ملخص
محاولة للإجابة عن سؤال حير كثراً: لماذا لم يكتب فلاديمير نابوكوف أي نص كبير في الفرنسية؟
يقام هذه الأيام في باريس واحد من أكثر المعارض لفتاً للنظر، وذلك أنه ليس مكرساً لكاتب من مشاهير فرنسا الكبار ولا لرسام عالمي تحاول باريس الاحتفال به رغم أن مكان الاحتفال وهو إحدى قاعات المكتبة الوطنية الكبرى، قد يوحي بذلك. فالمحتفى به هذه المرة هو المغني والموسيقي سيرج غينسبورغ الذي يعتبر عادة من أكثر المبدعين الفرنسيين مشاكسة واستفزازاً وخرقاً للمحظورات، ولكن من المعروف أن هذا الفنان الاستثنائي قد هدأ بفعل رحيله المفاجئ في عام 1991 وراحت الأوساط الأدبية والفنية تعيد اكتشافه على ضوء إنتاجه الفني الكبير بدلاً مما كان يحدث دائماً في حياته، حيث كان لا يكتشف إلا على ضوء حياته وسلوكه الفضائحيين. وطبعاً لن نتوقف هنا عندهما، بل ولا حتى طويلاً عند غينسبورغ نفسه، بالنظر إلى أن لفتة فكرية سابقة وأيضاً في باريس كانت قبل يومنا هذا بـ10 سنوات، قد تمكنت من المقاربة بين غينسبورغ ذي الأصل والمزاج الروسيين ومهاجر كبير آخر له نفس الأصل والمزاج وهو الكاتب فلاديمير نابوكوف (1899 – 1977) الذي اشتهر برواياته الجريئة ومنها خصوصاً "لوليتا" التي حولها ستانلي كوبريك إلى فيلم بنفس العنوان كشف من خلالها عن جنون الحب وروعة العواطف. والحقيقة أن تلك المناسبة التي أقيمت في عام 2013 كشفت عن تقاربات مدهشة بين الكاتب والمغني رغم فارق السن بينهما. فحين رحل نابوكوف كان غينسبورغ لا يزال شاباً في بداياته (في الـ47 على أي حال) لكن كثراً كانوا يشبهونه بنابوكوف وهو كان من كبار المعجبين بهذا الأخير والتقاه وسمى ابنته شارلوت على اسم بطلة نابوكوف.
تساؤلات مشروعة
ومن هنا كثرت التساؤلات منذ ذلك الحين عن السبب الذي جعل صاحب لوليتا يكتب بثلاث من اللغات الأربع التي يتقنها تماماً –وهي الروسية في بداياته قبل مبارحته روسيا مع أهله هرباً من الثورة البلشفية، والألمانية التي كتب بها بعض الحين في منفاه الألماني الأول، وأخيراً الإنجليزية- الأميركية طوال ما تبقى من حياته بالتالي بالنسبة إلى معظم رواياته ومحاضراته الجامعية وكتب مذكراته –فلماذا لم يكتب بالفرنسية التي كان يتقنها بأفضل مما هو حاله بالنسبة إلى اللغتين الأجنبيتين الأخريين؟ شاركت في الندوة حينها باحثة فرنسية في تاريخ الأدب هي ستيفاني ديفيد فحاولت في مقال نشرته حينها أن تتحدث باستفاضة عن علاقة نابوكوف بفرنسا ولغتها، وهو المنتمي اجتماعياً إلى تلك الطبقة الأرستقراطية الروسية التي صور لنا ليون تولستوي في "آنا كارنينا" ولكن بشكل أخص في "الحرب والسلام"، كيف أنها كانت تستخدم الفرنسية في حياتها اليومية كما في ثقافتها بأكثر كثيراً مما تستخدم لغتها الأم. ولقد أوضحت الكاتبة منذ مدخل نصها أن نابوكوف نفسه كان قد اعتاد أن يجيب لاحقاً في حياته عن اللغة التي يفضلها بين الثلاث التي يتقنها: "إن منطقي يجيب عن هذا السؤال ببساطة قائلاً، الإنجليزية عقلي، الروسية قلبي والفرنسية سمعي". ولقد فهم كثر حينها ما كان يعنيه رغم ما شاب قوله من التباس.
فراشات نابوكوف
مهما يكن من أمر، تولت الكاتبة عن نابوكوف رصد علاقة له بفرنسا التي عاش فيها خلال فترات متقطعة من حياته، لا سيما في بدايات منافيه، ثم خلال سنواته الأخيرة حين عاش في سويسرا وراح يتوجه إلى جنوب فرنسا حيث يصطاد الفراشات ويصنفها ومنها واحدة كان هو أول مكتشفيها وسميت باسمه باللاتينية لكن هذه حكاية أخرى طبعاً. وتخبرنا الكاتبة كيف أن الكاتب كان يحلو له أن يروي كيف أن الفكرة الأساسية لروايته الأشهر "لوليتا" قد ولدت لديه حين كان يزور فرنسا عند نهاية عام 1939 فيما كان يقرأ مقالاً علمياً. وقال نابوكوف، إن شخصية هومبيرت هومبيرت، راوي "لوليتا" وشخصيتها الأساسية، قد تراءت له في فرنسا خصوصاً باعتبار هذا الأخير قد درس في الجامعات الفرنسية، بالتالي لا بد أن يلاحظ القراء كيف أن الرواية مليئة، في أصلها الإنجليزي، بالعبارات والكلمات الفرنسية ناهيك بالمرجعيات الأدبية الفرنسية الحديثة والكلاسيكية، من رونسار إلى مارسيل بروست مروراً بفلوبير وشاتوبريان وبروسبير ميريميه وشارل بودلير. ولهذا الأمر أهميته حتى وإن كان نابوكوف لا يتوانى عن السخرية من بعضهم من طريق سخرية بطل الرواية من نفسه. ولقد سبق لباحث آخر في الأدب هو يانيك شوبين أن تناول منذ عام 2008 في دراسة له حول رواية نابوكوف كيف أن هذا الأخير "قد جعل من رجل أدب فرانكوفوني شخصية الرواية الأساسية وراويها مع أن الرواية أميركية خالصة" وهذا ما جعل شوبين يستخلص كيف أن نابوكوف خلق في روايته نوعاً من التقابل بين فرنسا وأميركا والتجانس التناحري ربما، بين الثقافة الفرنسية والثقافة الأميركية. ولم يعز هذا الباحث الأمر إلى أي صدفة من الصدف بل وجده "متعمداً من جانب نابوكوف وجديراً بأن يدرس بشكل معمق".
الترجمة الأولى
ويلفت شوبين النظر كما توضح كاتبة المقال إلى ذكر هومبيرت لأسماء أماكن معينة في باريس. وهكذا يطالعنا ذكر كنيسة المادلين ومقهى الـ"دو ماغو" الشهير الواقع في جادة سان جرمان دو بري في الحي اللاتيني. وللتذكير هنا لا بد من الإشارة إلى أن ترجمة "لوليتا" إلى الفرنسية كانت أول ترجمة لتلك الرواية إلى أي لغة في العالم، بل إن تلك الترجمة ما كانت لتتم –بالنظر إلى أن نابوكوف كان مجهولاً تماماً كما أن الرواية كانت محط غضب الرقابة الأميركية– لولا أن الكاتب الفرنسي الشهير، ريمون كوينو، صاحب "زازي في المترو" قرأ الرواية باكراً وشغف بها إلى درجة أنه أقنع منشورات "غاليمار" بنشرها، بيد أن حضور فرنسا وأدبها وعاصمتها في تلك الرواية لم يكن لفتة نابوكوف الوحيدة تجاه هذا البلد حيث تخبرنا ستيفاني ديفيد في مقالها المذكور أن هناك مشاهد كثيرة في بعض أهم روايات نابوكوف، من "حياة سيباستيان نايت الحقيقية" إلى "بنين" وصولاً إلى "أنظر أنظر إلى الأرليكان" وغيرها، تدور في باريس. "لكن المؤسف هنا، تقول الكاتبة، إن عاصمة النور ليست بقلم نابوكوف، على أحسن ما يرام: فمثلاً في رواية "سيباستيان نايت..." يصف نابوكوف حارسة البناية مدام رو وصفاً يماثل وصفه لروائح العفن التي تفوح من العمارة رغم وقوعها في الدائرة الأرستقراطية، الـ16"!!
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
موقف ملتبس من باريس
وتقول الكاتبة في هذا السياق أيضاً، إن نابوكوف إنما كان يتكلم عن باريس التي يعرفها معتبراً إياها "أنها مدينة باتت مركزاً لثقافة المهاجرين، ولكن أيضاً مركزاً لبؤسهم" و"هو يتكلم بكثرة عن المقاهي التي يتجمع فيها مبدعون آتون من خارج فرنسا ومن روسيا خاصة". ومن اللافت أن رواية نابوكوف "آدا" المعتبرة عادة ثاني أشهر رواياته بعد "لوليتا"، تدور من ناحيتها في مكان خيالي يسميه "لوت..." وهي على أي حال الأحرف الأولى من كلمة "لوتيسيا" الذي هو الاسم التاريخي القديم لباريس نفسها" كما تقول الكاتبة، لتستطرد أن أسماء عدد من الأماكن والشوارع تحيل مواربة وأحياناً بصورة مباشرة إلى أماكن وشوارع باريسية يحلو للكاتب التلاعب بأسمائها كما يفعل مثلاً حين يحاول أن يصف واحداً من شخصيات الرواية يجلس في "مقهى الشهداء الشبان" فيأتي الوصف وكأنه تحية للوحة للرسام الباريسي تولوز – لوتريك تصور "الديوان الياباني" الواقع أساساً في الرقم 75 شارع الشهداء...
باختصار، من الواضح أن هذا التعامل الملتبس لنابوكوف مع فرنسا عموماً وباريس خصوصاً، يمكنه أن يفسر أن الكاتب كان يعيش دائماً نوعاً من ازدواجية جذب –نبذ تجاه فرنسا بشكل عام خلقت لديه نوعاً من عاطفة بادية الالتباس بشكل يجعل الجواب الممكن على السؤال الذي تحدثنا عنه أول هذا الكلام مفهوماً انطلاقاً من صراع داخلي كان يعيشه نابوكوف تجاه فرنسا ربما كان هو ما حال بينه وبين أن يكتب نصوصاً كاملة بلغتها رغم معرفته التامة بهذه اللغة!