ما تضغط المنظمات الدولية على الحكومة لعقد تسوية ما لاقتسام السلطة والثروة، مثلما حدث في حرب جنوب السودان حين انتقل النزاع وشمل منطقة أبيي الغنية بالنفط ومدن أخرى أو على أقل تقدير اقتسام الثروة، وفي هذه الحال تتحول الأزمة السياسية إلى صفقة اقتصادية، مثلما حدث من تسليم حكومة السودان منجم الذهب بجبل عامر في دارفور إلى قائد قوات الدعم السريع في وقت سابق. وبهذا نجد أن المشكلة السياسية تم تقليصها إلى صفقة اقتصادية، في ظل الحاجة إلى تدخل الدولة وتعظيم المنفعة الجماعية. وحتى لو اكتفت قوات الدعم السريع بالذهب لبرزت جماعة أو جماعات أخرى تطالب باقتسام الثروة والسلطة معاً.

فجوة حضرية

على مدى خمسة عقود شهد السودان حروبه الأهلية في أشكال عدة ومراحل مختلفة من تصاعد العنف. وأثبتت ديناميات الصراع العنيفة على رغم بعده عن العاصمة الخرطوم، أن الحرب لا تفارق هذا البلد، حتى ولو تحولت من مكان إلى آخر، وعندما بدأ النزاع ينشب في المدن الكبرى في الأقاليم البعيدة، كان ذلك جرس الإنذار إلى تحول الصراع من عنف ريفي إلى حضري.

تجارب الحكم السودانية، جاءت على عكس العلاقة بين نشوء المناطق الحضرية والاستقرار، بأن ربطت بين خلق علاقة بين التمدن الناشئ وديناميات الصراع العنيف، كما أبرزت الحاجة إلى سد "الفجوة الحضرية"، إذ لعبت الخرطوم كمركز حضري موقعاً حاسماً للتحولات السيسيولوجية والجيوسياسية، واستدعت الديناميات الإقليمية للعنف السياسي والحرب الطويلة في دارفور خصوصاً، ولعبت دوراً جوهرياً في الحكم العسكري والصراعات الإثنية على الموارد (الأرض والماء والنفط والذهب)، وعلى المكتسبات الحديثة (الأملاك والمنازل الفخمة والأملاك من سيارات وغيرها).

هنالك عوامل عدة أدت إلى نشوء علاقة بين التوزيع غير المتوازن والعادل للتنمية، والعنف، أولاً لأن مؤسسات الدولة الضعيفة فنياً ويلازمها سوء التخطيط، إذ ركزت الحكومات المتعاقبة في السودان على المركز وأفقرت الهامش وهو المنتج الأول للموارد. ثانياً، في كل الحقب السياسية خصوصاً في النظام السابق، يعين الولاة على الأقاليم بمخصصات كبيرة، بينما يقيمون في العاصمة الخرطوم بأسرهم وحاشياتهم، ويستغلون أرتالاً من السيارات الحكومية لكل أفراد الأسرة. ثالثاً، خلق تدفق النازحين من الحروب، ومن الفقر في الأقاليم البعيدة إلى الخرطوم بيئة خصبة للتعبئة الاجتماعية المناوئة لسكان العاصمة، وتوليد العنف المجتمعي الذي تآزرت آثاره مع العنف الذي تمارسه قوات الدعم السريع. رابعاً، إحلال سكان قادمين من الأقاليم البعيدة محل السكان الأصليين بدأ في السنوات القريبة الماضية، لكنه لم يثر حفيظة أحد باعتبار أن ما تم هو عملية بيع وشراء عادي وليس هنالك ما هو غير قانوني، لكن اللافت في هذه العمليات أن عائلة قائد قوات الدعم السريع محمد حمدان دقلو (حميدتي) وأنسابه وعدد كبير من قبيلته تملكوا أراضي ومنازل في مناطق حيوية، استبدلها أهلها الأصليون بمبالغ تفوق سعرها الحقيقي أو تمت مقايضتها بأراض أخرى في أطراف العاصمة، إضافة إلى مبالغ مالية. ومن خلال هذه الاستراتيجية سيطرت قوات الدعم السريع على مساحات شاسعة من العاصمة وفي مناطق حيوية ومأهولة.

هوية التنمية

تجادل النخبة بأن الصراع الاجتماعي الذي ظهر في المنطقة وجسدته الحروب الأهلية في أفريقيا، وأحداث "الربيع العربي" كان غائباً عن التيار السائد للاقتصاد السياسي، وأنه منذ أن فسر آدم سميث "العلم الذي يتعامل مع الثروة والسياسة لتحديد العلاقات القائمة بين الحكومة وشعبها، مع فصل ميداني بين علم الاقتصاد والسياسة مما منع علاج النزاعات من داخل الاقتصاد، وحبس الاقتصاد في الأنشطة الإنتاجية للثروة وتوزيعها واستهلاكها"، فإن هذا ما حدث نزولاً عند الحرب السودانية الحالية، فمنذ عقود كان الاقتصاد مقتصراً على إنتاج الثروة، وسمح بنمو "القوة التدميرية" للأفراد والجماعات المهمشة، كما لم يوفر الحماية التي من المفترض أن تقدمها الدولة لمواطنيها مقابل الضرائب والزكاة التي كانت تحصلها أيضاً حكومة "الإنقاذ"، وهي غير الزكاة المفروضة دينياً التي يدفعها المسلمون بطريقتهم الخاصة، وأصبحت الدولة نفسها هدفاً للعدوان، واستعملت قوات الدعم السريع الحرب لابتزاز المواطنين والدولة معهاً.

في دراسة عن "تحديد هوية الاقتصاد السوداني" ذكر إبراهيم الكرسني الأستاذ السابق في كلية الاقتصاد بجامعة الخرطوم، أنه "منذ استقلال السودان السياسي عام 1956، ظل الصراع بين القوى الاجتماعية المختلفة يدور حول قضية التنمية. وهذه القضية الجوهرية المهمة لم تكن محور الصراع بين القوى الاجتماعية المختلفة وحدها بل أضحت محوراً للصراع بين الحكومات المدنية والعسكرية أيضاً".

وأوضح الكرسني "لقد نادت الأحزاب السياسية المختلفة بطريقين لتنمية البلاد، الأحزاب التقليدية المحافظة بطريق التنمية الرأسمالي وذلك بتشجيع قيادة رأس المال الخاص لعملية التنمية الاقتصادية والاجتماعية، وقد أدت إلى نمو أسرع في معدلات التخلف في السودان. أما الأحزاب الراديكالية فنادت باتباع طريق التنمية الاشتراكي الذي يهدف إلى رسم وتنفيذ خطط قومية متكاملة تحت توجيه القطاع العام".

وخلص إلى أن "استراتيجيات التنمية التي تم تنفيذها منذ الاستقلال كان لها محتوى طبقي محدد هو تعبير عن تبعية النظام الاقتصادي بالضرورة لنظام الاستعمار الجديد".

عسكرة الاقتصاد

في كتابه "سوسيولوجيا الحرب والعنف" وجد الباحث في علم الاجتماع سينيشا مالشيفيتش، أنه على رغم الإدانة المجتمعية للعنف بتحريمه دينياً وإدانته قانونياً واستنكاره أخلاقياً، فإنه موجود هنالك في الثقافة الشعبية لمجتمع ما وفي كتب التاريخ ووسائل الإعلام وغيرها. وربط كثيرون بين تعظيم العنف في نظام حكومة "الإنقاذ" وتصويره على أنه نوع من "الجهاد المقدس"، ثم ممارسة الشيء ذاته في دارفور، وبين العنف الريفي الحاصل الآن. فبينما صنفت الحرب في جنوب السودان (سياسية – دينية)، تم تصنيف الحرب في دارفور على أنها (سياسية - اجتماعية). وعلى رغم أن قوات الدعم السريع كانت هي ذراع الجيش السوداني لمحاربة الحركات المسلحة المتمردة ذات الجذور الأفريقية، بناء على الفوارق الموجودة أصلاً بين (عرب - وزرقة)، سرعان ما تعمقت هذه الفوارق بينها والجيش بل بينها والمركز كله، وطفقت تبحث عما ظنته حقوقاً مسلوبة ووضع اجتماعي مميز في بيوت المواطنين.

يرى مالشيفيتش أن الفكر الاجتماعي الغربي الحديث قصد تجاهل الحرب كظاهرة مستقلة بذاتها، بل وتحييده معها الفكر الاجتماعي التقليدي – الحربي، في قوله "إن الفكر الاجتماعي الكلاسيكي لم يكن في العموم متجاهلاً للحرب والعنف، وإنما هيمنة النظرية الاجتماعية - ضد العسكرية - في النصف الثاني من القرن الـ20 هي التي طهرت السيسيولوجيا من دراسات الحرب، وذلك عن طريق تجاهلها للتقليد السيسيولوجي الحربي الثري، وإعادة تأويل الأعمال الكلاسيكية وفق معايير سلمية على نحو صارم في الوقت عينه".

ربما تكمن المقاربة الأنصع هنا في ما يتعلق بعسكرة الاقتصاد في السودان كإحدى أدوات هذه الحرب، وهو ما رآه مالشيفيتش حين أكد أن التنظيم الاجتماعي لبعض الدول ناتج من الحرب، وذلك في وصفه لروسيا القرن الـ19 بأنها "لم تكن دولة تملك جيشاً، بقدر ما كانت جيشاً يملك دولة". وهذه الرؤية تشبه تجاهل سميث ومن بعده للعلاقة بين الاقتصاد السياسي والحرب حتى أصبحت واقعاً معيشاً.

اقرأ المزيد

المزيد من تحلیل