ملخص
المشهد في غزة ولبنان ناطق بما يدعو إلى مراجعة عميقة، فالدولة الفلسطينية حلم السلطة الوطنية ومطلب العرب والغرب والروس والصينيين وكابوس إسرائيل و"حماس" وإيران. واستعادة الدولة المخطوفة في لبنان أمل، و"الأمل هو حلم مستيقظ" كما قال أرسطو.
عشية الخريف الثاني في حرب غزة وحرب الإسناد في لبنان تبدلت المقاييس بصورة كبيرة وإن كان الصراع واحداً، حرب "الإسناد" لحركة "حماس" التي بدأها "حزب الله" خلال اليوم التالي لعملية "طوفان الأقصى" صارت أكبر من حرب غزة وأخطر على المستوى الإقليمي.
أهداف حكومة نتنياهو المعلنة في الحرب الأمنية والعسكرية على "حزب الله" تجاوزت إعادة المستوطنين النازحين إلى مستوطناتهم في الجليل لتبلغ "ضرب قوة الحزب" واغتيال قادته الكبار على المستوى السياسي والمستوى العسكري، وهي تكرار للهدف المعلن في حرب غزة بـ"القضاء على حماس". وفي الحالين يبدو تحقيق الأهداف المعلنة غير واقعي، والممكن إحداث دمار كبير وتسجيل أرباح تكتيكية يصعب تحويلها إلى نصر استراتيجي.
لكن الصراع الكبير هو على مرحلة ما بعد الحروب، فلا "وحدة الساحات" من خارج الشرعيات العربية في فلسطين والعراق ولبنان واليمن سوى حركة جيوسياسية واستراتيجية في لعبة أكبر من فلسطين وإن كانت باسم قضيتها، ولا ربط التسويات في قضايا الشرق الأوسط بما تنتهي إليه حرب غزة والآن "حرب لبنان الثالثة" سوى محاولة لدفع المنطقة إلى التسليم بأمرين، أولهما السعي الإقليمي إلى تغييب الدور العربي. وثانيهما التركيز على صراع مشروعين تحت المظلة الأميركية إلى جانب دور محدود لروسيا والصين وأوروبا، مشروع إسرائيل الكبرى ومشروع إيران الكبرى.
المشروع الأول هدفه إلغاء فلسطين وتشتيت شعبها، والمشروع الثاني يحمل راية فلسطين على الطريق إلى هدفه الإقليمي الواسع ودوره في المعادلات الدولية. فما بدأته حركة "حماس" بعملية "طوفان الأقصى" التي هزت إسرائيل بعنف وعمق هو في حساباتها خطوة افتتاحية في مسار التحرير من البحر إلى النهر، أما في حسابات طهران فإنه حركة تهز "الستاتيكو" الذي ترعاه وتحرص عليه أميركا في الشرق الأوسط. وتفتح بابين، باب المواجهة غير المباشرة عبر الوكلاء مع "الشيطان الأكبر" وباب التفاوض معه على صفقة إقليمية تكرس نفوذها المتوسع في أربع عواصم عربية. وما بدأته حكومة نتنياهو في حرب غزة هو حرب إلغاء لحركة "حماس" بالاضطرار بعد "طوفان الأقصى"، من حيث كان الرهان عليها كبوليصة ضمان لاستمرار الانقسام الفلسطيني والحيلولة دون "حل الدولتين" المرفوض من إسرائيل و"حماس" لأن كلاً منهما يريد كل فلسطين. وليس سراً أن نتنياهو قال لوزرائه قبل "طوفان الأقصى"، "من يرفض منكم قيام دولة فلسطينية فليحافظ على ’حماس‘ في غزة".
ولا أحد يعرف ما تنتهي إليه حرب غزة وحرب لبنان وبقية حروب الإسناد وسط التوحش الإسرائيلي، لكن الكل يرى بالملموس ما كشفته الحروب وكان بعضه موضع تساؤلات وشيء من الغموض في أربعة أمور، أولها أن انفصال "حماس" عن السلطة الوطنية الفلسطينية بانقلاب عسكري عام 2006 لم يكن مجرد خلاف على السلطة مع حركة "فتح" التي سلمت برئاسة إسماعيل هنية للحكومة، بمقدار ما كان تحضير قاعدة في غزة تهيمن على أرضها وتحفر الأنفاق تحتها لبناء قوة تعمل لتحرير فلسطين.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وثانيها أن إسرائيل التي ركزت عقيدتها العسكرية من أيام مؤسسها ديفيد بن غوريون على الحرب الخاطفة السريعة التي تحسم المعركة لمصلحتها، لأنها لا تستطيع تحمل تبعات حرب طويلة، صارت مستعدة لحروب طويلة وقادرة على الاستمرار في حرب استنزاف داخل غزة وعلى الجبهة اللبنانية ومع الحوثيين في اليمن، ثم على الانتقال إلى حرب صاعقة مدمرة. وهي تبدو قادرة أيضاً على خسارة أشياء مهمة لمنع قيام دولة فلسطينية والوقوف في وجه الإدارة الأميركية التي ترى الحاجة إلى "حل الدولتين" من أجل الاستقرار في الشرق الأوسط. ويروي المؤرخ توم سيغيف أن بن غوريون قال لرفاقه "العرب يستطيعون تحمل هزائم عدة، أما إسرائيل فإن هزيمة واحدة تعني نهايتها".
والأمر الثالث أن أميركا التي "اشترت" قول الجنرال شارون إن إسرائيل هي "حاملة طائرات ثابتة" تحمي مصالح أميركا في المنطقة بكلفة قليلة، وجدت نفسها مضطرة لحشد عسكري بحري وبري وجوي أميركي مؤثر لحماية إسرائيل.
والرابع أن إيران تلعب الورقة على الوجهين في استراتيجية العمل لمشروعها الإقليمي، ففي الوجه الأول ترفع شعار العداء لإسرائيل وأميركا، لا بل "الموت لأميركا وإسرائيل" وتسلح وتمول وتدعم فصائل مذهبية أيديولوجية في اليمن والعراق وسوريا ولبنان إلى جانب "حماس" و"الجهاد الإسلامي" في غزة. وفي الوجه الثاني تفاوض أميركا، ليس فقط على البرنامج النووي بل أيضاً على القضايا الإقليمية، من غزة إلى صنعاء مروراً ببغداد ودمشق وبيروت.
الفصائل المسلحة هي خط الدفاع الأول عن طهران ومشروعها الإقليمي ضد إسرائيل وأميركا وكل الغرب، وهي تندفع كما تدفع للقتال في حروب استنزاف مع إسرائيل ومعارك سياسية مع الأنظمة الحاكمة في بلدانها، على أساس أن الجمهورية الإسلامية ستقاتل معها إذا صارت في خطر. وحين يأتي الخطر تقول طهران إن الفصائل قادرة على الدفاع عن نفسها وتمتنع عن الانخراط المباشر خوفاً من صدام مع أميركا. حتى قصفها الأخير بمئتي صاروخ لإسرائيل فإنه رد لمرة واحدة وليس انخراطاً في الحرب.
والمشهد في غزة ولبنان ناطق بما يدعو إلى مراجعة عميقة. فالدولة الفلسطينية حلم السلطة الوطنية ومطلب العرب والغرب والروس والصينيين وكابوس إسرائيل و"حماس" وإيران. واستعادة الدولة المخطوفة في لبنان أمل، و"الأمل هو حلم مستيقظ" كما قال أرسطو.