Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

يوم تمكن جاكسون بولوك ورفاقه من "أمركة" الفن الأوروبي

نقاط مرمية عشوائيا تكون صورة للحياة وألغازها

جاكسون بولوك مع إحدى لوحاته عام 1953 (غيتي)

لم يكن مجرد مواطن أميركي ذاك الذي قضى عليه خلال شهر أغسطس (آب) من عام 1956 حادث سير من النوع العادي جداً، والذي يحصل آلاف المرات في كل يوم، فذلك الحادث بالذات أتى يومها ليضع نهاية لحياة واحد من أبرز الفنانين التشكيليين الأميركيين، بل الفنان الذي كان- ولا يزال- يقال عنه إنه كان هو الذي اخترع الحداثة الفنية في أميركا الشمالية، وأخرج اللوحة الأميركية من ثنايا واقعيتها، إلى عالم التجريد والخطوط العابثة والألوان المتداخلة، ذلك العالم الذي احتاج إلى سنوات عديدة قبل أن يفرض نفسه على عالم العقلانية الأميركية الباردة.

مشهد أوصله إلى العالم الخارجي

وهو فعل ذلك عن طريق عدد كبير من لوحات تمكن من إنجازها خلال السنوات القليلة التي عاشها. وهي سنوات انتهت على أي حال قبل أن يقيض لـ"العالم الخارجي" أن يعرفه. ولعل في مقدورنا هنا أن نشير إلى أمر سيبدو في هذا السياق غريباً. وهو أن العالم إنما بدأ اهتمامه بجاكسون بولوك وفنه بطريقة "مواربة" بعض الشيء: من خلال مشهد في فيلم إنجليزي من إخراج الإيطالي مايكل أنجلو أنطونيوني عنوانه "بلو – آب". بدا أول الأمر أنه لا يمت بصلة إلى فن هذا المبدع، لكن النقاد والمعلقين ما لبثوا أن ربطوا بينه وبين فن "التنقيط" الذي كان بولوك من أسياده إن لم يكن مبتكره. ففي المشهد يمر بطل الفيلم وهو مصور فوتوغرافي بمنزل جار له ليلتقي زوجته فيجد الجار الرسام منحنيا على أرض غرفة وهو ينثر الألوان بشكل عشوائي فوق لوحة بيضاء وضعت مسطحة على أرض الغرفة.

لاحقاً سيدرك المتفرجون أن اللوحة تشبه لوحات فنان أميركي بالكاد كانوا سمعوا اسمه لكنهم سوف يعتادون عليه بعد ذلك: جاكسون بولوك. غير أن الأهم من ذلك هو أن موضوع الفيلم كله مركب على فكرة الجوهر والظاهر. الحقيقة والخيال، وذلك من خلال صور فوتوغرافية يلتقطها المصور في حديقة عامة وتبدو أول الأمر محايدة حيث تتراكم الأعشاب والنباتات بشكل يوحي بأنها لا تعبر إلا عن ذاتها.

اكتشاف متدرج

بعد ذلك، وبالتدريج، إذ يكبر المصور لوحاته سيكتشف أن ثمة في خلفية ذلك الظاهر أشكالاً تتضح أكثر وأكثر حتى الوصول إلى الاعتقاد بأن ثمة أشكالاً بشرية ملقاة هناك بين الأعشاب. طبعاً لدينا هنا في الفيلم مفاتيح لحل لغز بوليسي، غير أن ذلك لم يكن يهم المخرج ولو أنه عمود الفيلم الفقري. ما يهمه كان ذلك "اللغز" المخبوء خلف النقاط. المعنى الذي يمكن تلمسه من خلال ظاهر يبدو غير ذي معنى. وانطلاقاً من هذه الفرضية، أصبح للفيلم معنى آخر تماماً، وصار في مقدور النقاد الأكثر تبصراً فهم مغزى المشهد الفني، وبالتالي العودة إلى فن ذاك الذي يظهر في الفيلم، أول الأمر من دون أن ندرك لماذا.

وفي هذا السياق قد يكون مفيداً أن نذكر أن السينما الأميركية عادت بعد ذلك بما لا يقل عن عقدين لتقدم فيلماً عن حياة جاكسون بولوك في وقت لم يعد فيه مجهولاً حتى وإن كان الفيلم الجديد قد أتى "بيوغرافيا" لا يتعمق في مفهوم الظاهر والباطن ولا في ثورة فنية تشتغل على خلق فن جديد يرتبط بمفاهيم فلسفية. وفي يقيننا أنه لو كان بولوك حياً وشاهد الفيلمين لاعتبر فيلم أنطونيوني أكثر تعبيراً عن فنه وحياته وما كان يطلبه من الفن. بل حتى ما حول به حداثة الفنون الأوروبية، لا سيما ما ارتبط منها بتيار التعبيرية التجريدية الذي ينسب بخاصة إليه، ليعتبر من أهم الإنجازات الحداثية في تاريخ الفن الأميركي.

دور الألوان في "تلغيز" الحياة
ومع هذا لا بد من الإشارة إلى أن الأميركيين بالكاد نظروا أول الأمر بعين الجدية إلى لوحات جاكسون بولوك المرسومة على طريقة التنقيط- حيث كان الرسام يضع لوحة بيضاء على الأرض، كما يرينا فيلم "بلو– آب" تماماً- إنما من دون أن يشير إلى أن الرسام هنا هو جاكسون بولوك، طبعاً. فأحداث الفيلم تدور بعد سنوات من موته وفي لندن التي لم يكن لها علاقة بفنه- ثم يترك الألوان تنزل فوقها تنقيطاً بشكل عشوائي متداخلة في ما بينها لتتقاطع وتتراكم لينتج عن هذا كله مشهد كان من العسير على الأميركيين أن يفهموا كنهه أول الأمر.
غير أنهم سرعان ما تعودوا، بعد ذلك، على تلك اللوحات، وبدأ جاكسون بولوك يحوز تلك المكانة الواسعة التي لم يمهله الموت المباغت الذي حل به حتى يعززها. فهو مات وكان بعد في الرابعة والأربعين من عمره، وكان لا يزال يعد بكثير من العطاء.
اليوم، بعد نحو ثلثي القرن من رحيل بولوك، ينظر إليه تاريخ الفن في القرن العشرين على أنه واحد من أساطين التيار التجريدي، وأن لوحاته هي التي يسجل تاريخ رسمها تاريخ ولادة الفن الأميركي وانتهاجه الأساليب الأوروبية. هذا الأمر قد لا يروق لكثيرين طبعاً، وبخاصة منهم أولئك الذين يسبغون أهمية فائقة على تلك اللوحات التصويرية التي تروي تاريخ أميركا والذهنيات الأميركية، أو على لوحات إدوارد هوبر ذات المزاج العزلوي المضاد لجماعية الحلم الأميركي.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

تلميذ للفن الجدراني
ولكن، سواء كان الناس من المعجبين بلوحات بولوك، أو المتسائلين عما إذا كانت لها قيمة حقيقية، فإن أحداً لا يمكنه إنكار أهمية ذلك الفنان الذي ولد العالم عام 1912 في ولاية وايومنغ في رحاب "الغرب" الأميركي الفسيح، وبدأ بدراسة الرسم في لوس أنجليس عام 1929، ثم حين بدأ يرسم فعلاً كان اتجاهه الأول اتجاهاً واقعياً ثورياً، حيث نراه بعد مبارحته كاليفورنيا، يعيش ردحاً من الزمن في صحبة الرسام الجدراني المكسيكي الشهير أوروزكو. بيد أن بولوك سرعان ما سئم ما كان يراه من "سطحية في الرسوم الجدرانية التي تكاد تكون لوحات فوتوغرافية" وعاد إلى نيويورك، بعد تجوال قاده إلى شتى المناطق الأميركية راكم من خلاله ألوان أميركا وأشياءها، وراح يتساءل عما إذا كان الفن المباشر قادراً على التعبير عن جوهر الروح الشمولية الأميركية.
في نيويورك، وجد بولوك نفسه على تصادم مباشر مع الفن الأوروبي، ووجد في الأساليب التجريدية ضالته المنشودة. ومن هنا لئن تبدت لوحاته منذ ذلك الحين أوروبية النزعة في أشكالها وألوانها، فإن ما لفت الأنظار إلى تلك اللوحات حقاً، كان ذلك البعد الإضافي الذي كان بعداً أميركياً خالصاً: العنف الطبيعي، والطزاجة البدائية إضافة إلى الرغبة المطلقة في التعبير. وهكذا امتزجت لديه الرؤية الأوروبية بالرؤية الأميركية، فراح ينتج تلك اللوحات العجيبة (في نظر البعض)، والمدهشة (في نظر البعض الآخر) التي رسمها بطريقة التنقيط التي كان ماكس إرنست مبتكرها الأول.

ثورة فنية مستمرة
عن فن جاكسون بولوك يقول مؤرخ الفن أ. جوفروا "إن كل ما رسمه جاكسون بولوك، إنما يحمل طابع الثورة المستمرة، ثورة الفنان على ذاته وعلى بيئته، وكذلك ثورته على النزعة الأكاديمية القديمة، وعلى النزعة الامتثالية الحديثة. وانحرافاته نفسها تعبر في نهاية الأمر عن شكوكه وتناقضاته، وكذلك عن المصادمات التي كان هو، وفي الوقت نفسه، المنتصر والضحية فيها سواء بسواء".

ونذكر في هذا الإطار أن أوروبا اكتشفت بولوك منذ سنوات الخمسين إلى جانب زملائه الأميركيين آرشيل غوركي وماذرويل وكونيغ، فعرفت كيف تجعل لهم مكانة تزداد اليوم أهميتها، ليس في تاريخ الرسم الأميركي وحده، بل كذلك في تاريخ الرسم في القرن العشرين، وكان هذا أمراً جديداً بالنسبة لأميركا التي كانت كل مساهماتها في تاريخ الفن قبل ذلك مجرد مساهمات محلية. أما حين كانت تطل على أوروبا، فكانت إطلالاتها مفتعلة حتى جاء بولوك، وعدد من رفاقه ليستحوذوا على ذلك البعد الأوروبي ويؤمركوه!

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة