Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

النحاتة جيرمان ريشيي ألهمت جياكوميتي أسلوبه واختفت

معرض باريسي يعيد الاعتبار إلى منجزها الفريد في ميدان النحت الحديث

النحاتة الفرنسية الطليعية جيرمان ريشيي (خدمة المعرض)

ملخص

معرض #النحاتة_الفرنسية جيرمان ريشيي في مركز "بومبيدو" يسمح بإعادة الاعتبار إلى عملها الفني الذي شكّل #الإنسان وعلاقته بالطبيعة موضوعه الحصري، وتأثر بأسلوبه كبار النحاتين

"كلما سرتُ إلى الأمام، ازدادت قناعتي بأن الإنسان وحده هو المهم"، كتبت النحاتة الفرنسية جيرمان ريشيي (1902 ــ 1959) في أحد دفاترها. جملة تلخّص على أفضل وجه مسعاها الفني وتنير الهاجس الذي تحكّم بها طوال حياتها، ومكّنها من فرض نفسها كأحد أبرز وجوه فن النحت في النصف الأول من القرن العشرين. هاجس يظهر جلياً داخل معرضها الحالي في مركز "بومبيدو" (باريس) الذي تطلب تنظيمه سنوات من البحث، ويسمح بإعادة الاعتبار إلى عملها الفني الذي شكّل الإنسان وعلاقته بالطبيعة موضوعه الحصري، وتأثر بأسلوبه كبار النحاتين. وبتغطيته كافة مراحل مسيرتها الإبداعية، يسمح المعرض أيضاً بالتآلف مع حسّها الإبتكاري المدهش وسعيها الثابت إلى الإختبار الذي يعكس توقها إلى خلق منحوتات حيّة.

ولمن يجهل هذه العملاقة، نشير بدايةً إلى أن فنها يندرج ضمن النهضة التي شهدها الفن التصويري (figuratif) بعد الحرب العالمية الثانية، باقتراحه "تمثّلات جديدة للإنسان"، وهو عنوان المعرض الذي نظّمه "متحف الفن الحديث" في نيويورك (MoMA) عام 1959، وكرّس لها فسحة كبيرة داخله، إلى جانب فرنسيس بيكون وجان دوبوفي وألبرتو جياكوميتي. ومع أن النقّاد قربوا عملها تارةً من الغرابة السوريالية وطوراً من التعبيرية اللاشكلية، لكن مسيرتها الفنية تبقى فريدة، خارج أي حركة أو مجموعة، وإن شكّل فنّها حلقة وصل بين زمنين ومفهومين للمنحوتة، أي القولبة والتركيب. وريثة رودان ومعلّمها بورديل، خلّفت أعمالها والمحاضرات التي كانت تلقيها أثراً بليغاً على جيل كامل من النحاتين الشبان، مثل سيزار. وفي باريس التي كانت تمزّقها آنذاك النقاشات الفنية، عرفت أيضاً كيف تمسّ دعاة التجريد الغنائي، مثل هانز هارتونغ وماريا فييرا دا سيلفا وزاو وو كي الذين ابتكرت معهم أعمالاً جماعية.

في قلب عمل ريشيي، يحضر الشكل البشري وجوهاً وأجساداً في حقيقتها الفردية والشاملة على حد سواء. نحاتة بورتريه، مثلما لدينا رسام بورتريه، أنجزت أكثر من خمسين تمثالاً نصفياً، حرصت في جميعها على الإمساك بالحضور الخاص لموديلاتها وشخصياتها الفريدة، علماً أن اضطرارها إلى الإستقرار في سويسرا خلال الحرب العالمية الثانية شكّل نقطة تحوّل في عملها، تمثّلت في كسرها تقليد الكتلة لمنحوتتها واستبدالها جمالية السطح الأملس لهذه الأخيرة بعمل تعبيري على المادة، نابض بالحياة. وبهذه الطريقة انبثقت من يديها منحوتة "الإعصار"، لدى عودتها إلى باريس عام 1946، التي جسّدت فيها كائناً بشرياً ضخماً، لا ملامح لوجهه، يقترب بشكله من الصخرة أو من جذع شجرة، بقدر ما يقترب من الإنسان المسلوخ، لكنه يترجم بمادته ــ البرونز ــ المحفورة والممزقة، وهم الحياة والحركة. ولا شك في أن اعتبارها منحوتاتها كائنات حيّة، هو الذي يفسّر ذهابها إلى حد تصميم مقبرة حجرية ذات أشكال هندسية للعمل المذكور.

ولتجديد عملية تمثيل الإنسان نحتاً، ارتكزت ريشيي بسرعة على التهجين، عبر مزجها صفاته بأشكال الطبيعة. تهجين يعكس افتتانها بالنباتات والحيوانات والحشرات التي كانت تجمّعها، وقادها إلى ابتكار تلك الكائنات الهجينة الباهرة (المرأة العنكبوت، الرجل الخفّاش...) التي لا تردّنا إلى عالم خارق بقدر ما تردّنا إلى تناضح مثير بين الإنسان وسائر كائنات الطبيعة الحية أو الجامدة. تناضُح يتجلى في إدخال الفنانة على منحوتاتها، أشياء طبيعية متفرّقة كانت تقع عليها أثناء نزهاتها في مقاطعة بروفانس، مسقط رأسها، كغصن الزيتون الذي حلّ في جسد منحوتة "الرجل ــ الغابة" (1945)، أو قطعة الطوب التي تشكّل منها رأس "راعي البَراح" (1951). أشياء يرصد معرضها الحالي لها صالة خاصة تُقدم فيها قطع خشبية مختلفة، جذور، حشرات، مجموعة فراجير، فراشات مثبّتة بدبابيس، عظام...

طقس اللغز

ولا عجب بالتالي في كتابة مواطنها، الشاعر وناقد الفن جان كاسو، عام 1956: "أعمال ريشيي طقس مسارّي لولوج اللغز". فعلى صورة منحوتتها "الجبل" (1955) المصنوعة من عظام وأغصان، تنتمي مخلوقاتها الهجينة ذات الشكل البشري البدائي إلى قصص البدايات، الميثات والأساطير، التي تتأرجح فيها الغيلان والتنانين والثعابين بين هزلي ومرعب. مخلوقات مشبعة بنظرة حلولية وإحساس عميق بالمقدّس. ولا عجب أيضاً في ارتباط اسمها بما سمّي في حينه "الخلاف حول الفن المقدس"، بسبب إنجازها عام 1951 تمثالاً للمسيح لكنيسة "آسي"، بطلب من كاهنها، اعتبرته مجموعة من الكاثوليكيين التقليديين تجديفاً، مما اضطر الكاهن إلى سحبه من كنيسته، على رغم اعتراض كثيرين من أبناء رعيته، ليعود فيأخذ مكانه عام 1969، أي بعد عشر سنوات من رحيل صاحبته.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

قيمة معرض ريشيي الحالي لا تكمن فقط في تضمّنه مختارات واسعة من أعمالها، ومن بينها تمثال المسيح المذكور، بل في توقفه أيضاً عند تأمّلها في وسائل عملها النحتي. تأمُل عن طريق الرسم الذي يقع في قلب سيرورة إبداعها، وقادها إلى الخطّ مباشرةً، على أجساد موديلاتها "هندسة من الخطوط"، قبل نحتها، وأيضاً عن طريق فن الحفر الذي مارسته بانتظام وتتكشّف فيه تلاعباتها المدهشة بالخطوط. وفي هذا السياق، يسلّط المعرض الضوء على سلسلة المنحوتات السلكية التي انطلقت في إنجازها منذ عام 1946، وتبنّى جياكوميتي أسلوبها الخاص. منحوتات سعت فيها إلى تجسيد البنية الهندسية الهيكلية للكائنات الحيّة، إلى فتح عملها على المتأمّل فيه، وفي الوقت نفسه، إلى خلق مفاعيل توتّر وانعدام توازن. وهو ما يفسّر اهتمامها بفضاء المنحوتة، وبقاعدتها التي تُساهم في إسقاطها داخل الفضاء، وقرارها نحت هذه القاعدة كجزء لا يتجزأ منها.

يرصد المعرض أيضاً فسحة كبيرة داخله للإختبارات التي أجرتها ريشيي في الخمسينيات على المستويين التقني والمادي، وقادتها تارةً إلى استخدام مادة الرصاص المرنة التي كانت تذوّبها وترصّعها بقطع زجاج ملوّن، مستثمرةً على طريقتها تقنية الزجاج المعشّق (vitrail)، وطوراً عظام الحبّار كقوالب كانت تسكب فيها البرونز المصهور. وفي هذه الفترة أخذت الألوان مكانها داخل عملها، عبر طلبها في البداية من أصدقائها الرسامين، تلوين سطوح بعض منحوتاتها، ثم قيامها بهذه المهمة بنفسها. ألوان أضفت على تماثيلها البرونزية والجصّية حيوية جديدة، كما يتجلى ذلك في آخر عمل ضخم لها، "رقعة الشطرنج"، الذي يشكّل حصيلة لمجمل مسعاها الفني، وإن لم تتمكن من إنجازه بسبب وفاتها.

نشير أخيراً إلى أن ريشيي، على الرغم من حصدها باكراً اهتمام أكبر المتاحف والمؤسسات الفنية الدولية، لا تزال مجهولة نسبياً مقارنةً بشهرة العديد من معاصريها النحاتين. جهلٌ جائر يفسّره من دون شك رحيلها المبكر وعدم اكتراثها وهي حيّة للترويج لفنّها.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة