ملخص
الرسام الأميركي جاكسون بولوك أوصل الأساليب الفنية الحديثة إلى قلب الولايات المتحدة وانتهت حياته باكراً بحادث سير مريع
في الحادي عشر من آب (أغسطس) 1956، حصل حادث سير من ذلك النوع العادي الذي يحصل آلاف المرات في كل يوم. لكن ذلك الحادث بالذات أتى يومها ليضع نهاية لحياة واحد من أبرز الفنانين التشكيليين الأميركيين، بل الفنان الذي كان - ولا يزال - يقال عنه إنه كان هو الذي اخترع الحداثة الفنية في أميركا الشمالية، وأخرج اللوحة الأميركية من ثنايا واقعيتها التبسيطية، إلى عالم التجريد والخطوط العابثة والألوان المتداخلة، ذلك العالم الذي احتاج إلى سنوات عدة قبل أن يفرض نفسه على عالم العقلانية الأميركية الباردة. وهو ما عبر عنه بعد رحيل جاكسون بولوك على ذلك النحو المريع بـ12 عاماً السينمائي الإيطالي مايكل أنجلو أنطونيوني ليس فقط في مشهد واحد من فيلمه الإنجليزي "بلو – آب" (1968)، بل في منطق الفيلم ككل على عكس ما أفتى النقاد والباحثون يومها، على رغم أن لا وجود على الإطلاق لبولوك وفنه في القصة القصيرة "ابن العذراء" للكاتب الأرجنتيني خوليو كورتاثار التي اقتبس أنطونيوني فيلمه عنها. والمشهد المذكور يصور اشتغال رسام تجريدي يشبه في ملامحه وسحنته بولوك على لوحة ضخمة له تكاد تختصر غموض أحداث الفيلم والتباساته. ومهما يكن فإن فيلم أنطونيوني لم يكن التحية الوحيدة التي وجهها الفن السابع إلى ذلك الرسام المؤسس الكبير، بل سيحقق في هوليوود بعد ذلك بما يقرب من عقدين فيلماً يدور بأكمله من حول حياة جاكسون بولوك وفنه ونهايته، قام فيه بالدور الممثل إد هاريس الذي يشبه في الحقيقة جاكسون بولوك شبهاً مدهشاً!
أوروبا على الخط
والحقيقة أن دزينة السنوات التي مرت بين رحيل بولوك وبدء اهتمام السينما به، تزامنت مع تفوق الأوساط الفنية الأوروبية على السينما بذلك الاهتمام. فلقد شهدت تلك السنوات اهتماماً فائقاً بفن التعبيرية التجريدية الذي ارتبط ببولوك وجعله يعتبر في أوروبا زعيماً للحداثة الفنية الأميركية التي راحت تصل إلى القارة العجوز آتية من نيويورك خاصة معلنة عن نفسها أوروبية الهوى على رغم هويتها الأميركية التي جعلت علم الولايات المتحدة جزءاً دائماً من مواضيع ومضامين اللوحات. وهو أمر كان لافتاً للنظر حقاً. ومع ذلك بالكاد نظر الأميركيون أول الأمر بعين الجدية إلى لوحات جاكسون بولوك المرسومة على طريقة التنقيطـ، يضع حيث يضع الرسام لوحة بيضاء على الأرض، ثم يترك الألوان تنزل فوقها تنقيطاً بشكل عشوائي فتتداخل في ما بينها وتتقاطع وتتراكم لينتج من هذا كله مشهد كان من العسير على الأميركيين أن يفهموا كنهه أول الأمر. ولنشر هنا على أية حال إلى أن تلك الوضعية الأدائية هي بالتحديد موضوع وشكل المشهد الذي صوره أنطونيوني في فيلمه المذكور أعلاه. وهو مشهد يدور في محترف – أو بيت – رسام يعيش وامرأته في جوار مسكن المصور، الشخصية المحورية في الفيلم، والذي كان قد التقط البارحة صوراً فوتوغرافية في متنزه عام خيل إليه أنها التقطت صورة جثة مرمية بين الأعشاب وذلكم هو موضوع الفيلم وحبكته على أية حال.
اهتمام أميركي مباغت
ومن دون أن نصل هنا إلى القول بأن فيلم أنطونيوني أو حتى النقد الأوروبي المتحمس كانا ما أثار اهتمام الأميركيين برسامهم النيويوركي الراحل يمكننا التأكيد على أن ولادة ذلك الاهتمام قد تزامنت حقاً مع الفيلم والحماسة الأوروبيين إلى درجة أنه حين حققت هوليوود سيرة بولوك في الفيلم الذي كرس له، كان الرجل قد أضحى "بطلاً قومياً" وراحت كبريات المتاحف والمعارض تتنافس للحصول على لوحاته مع أصحاب المجموعات الخاصة، كما راح الأميركيون يتناقلون سيرته رابطينها بابتكاراته الفنية التي باتوا يرون الآن أنها تستحق الشهرة العالمية الواسعة التي راحوا يتحسرون، ولو متأخرين "لأن الموت المباغت الذي حلّ به لم يعطه ما يكفي من الوقت حتى يعززها". وتلك كانت الحقيقة على أية حال ذلك أن جاكسون بولوك رحل عن عالمنا وكان بعد في الرابعة والأربعين من عمره، وكان لا يزال يعد بالكثير من العطاء.
تجريد أميركي
اليوم، بعد أكثر من ثلثي قرن مضت على رحيل بولوك، ينظر إليه تاريخ الفن في القرن العشرين وما يليه، على أنه واحد من أساطين التيار التجريدي، وأن لوحاته هي التي يسجل تاريخ رسمها تاريخ ولادة الفن الأميركي وانتهاجه الأساليب الأوروبية. هذا الأمر قد لا يروق للكثيرين طبعاً، وبخاصة منهم أولئك الذين يسبغون أهمية فائقة على تلك اللوحات التصويرية الكلاسيكية شديدة الأميركية، - والتي تروي تاريخ أميركا والذهنيات الأميركية بنغمة قومية لا تخلو من جمال غالباً ولكن من سذاجة في بعض الأحيان واقفة على النقيض التام من فن جاكسون بولوك ورفاقه الذين يصعب إحصاؤهم هنا -، أو على لوحات إدوارد هوبر ذات المزاج العزلوي الفردي غالباً والمضاد لجماعية الحلم الأميركي.
ولكن، سواء كان الناس من المعجبين بلوحات بولوك، أو المتسائلين عما إذا كانت لها قيمة حقيقية، فإن أحداً لا يمكنه أن ينكر أهمية ذلك الفنان الذي ولد عام 1912 في ولاية وايومنغ، وترعرع وسط رحاب "الغرب" الأميركي الفسيح، وبدأ بدراسة الرسم في لوس انجليس عام 1929، ثم حين بدأ يرسم فعلاً كان اتجاهه الأول اتجاهاً واقعياً ثورياً، حيث نراه بعد مبارحته كاليفورنيا، يعيش ردحاً من الزمن في صحبة الرسام الجدراني المكسيكي الشهير أوروزكو. بيد أن بولوك سرعان ما سئم ما كان يراه من "سطحية في الرسوم الجدرانية التي تكاد تكون لوحات فوتوغرافية" وعاد إلى نيويورك التي سوف يعيش ويعمل فيها خلال سنوات كثيرة تالية مما تبقى له من عمره. وهو، بعد تجوال قاده إلى شتى المناطق الأميركية راكم من خلاله ألوان أميركا وأشياءها وراح يتساءل عما إذا كان الفن المباشر قادراً على التعبير عن جوهر الروح الشمولية الأميركية.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
نيويورك الأوروبية
في نيويورك، وجد بولوك نفسه على احتكاك مباشر مع الفن الأوروبي، ووجد في الأساليب التجريدية ضالته المنشودة. ومن هنا لئن تبدت لوحاته منذ ذلك الحين أوروبية النزعة في أشكالها وألوانها، فإن ما لفت الأنظار إلى تلك اللوحات حقاً، كان ذلك البعد الإضافي الذي كان بعداً أميركياً خالصاً: العنف الطبيعي، والطزاجة البدائية إضافة إلى الرغبة المطلقة في التعبير. وهكذا امتزجت لديه الرؤية الأوروبية بالرؤية الأميركية، فراح ينتج تلك اللوحات العجيبة (في نظر البعض) والمدهشة (في نظر البعض الآخر) التي رسمها بطريقة التنقيط التي كان ماكس إرنست مبتكرها الأول في فرنسا طبعاً. ولا بد هنا أن نختم هذا الكلام عن فن جاكسون بولوك باستعارة ما يقوله مؤرخ الفن أ. جوفروا: "إن كل ما رسمه جاكسون بولوك إنما يحمل طابع الثورة المستمرة، ثورة الفنان على ذاته وعلى بيئته، وكذلك ثورته على النزعة الأكاديمية القديمة، وعلى النزعة الامتثالية الحديثة. إن انحرافاته نفسها إنما تعبّر في نهاية الأمر عن شكوكه وتناقضاته، وكذلك عن المصادمات التي كان هو، وفي الوقت نفسه، المنتصر والضحية فيها سواء بسواء".
ولا بد أن نعود هنا أخيراً إلى التشديد على ما ذكرناه أعلاه من أن أوروبا كانت هي التي اكتشفت بولوك منذ سنوات الخمسين إلى جانب زملائه الأميركيين آرشيل غوركي وماذرويل ودي كوننغ ولشتنشتاين، فعرفت كيف تجعل لهم مكانة تزداد اليوم أهميتها، ليس في تاريخ الرسم الأميركي وحده، بل كذلك في تاريخ الرسم في القرن العشرين، وكان هذا أمراً جديداً بالنسبة لأميركا التي كانت كل مساهماتها في تاريخ الفن قبل ذلك مجرد مساهمات محلية.