Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

أردوغان يحقق انتصارا روسي الطابع

تتحول تركيا من ديمقراطية غير ليبرالية إلى أوتوقراطية تنحو إلى التزام نهج بوتين في الحكم

الرئيس الروسي فلاديمير بوتين ونظيره التركي رجب طيب أردوغان في موسكو، مارس 2020، (بافيل جولوفكين/ رويترز)

في 28 من مايو (أيار)، فاز الرئيس التركي رجب طيب أردوغان "الذي لم يذق طعم الهزيمة أبداً في انتخابات" على خصمه كمال كليتشدار أوغلو في جولة الإعادة في الانتخابات الرئاسية التركية. كان أردوغان في موقع القيادة في تركيا منذ عام 2003، وتقلد في بادئ الأمر منصب رئيس الوزراء، ثم تولى سدة رئاسة الجمهورية منذ عام 2014. ويمنحه فوزه الأخير ولاية رئاسية جديدة مدتها خمسة أعوام. وإلى جانب فوز أردوغان الكاسح في الانتخابات البرلمانية في الـ 14 من مايو التي أسفرت عن حصول الأحزاب اليمينية والتيارات اليمينية المتطرفة الموالية له على غالبية ساحقة في المجلس التشريعي للبلاد، يكاد انتصاره يتوّجه سلطاناً مطلق اليد من دون أي منازع.  

لقد تحدى أردوغان تقييم كثير من المراقبين الغربيين الذين توقعوا أنه سيواجه صعوبة في الحفاظ على موقعه في الحكم، وأثار مسار فوزه اليسير نسبياً المؤدي إلى إعادة انتخابه أسئلة بعيدة الأمد حول مصادر سلطته. ففي مواجهة اضطرابات اقتصادية طال أمدها والاستجابة الكارثية لزلزال مدمر والمعارضة التي وحدت صفوفها حديثاً، احتل أردوغان الصدارة بكل سهولة في الجولة التمهيدية من التصويت. ثم بعد أن حصل على غالبية جديدة لائتلافه الحاكم في البرلمان وهاجم كليتشدار أوغلو من دون أي رادع، انطلق أردوغان نحو النصر. علاوة على ذلك، كانت نسبة المشاركة عالية بشكل عام، وبدا أن الانتخابات كانت حرة إن لم تكن نزيهة، بالنظر إلى قدرة أردوغان على تحديد المعايير الإجمالية التي جرت فيها المنافسة. وبعد 20 عاماً من الحكم الذي ازداد استبداداً يوماً بعد يوم، لم يتمكن أردوغان من التشبث بمنصبه فحسب، لا بل صار أشد قوة ومنعة ربما من ذي قبل.

في الأعوام الأخيرة، قارن المحللون غالباً نهج أردوغان في السلطة بنهج القادة غير الليبراليين الآخرين في الديمقراطيات الأوروبية، من بينهم رئيس الوزراء المجري فيكتور أوربان، الذين استخدموا مزيجاً من النفوذ المؤسساتي [النابع من مناصبهم الرسمية] والإجراءات الشعبوية من أجل الحفاظ على الدعم الواسع والتلاعب بالنظام لمصلحتهم. واستناداً إلى النظرية المطروحة، لا تعد تركيا دولة أوتوقراطية بحتة، بل هي بالأحرى ديمقراطية سقطت في أيدي زعيم استبدادي وكانت تحاول أن تنبعث وتعود من جديد لسابق عهدها. وعليه، طالما أن أردوغان قادر على تحقيق الازدهار والرخاء للطبقات الوسطى في تركيا، مما يجعل عامة الأتراك، والمتدينين منهم [غير العلمانيين]، يشعرون بأنهم مركز البلاد، وطالما أنه قادر على زرع الشقاق في صفوف المعارضة وتشتيتها وإحكام سيطرته على القضاء ومؤسسات ومصادر السلطة الأخرى، فإن قبضته على السلطة ستكون محكمة وآمنة. لكن يبدو أن أردوغان يقف الآن أمام منعطف جديد ومختلف. في الفترة التي سبقت انتخابات مايو، لم يكن بإمكانه الاعتماد على نجاحات اقتصادية أو معارضة منقسمة. ومن الناحية النظرية، كانت لدى الأتراك أسباب كثيرة تجعلهم غير راضين عن زعيمهم وتدفعهم إلى دحر حكمه المعتمد على القوة والعنف. ولكن ليس هذا ما حدث.

في الواقع، تشير نتائج انتخابات مايو إلى أن تركيا هي أقرب الآن إلى دولة أوتوقراطية أوروآسيوية منها إلى دولة ديمقراطية أوروبية غير ليبرالية. وأحد الأسباب هو أن مقاربة السلطة الانتخابية التي ينتهجها أردوغان أصبحت تشبه بشكل متزايد تلك التي يعتمدها نوع مختلف كلياً من القادة: ومنهم الرئيس الروسي فلاديمير بوتين. تماماً كما فعل الأخير في روسيا، كان أردوغان قادراً على تحديد معايير الانتخابات قبل وقت طويل من عملية الاقتراع. خلال موسم الحملات الانتخابية، ألقى القبض على أهم قادة المعارضة ونشطاء المجتمع المدني، وشوّه صورة أحزاب المعارضة باعتبارها تتعاطف مع الغرب وتخطط لانقلاب وتتحالف مع الإرهابيين، ولعب على وتر رهاب المثلية [لعب بطاقة رهاب المثلية]. (قال أردوغان ذات مرة إن "كل الذين في المعارضة ينتمون إلى مجتمع الميم"، وبدا في ذلك مثل الرئيس الروسي إلى حد كبير).

وعلى نحو أقل قسوة إلى حد ما من نهج بوتين في كم صوت زعيم المعارضة الروسي أليكسي نافالني، عمد أردوغان أيضاً إلى تهميش الشخصية الوحيدة القادرة على هزيمته ربما، عمدة إسطنبول أكرم إمام أوغلو الذي اتهم بـ"إهانة مسؤولي الانتخابات" ويواجه دعوى قضائية تهدد بفرض حظر على خوضه عالم السياسة. (نتيجة لذلك، لم يكن أمام إمام أوغلو من خيار سوى البقاء بعيداً من السباق الانتخابي تجنباً لحظر شامل من شأنه أيضاً عزله من مكتب رئيس البلدية). في غضون ذلك، وصف أردوغان المعارضة بـ "الفاسقة" وهاجم خصمه كليتشدار أوغلو باعتباره "جباناً وشخصاً عديم الأخلاق، لا قيمة له ولا يعتد به، وخائناً".

وسار أردوغان في المنحى [البوتيني] نفسه، وبسط سيطرته شبه الكاملة على وسائل الإعلام التركية من أجل تشتيت الانتباه عن الانتخابات نفسها، وحظر بشكل فاعل أي مناقشة للقضايا الحرجة مثل الزلزال والاقتصاد والفساد الحكومي. وفي جوهر الأمر، فعلى غرار ما فعله بوتين، تمكن أردوغان من الاستفادة من موقعه الحالي ومن سيطرته على المعلومات وقدرته على أن يصور نفسه على أنه رمز لعظمة التوسع الوطني، إلى درجة همشت المشاغل الانتخابية العادية.

في الواقع، أمضى أردوغان معظم الأعوام السبعة الماضية في توطيد العلاقات مع روسيا ومحاكاة إستراتيجيات بوتين من أجل الحفاظ على السلطة. وبالنظر إلى أن أردوغان كان معروفاً في الأعوام الأولى التي أمضاها في منصبه بأنه زعيم معتدل سيكبح جماح جنرالات تركيا ويدخل البلاد إلى أوروبا، وبالنظر إلى موقع تركيا في "الناتو"، فإن ميله الشديد أخيراً إلى روسيا يعتبر أكثر مدعاة للتعجب. بالطبع، كان أردوغان خبيراً إستراتيجياً سياسياً فطناً قبل فترة طويلة من الانتخابات الحالية، وفي الوقت نفسه، فإن مقاربته للسلطة تستوحي وتستقي من مصادر أخرى. لكن إعادة انتخابه، على رغم الصعاب الشديدة، ربما تكون منعطفاً حاسماً: قد يظل أردوغان في السلطة الآن لسنوات طوال مقبلة، وقد يحمل الدور المتنامي للرئيس الروسي، بصفته داعماً ونموذجاً يحتذى به، رؤى أساسية حول ما ستعنيه ولاية أردوغان الجديدة بالنسبة إلى مستقبل تركيا.

الحل البوتيني

على رغم أن استدارة أردوغان نحو بوتين قد تعاظمت على نحو تدريجي، إلا أنه يمكن إرجاع أصولها إلى محاولة الانقلاب الفاشلة التي حدثت في تركيا عام 2016. كانت هذه من أكثر اللحظات أهمية في عهد أردوغان، ومرحلة سيطرت عليها حال شديدة من غياب اليقين استغلها بوتين لاستمالة زعيم تركيا إليه. في ليلة الـ15 من يوليو (تموز) 2016، حاول متآمرون في القوات المسلحة التركية إطاحة أردوغان والسيطرة على البلاد. بيد أن أردوغان الذي كاد يفقد حياته، ظل ممسكاً بزمام السلطة واستعاد السيطرة لكنه أصيب بصدمة شديدة. وبعد أقل من أسبوعين، دعاه بوتين إلى اجتماع في سان بطرسبورغ. بالنسبة إلى الزعيمين، كان اللقاء بمثابة نقطة تحول خلفت بصمة وغيرت قواعد اللعبة.

في نظر مراقبين كثيرين، شكّل هذا الاجتماع مفاجأة: فبالعودة للعهد العثماني، كانت روسيا هي العدو التاريخي لتركيا، وخلال الحرب الدموية التي شنّت بالوكالة في سوريا، كان كل من أردوغان وبوتين خصمين في طرفين نقيضين، وكان الأول يدعم القوات التي حاولت إطاحة نظام الأسد فيما أرسل الثاني قوات روسية لحمايته. ولكن قادة حلفاء تركيا في "الناتو" استغرقوا وقتاً أطول قبل أن يوجهوا دعوة مماثلة إلى أردوغان في أعقاب محاولة الانقلاب. لكن بوتين رأى فرصة نادرة سانحة للتودد إلى الزعيم التركي لاستمالته، مدركاً أن أردوغان كان ضعيفاً ويحتاج إلى الدعم. وعلى وجه الخصوص، أتاح الاجتماع فرصة لبوتين لكي يُوقع شرخاً بين تركيا والولايات المتحدة، وكل منهما تعود له أكبر جيوش "الناتو". لكنه قدم في الوقت نفسه منافع لأردوغان الذي كان يحاول بفارغ الصبر تعزيز سلطته بعد الانقلاب.

في الواقع، جمعت بين الزعيمين أوجه شبه ومصالح كثيرة مشتركة. فالاثنان وصلا إلى السلطة في بداية القرن الجديد، بوتين عام 1999، وأردوغان عام 2003، وكان ينظر إلى كليهما في البداية على أنهما شخصيتان معتدلتان قد تدمجان دولتيهما في أوروبا والغرب. ولكن ما كان حاسماً ومهماً في سعيهما لاحقاً وراء سلطة غير مقيدة، أن الزعيمين توليا منصبيهما أيضاً بعد أن شهد بلداهما عقداً من الاضطرابات. فصعود بوتين حدث بعد أعوام من الانهيار الاقتصادي الروسي والحرب الدامية في الشيشان، وهي الفترة التي تراجعت فيها روسيا إلى مستوى قوة من الدرجة الثالثة. أما في تركيا، فقد وصل أردوغان إلى منصب رئاسة الوزراء في أعقاب ثلاث أزمات اقتصادية واستشراء فساد واسع النطاق بين النخب واشتباكات بين قوات الأمن التركية وحزب العمال الكردستاني (PKK) أودت بحياة الآلاف.

ووعد كل من بوتين وأردوغان بإنهاء الفوضى السياسية وتحقيق الرخاء، مما جعلهما يحظيان في البداية بشعبية كبيرة. وبعد إرساء حال جديدة من الاستقرار والنمو في وطن كل منهما، غلب على كل منهما شغف كبير بالسلطة والسيطرة، لمصلحة بلديهما ولمصلحتهما الخاصة. وهكذا، بالنسبة إلى أردوغان الذي كان ضعيفاً بعد محاولة الانقلاب، لم يكن بوتين زعيماً قوياً فحسب قادراً على تقديم الدعم الحاسم في وقت تسود درجة كبيرة من عدم اليقين والاضطراب في تركيا، بل كان قادراً أيضاً على تأمين السلامة الشخصية في حال حدوث محاولة انقلاب مماثلة في المستقبل.

بعد محاولة انقلاب ضد أردوغان، رأى بوتين فرصة سانحة

 

والأهم بالنسبة إلى بوتين، مهد اجتماع 2016 الطريق أمام روسيا لمد جسور بين تركيا وسياسات روسيا الخارجية. وأبرم البلدان سلسلة من الاتفاقات، أولاً في سوريا ثم في ليبيا وجنوب القوقاز، حيث خاضت موسكو وأنقرة أيضاً حروباً بالوكالة. في سوريا، على سبيل المثال، وافق أردوغان على وقف الحملات العسكرية المكثفة ضد نظام الأسد، وعوضاً عن ذلك صب وابل الجيش التركي على "وحدات حماية الشعب" الكردي (YPG)، شريكة الولايات المتحدة في محاربة تنظيم "داعش"، مما أثار غضب صانعي السياسة في الولايات المتحدة، بخاصة في البنتاغون.

بعد اجتماع عام 2016، التزم أردوغان أيضاً شراء منظومة الدفاع الصاروخي "إس-400" من روسيا، وهو يعلم جيداً أن عملية الشراء هذه ستوسع الشرخ وستؤدي إلى انقطاع إضافي في العلاقات بين تركيا والولايات المتحدة. (في الواقع، تسببت عقوبات الكونغرس الناجمة عن ذلك في تجميد تعاون الولايات المتحدة مع تركيا عسكرياً). وهكذا وسع بوتين زرع بذور مشكلتين أساسيتين في العلاقة بين واشنطن وأنقرة، هما "وحدات حماية الشعب الكردي" و"صواريخ إس-400"، وما زالتا تعرقلان العلاقات الأميركية - التركية حتى يومنا هذا، وأصبح كثير من المحللين يعتبرهما الآن غير قابلتين للحل.

قيصر وسلطان

هذه الشراكة المتنامية مع روسيا أعطت أردوغان في الوقت نفسه نموذجاً جديداً لتنظيم إدارته في الداخل. وصار بوتين مصدراً جديداً يوفر الدعم المالي لنظام أردوغان. في الواقع، زودت روسيا تركيا بعشرات مليارات الدولارات نقداً مع تأجيلات في التسديد خلال العام الماضي وحده. بيد أن أردوغان بدأ ينسخ مباشرة أسلوب الحكم الذي استعمله بوتين. والسبب الأول وراء ذلك، هو أن أردوغان بعد محاولة الانقلاب، كان مستعداً لاتخاذ إجراءات قاسية جديدة للقضاء على أي تهديدات تحدق بسلطته، وهي إستراتيجيات لطالما اتبعها بوتين في روسيا. وهكذا، استخدم أردوغان سلطات الطوارئ من أجل تنفيذ حملة قمع واسعة النطاق ضد المجتمع، ولم يستهدف الأشخاص الذين اشتبه في أنهم دبروا الانقلاب فحسب، بل أيضاً الوسطيين والليبراليين واليساريين والاشتراكيين والقوميين الأكراد، وحتى المحافظين الذين عارضوه.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

بعد ذلك، في عام 2017، بادر أردوغان إلى تنظيم استفتاء - شكّل أول منافسة تعرضت نتائجها للتزوير في عهده - من أجل تغيير النظام السياسي في تركيا من ديمقراطية برلمانية إلى نظام رئاسي، وهي خطوة كان من شأنها أن تمنحه سلطات تنفيذية كاسحة. ولكن على رغم المزايا التنافسية الناجمة عن منصبه، لم يستطع الفوز بهذا الاستفتاء بعدل وإنصاف. بعد إغلاق صناديق الاقتراع وأثناء إجراء الفرز، أعلن المجلس الانتخابي في البلاد، عملاً بهدى توصيات أردوغان، أنه على رغم أن بطاقات الاقتراع التي تحمل ختم المجلس هي التي كانت تعتبر صالحة حتى تلك اللحظة في الانتخابات التركية، إلا أنه أصبح من الممكن الآن احتساب بطاقات الاقتراع غير المختومة أيضاً، وأنه يمكن أن تضاف إلى الحصيلة النهائية 2.4 مليون بطاقة اقتراع غير مختومة ظهرت فجأة. ونتيجة لذلك، "فاز" أردوغان في الاستفتاء بفارق 1.7 مليون صوت.

كانت لتحالف أردوغان مع بوتين بالفعل عواقب على الغرب

 

دخل التغيير الدستوري حيز التنفيذ في يوليو 2018 ومنح أردوغان سلطات جديدة، مما جعله في الوقت نفسه رئيس الدولة ورئيس الحكومة ورئيس الحزب الحاكم ورئيس الشرطة (قوة وطنية في تركيا)، ورئيساً للقوات العسكرية بصفته قائداً أعلى للجيش. ومثلما حصل بوتين على سلطات تنفيذية واسعة وشاملة في روسيا، أصبح أردوغان الآن أقوى زعيم منتخب في تركيا منذ أول تصويت حر ونزيه في البلاد عام 1950، لا بل أصبح في الواقع سلطاناً جديداً. وبشكل أكثر رمزية، على غرار ما فعله بوتين الذي صور نفسه بشكل متزايد على أنه خليفة لأعظم قياصرة روسيا، بدأ أردوغان أيضاً يعيش المظاهر والبهرجة التي يتمتع بها رئيس الدولة الإمبراطوري عادة. وكان تخلى عام 2014، عن قصر جانكايا، وهو عبارة عن مجمع فلل متواضع والمكتب التقليدي لرؤساء تركيا من قبله، واستبدله بـ "بيستيب"، وهو قصر ضخم من 1200 غرفة ومجمع مكاتب في أنقرة. واستمر في استخدام قصور العصر العثماني في إسطنبول كمكاتب حكومية في محاولة لتصوير نفسه على أنه زعيم عثماني جديد لتركيا.

وإضافة إلى تعزيز قبضته على السلطة، كانت لتحالف أردوغان مع بوتين عواقب لا يستهان بها على كل من روسيا والغرب. منذ عام 2016، سهّل بوتين أربع عمليات عسكرية تركية في سوريا رامية إلى تقويض الفرع السوري لحزب "العمال الكردستاني"، وحدات حماية الشعب YPG، مما أسهم في تشكيل وجهة نظر سرت بين النخب الأمنية التركية وعامة الشعب على حد سواء ومفادها بأن روسيا هي نصير وند أفضل وأكثر إخلاصاً لتركيا من الولايات المتحدة. في غضون ذلك، ساعد نجاح أردوغان العسكري في تقييد يد "وحدات حماية الشعب" في سوريا على تحسين صورته في الداخل، حيث ينظر كثيرون إلى "حزب العمال الكردستاني" على أنه تهديد فتاك ومحدق بالأمن القومي.

وقدم أردوغان لبوتين يد العون في حرب أوكرانيا. على رغم أن أنقرة دعمت أوكرانيا عسكرياً، عن طريق المسيّرات، الطائرات التركية من دون طيار التي أسهمت في الحؤول دون سقوط كييف في أيدي روسيا خلال مرحلة الهجوم الخاطف الأولي الذي شنته موسكو، إلا أن أردوغان حافظ على العلاقات الاقتصادية مع روسيا ولم يقاطعها. ومن خلال عدم الانضمام إلى العقوبات التي تقودها الولايات المتحدة ضد روسيا، أتاح أردوغان لبوتين إمكان الوصول إلى الأسواق الدولية وسمح للأوليغارشيين الروس التابعين له الذين حرموا من الإجازات على الريفييرا الفرنسية، بتنظيم رحلات استجمام إلى الريفييرا التركية.

رجُل موسكو؟

وسط هذه الشراكة المتعاظمة مع روسيا، ليس من المستغرب أن يتمكن أردوغان من تحقيق الفوز في انتخابات مايو. فالتكتيكات التي استخدمها، على غرار تحديد أي مرشحين يستطيعون خوض الانتخابات ضده والسيطرة على مجال المعلومات بأخبار كاذبة، هي تكتيكات مستخرجة مباشرة من كتاب قواعد اللعبة الخاص ببوتين. ومثلما يعتقد الروس بأن بوتين "يجتث النازية" من أوكرانيا وأنه أعاد إلى روسيا مجدها الإمبراطوري السابق، هناك عدد كبير من المواطنين الأتراك الذين يعتقدون اليوم بأن أردوغان جعل تركيا من عمالقة الصناعات العسكرية وبأن "إرهابيي حزب العمال الكردستاني يدعمون كليتشدار أوغلو" على حد تعبير أردوغان. وعلى غرار بوتين، قوض أردوغان العملية الانتخابية وأرسى سبل تحيزها إلى حد كبير لمصلحة الرئيس الحالي لدرجة أنه لم يعد من المهم إلى أي مدى اتسمت عملية التصويت بالحرية. فالظروف المحددة مسبقاً التي تجري فيها الانتخابات جعلت من المستحيل تقريباً استبعاد سلطان تركيا، حتى في مواجهة معارضة كبيرة ومشكلات اقتصادية متزايدة.

في هذه المرحلة، تربط بين أردوغان وبوتين صلة وطيدة أكثر فأكثر. ويرى بوتين أن أردوغان هو زعيم من الطينة نفسها، ويستطيع الرئيس الروسي أن يتوسل به لكي يتحدى بشكل غير مباشر النظام الدولي الذي تقوده الولايات المتحدة، سواء من خلال انتقاد دور الولايات المتحدة في حرب أوكرانيا أو من خلال عرقلة توسع حلف "الناتو" نحو الشمال. أما بالنسبة إلى أردوغان، فالزعيم الروسي يعتبر نموذجاً يحتذى به في كيفية القضاء على المعارضة الداخلية واكتساب سلطة شبه مطلقة. في غضون ذلك، أصبح النظام السياسي في تركيا أكثر شبهاً من أي وقت مضى بنظيره الروسي: التوجه نحو إرساء حكومة تنفيذية أكثر مركزية. وهذا على رغم الخلافات الجيواستراتيجية المستمرة بين أنقرة وموسكو، بدءاً من الصراع القبرصي الذي كانت روسيا وتركيا طرفين متعارضين فيه، وصولاً إلى ضم روسيا لشبه جزيرة القرم، الأمر الذي تعتبره تركيا غير مقبول. ولكن حتى في ظل تلك القضايا التي لم تُحل بعد، يعرف بوتين أن تعويله على أردوغان واعد: فبالنسبة إلى الرئيس الروسي، كلما تحرك أردوغان نحو الأوتوقراطية، رجحت الاحتمالات بأن تصبح تركيا شريكاً مطيعاً للكرملين. في الواقع، إن انعطاف تركيا نحو الاستبداد وانعطاف سياستها الخارجية نحو روسيا هما سمتان راجحتان في النهج الأردوغاني.

وتجدر الإشارة إلى أن فوز أردوغان في الانتخابات يعني أنه سيواصل تفضيل موسكو دولياً، مع الحفاظ على علاقات اقتصادية قوية مع روسيا وتزويد بوتين وأوليغارشيته بالوسائل الأساسية لتجاوز العقوبات. لقد استغل بوتين شعور أردوغان بعدم الأمان عام 2016، علماً أن الأخير لا يزال يشعر بأن قبضته على السلطة ضعيفة، حتى لو أصبح السلطان الجديد لتركيا، ويواصل الكرملين الاستفادة من هذا الوضع حتى يومنا هذا. إذاً، فأردوغان يجلس قلقاً متململاً على العرش، وبوتين يدرك ذلك، وهو يستغل هذا القلق لاستقطاب أردوغان أكثر إلى مداره وجعل أنقرة أقرب إلى موسكو.

*سونر كاغابتاي مدير برنامج الأبحاث التركية في معهد واشنطن. وهو مؤلف كتاب "السلطان الجديد: أردوغان وأزمة تركيا الحديثة".

فورين أفيرز

اقرأ المزيد

المزيد من آراء