Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

النرويجية آنا إيفا برغمان ترسم وحدة الوجود وتجلياتها

متحف باريس للفن الحديث يعيد الاعتبار إلى تجربتها التشكيلية وحيوية مفرداتها

مشهدية بين التعبيرية والإنطباعية في إحدى اللوحات (خدمة المعرض)

ملخص

متحف باريس للفن الحديث يعيد الاعتبار إلى تجربتها التشكيلية وحيوية مفرداتها

ماذا نعرف عن دور النرويج في انبثاق الحداثة الفنية؟ لا شيء تقريباً. لكن هذا الجهل لا يعني أن دور هذا البلد كان ثانوياً أو هامشياً، في هذه المسألة، على صورة حجمه الصغير وموقعه الجغرافي على طرف القارة الأوروبية. ففي أوسلو، ولد وعاش رائد التعبيرية، العملاق إدوارد مونخ (1863 ــ 1944). ومن هذه المدينة أيضاً، انطلقت مسيرة فنانين مهمين كثر بعده، لعل أبرزهم هي الفنانة الرؤيوية آنا إيفا برغمان (1909 ــ 1987)، التي تمكنت من فرض نفسها كأحد أبرز وجوه فن الرسم بعد الحرب العالمية الأولى.

على خلاف مونخ، لا تحظى برغمان اليوم بشهرة عالمية كبيرة، لا بل بات النسيان يتهدد ما أنجزته، علماً أن أعمالها، حتى وفاتها، عُرضت في أكبر متاحف الغرب، وتوقف النقاد ومؤرخو الفن ملياً عند مساهمتها من خلالها في بلورة مفردات الحداثة. أعمال ذات لغة تشكيلية فريدة وساحرة، تقوم على أبجدية من الأشكال الصافية، وتستحق اليوم أن يعاد الاعتبار إليها وتحديد مكانتها داخل تاريخ الفن الحديث، نظراً إلى كونها لا تقل قيمة عن أعمال أسماء فنية نسائية كبيرة ومعاصرة لبرغمان، مثل هيلما أف كلينت، جورجيا أوكيف وسونيا دولوناي. وهو هدف المعرض الحالي في "متحف باريس للفن الحديث"، الذي يحمل عنوان "آنا إيفا برغمان ــ سفر إلى الداخل"، ويتوق بجانبه الاستعادي إلى المساهمة في إعادة اكتشاف هذه الفنانة الكبيرة، عبر اقتراح بانوراما شاملة لإنتاجها الفني، ترافقها وثائق مكتوبة وبصرية، يُعرض بعضها للمرة الأولى.

لا نبالغ إن قلنا إن برغمان تجسد أوروبا القرن العشرين. فهي ولدت في السويد ونشأت في النروج، حيث انطلقت في دراسة الفن في أوسلو عام 1927، ثم تابعت تعليمها في فيينا، قبل أن تحطّ في باريس عام 1929، وتتعرّف إلى الفنان التجريدي هانز هارتونغ، فتتزوجه وتنتقل معه إلى ألمانيا حيث ترددت على حلقات الفنانين الملتزمين في درسدن. وخلال هذه المرحلة الأولى من مسيرتها، برز اهتمامها بفن الكاريكاتير، ومعه موهبتها كمراقبة بصيرة لما كان يدور حولها، التي جعلت منها مؤرخة يقظة لزمنها، وشاهدة على الاضطرابات الاجتماعية والسياسية خلال الثلاثينيات. وفي رسومها، لم تتردد في مهاجمة العقيدة النازية، والسخرية من الصور الثقافية النمطية التي كانت رائجة في البلدان الأوروبية التي زارتها، وفضح الفروق الكبيرة بين المهمشين والمهيمنين. رسوم تكمن قيمتها أيضاً في تشكيلها أحياناً فرصة لها لوصف نفسها وسرد مغامراتها إلى جانب هارتونغ الذي تزوجته مرتين، وبالتالي تشهد على فرديتها وشخصيتها القوية، وعلى تحررها المبكر وحرية فكرها الكبيرة.

ومن المدن التي أقامت برغمان فيها آنذاك، برلين، أوسلو، باريس، روما، إضافةً إلى قرى إقليم ليغوريا الإيطالي حيث صُعقت برؤية الفسيفساءات البيزنطية ولوحات رسامي عصر النهضة. وما لبثت هذه الوفرة من التجارب أن غذت عالمها البصري الذي فقد بسرعة طرافته وكسب جدّية كبيرة، بسبب صدمة الحرب العالمية الثانية التي أمضتها في وطنها المحتل على يد النازيين.

في مطلع الأربعينيات، كرّست الفنانة وقتها للرسم، فصقلت أسلوباً غير تصويري، ولكن مشحون بالرموز، وانعكفت على تأملٍ في الطبيعة، مرفق باستبطان عميق أسست عليه نظريتها الجمالية الشخصية. ولا عجب في ذلك، فالجمالات الجيولوجية للطبيعة كانت تمارس فتنة كبيرة عليها، وتحديداً الحجارة، الحصى، الصدوع في الصخور، قوام المعادن وسطوحها الملساء أو الخشنة... وخلال صيف 1949، 1950 و1951، أدى استقرارها في جنوب النروج إلى تجديد عميق في مفرداتها التشكيلية، مع سلسلة "شظايا من جزيرة نروجية" التي تشكّل شهادة ميلاد حقيقية في نضجها كرسامة، الذي ساهمت فيه أيضاً إقامتها عام 1950 في شمال وطنها حيث تأملت للمرة الأولى شمس منتصف الليل.

التناغم والجمال

وخلال تلك الفترة، تقرّبت برغمان من مواطنها، المهندس المختص بالفن الغوطي، كريستيان لانج، وشاركته اهتماماته الجمالية والفلسفية والصوفية، فتعمّقت في دراسة النسبة الذهبية، وهي قانون هندسي قائم على مفهوم التناسب، ألهم الفنانين في موضوع العلاقة بين التناغم والجمال منذ العصور القديمة، كما تعمّقت في القيمة الإيقاعية للخط، برمزية الألوان وبكيفية استخدام الأوراق المعدنية، كما في فن العصور الوسطى.

وفي الخمسينيات، أنجزت أعمالاً فريدة يصعب تحديد موقعها داخل تاريخ الفن التقليدي. لوحات لا تدين بشيء لما كان رائجاً في زمنها وقبله، وتتسلط عليها موضوعات نموذجية نأت بها عن أي تمثّل للشكل البشري، وتميل إلى التجريد، ولكن من دون الابتعاد كلياً عن مراجع محددة: حجر، قمر، كوكب، شجرة، قبر، وادٍ، قارب، مرآة... من هنا تفضيلها وصف أسلوبها بـ "غير التصويري"، بدلاً من التجريدي، وتطويرها في سياقه نوعاً من الأبجدية البصرية في حالة تحوّل دائم، هي عبارة عن أشكال تولد بعضاً من بعض بفعل التنويع الخطوطي واللوني، من لوحة إلى أخرى. أما استخدامها المتزايد للأوراق المعدنية فما لبث أن مد لوحاتها بضوء يفتن المتأمل فيها، ويدعوه إلى التحرّك أمامها لالتقاط انعكاساته الباهرة.

وفي عام 1964، تنقلت برغمان مع هارتونغ على طول الساحل الشمالي النروجي حيث التقطت مئات من الصور ألهمتها رسوماً غزيرة على مدى سنوات. وفي الفترة نفسها، اشترت أرضاً قرب مدينة كاربونيراس، في منطقة قشتالة الإسبانية، ألهمتها رسوماً أخرى تظهر فيها مساحات شبه صحراوية شاسعة. لكن الفنانة لم تكتف بهذه المصادر الجغرافية، بل شغفت أيضاً بأنظمة تمثّل العالم في الأساطير القديمة، وبأحدث التطورات العلمية في زمنها، لا سيما في علمي الآثار والفلك، فتشبّعت برؤى كونية توفّرها نصوص مثل ملحمة غلغامش والتوراة و"الكوميديا الإلهية" وروايات هووارد فيليب لوفكرافت، وباكتشافات الفيزياء الفلكية الحديثة.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

وفي عام 1973، أدى استقرارها مع هارتونع في منطقة أنتيب الفرنسية المتوسطية إلى تطور عملها في اتجاه أشكال بسيطة ذات ألوان محدودة، تشهد على مينيمالية مهيبة. ونظراً إلى حساسيتها تجاه تقلبات طقس الجنوب الفرنسي، شرعت في التقاط أجواء ممطرة تارةً، وصافية تارةً أخرى، وحركة الموج، داخل لوحات صغيرة الحجم وأخرى ضخمة، وفيها تظهر المناظر بطريقة إيحائية من خلال خلق مناخات وإسقاط أحاسيس مستمدّة من البيئة التي كانت برغمان تعيش وتتأمل فيها: إحساس انعكاس الضوء على مساحة جليدية، رؤية جبل أو جؤجؤ على خلفية ليل قطبي، بحيرة يتلألأ سطحها عند الفجر، أرض قاحلة تحرقها الشمس، أفق يتضاعف بسبب مفاعيل المسافة، أو يحضر معلّقاً بين أرض وسماء، قارب أو كوكب ينزلق داخل الفضاء...

باختصار، أعمال تعكس، مثل سابقاتها، تصوّف برغمان الحلولي، انتباهها الشديد إلى ما هو حيّ ويتجاوز الحضور البشري، وبالتالي إيمانها بأن "الدرب التي تقود إلى الفن تمر حتماً بالطبيعة ومختلف تجلياتها".

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة