Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

اتجاه واحد للنيل... حكايات سودانية في المرفأ المصري

نازحون ودعوا ذكرياتهم في رحلة الفرار نحو الشمال تاركين بيوتهم هدفاً للنهب والهدم

أمواج الفارين تتلاطم مع موجات العنف كأنها ظلمات بعضها فوق بعض (أ ف ب)

ملخص

خلال رحلة الفرار من السودان إلى مصر كان هشام يتواصل مع زوجته هاتفياً للاطمئنان عليها وعلى ابنته، يخشى الرجل أن يصيبهما أذى، ويعدهما بالعودة في أقرب فرصة ممكنة... هنا حكايات مؤلمة للفارين نحو الشمال

مأساة جديدة كان السودانيون على موعد معها، تضيف إلى البلد المأزوم اقتصادياً وصحياً وغذائياً أعباء ومآسي أخرى. وما بين البقاء تحت أزيز الطائرات، وأعمدة الدخان، وأصوات رصاص الجيش والدعم السريع، والفرار من جحيم الاشتباكات التي أرقت البلاد وأهلها، رحلة وإن كانت أقل وطأة من نار المعارك المشتعلة، إلا أنها محفوفة بالمخاطر والمعاناة وكثير من القلق.

أمواج الفارين تتلاطم مع موجات العنف في بحر التشتت، فكأنها ظلمات بعضها فوق بعض، لا يرى سودانيون فيها وجهة ولا مصيراً، ولا ضوء في العتمة يبشر باقتراب نهاية تلك المحنة. وما بين عالق في السودان، وآخر نجح في الفرار منها. يتابع هشام الكردي المواطن السوداني، ما يحدث مع أبناء وطنه، وهو يجلس في منزل بحي مدينة نصر في العاصمة المصرية (القاهرة)، بعد أن تمكن من الخروج من بلاده.

متابعة مستمرة

لا ينفك الكردي، ذو الـ41 عاماً، متابعة جميع ما يحدث في السودان، رغم مرور شهر على بداية الاشتباكات التي أطلقت رصاصتها الأولى في 15 أبريل (نيسان) الماضي، ولم تتوقف آلة القتل منذ ذلك التوقيت، ووصل عدد القتلى حتى اليوم إلى أكثر من 600 شخص، بحسب منظمة الصحة العالمية.

لا يهتم الرجل بمن أطلق الرصاصة الأولى، ومن يطلق الأخيرة، كل ما يشغل باله، أن تنخفض أعداد القتلى، المهدر دمهم في تلك الاشتباكات، من دون أن يكون لهم مطامع أو مصلحة، سوى استقرار بلدهم، وعودة الحياة كما كانت، رغم ما تحمله من قسوة وأوضاع بالغة الصعوبة.

ودع سودانيون ذكرياتهم، وحياتهم التي عاشوها في بلدهم. تركوا أقارب وجيراناً ومعارف، ومتعلقات يستحيل نقلها، ومن الصعب التكهن بعثورهم عليها بعد ذلك، إذ إنها هدف محتمل لركام أو نهب. وكان الكردي أحد هؤلاء.

هشام، الذي يعيش في ولاية الخرطوم، كان للتو قد عاد للسودان بعد رحلة عمل في مصر. للغربة أحكامها وقسوتها، لكنها رحلة المضطر وسط الظروف الاقتصادية بالغة الصعوبة التي يعشيها السودانيون. جلس الرجل أسبوعاً مع زوجته وطفلته الصغيرة، قبل أن تبدأ الاشتباكات. كان محظوظاً، بحسب تعبيره، بوجوده إلى جانب زوجته وطفلته وأسرته، في ذلك التوقيت، وإلا فإن القلق كان ليسيطر عليه.

خلف الجدران

مع بداية الاشتباكات، حاول الرجل وأسرته المكوث في المنزل لأطول فترة ممكنة، خشية التعرض لإصابة جراء طلقة نارية أو قصف، لكن الاختباء خلف جدران المنزل طيلة اليوم ليس حلاً.

يقول الكردي في حديثه لـ"اندبندنت عربية"، إنه زار مصر منذ عامين، ثم بدأ العمل في مجال السياحة العلاجية، وأسس شركة له، بعد أن ضاقت به الظروف الاقتصادية الصعبة في بلاده، وكانت زوجته معه، وأنجبت طفلتهما الأولى، فعادت بها إلى السودان، ومنذ ذلك التوقيت، وهو يسافر من القاهرة إلى الخرطوم كل أربعة أو ستة أشهر، لكنه يترك والده ووالدته في القاهرة "كانت زوجتي مضطرة للعودة، والدها مريض ولا يستطيع الحركة أبداً".

ظل الرجل محتمياً بجدار منزله، على مدار أسبوع كامل، حتى كان اليوم الأول لعيد الفطر. تكبيرات العيد اختلطت بتكبيرات الخوف، وشتان ما بين الاثنين. لم يكن ثمة عيد في السودان، كانت آلة القتل تحصد الأرواح وتروع الآمنين، والبلاد تموج في قلق بالغ، إلى أن قرر التحرك إلى مصر "كنت مضطراً للعودة إلى القاهرة، فأسرتي نساء وأطفالاً يحتاجون إلى مكان آمن، وكان علي أن أخرجهم سريعاً من السودان".

للحرب نيرانها

ظل هشام بين ثلاث نيران، الأولى لا تقع ضمن سلطته، وهي نار الاشتباكات المشتعلة، من دون أن تفلح مبادرة أو جهود لإخماد نارها، أو على الأقل أن تخفت حدتها، لكن الثانية والثالثة أرقتاه أكثر من الأولى، فكان عليه أن يختار ما بين الجلوس مع زوجته وطفلته، نظراً إلى صعوبة تحريك والدها والسفر به من الخرطوم إلى القاهرة، أو أن يتحرك بجدته وخالاته وأطفالهن وبعض كبار السن، لخبرته في السفر ما بين السودان ومصر "كانت هذه معضلة صعبة، لكنني اخترت الخيار الثاني".

ثالث أيام عيد الفطر، 23 أبريل الماضي، كان أتوبيسان جاهزين لنقل هشام ومن معه، كثيرهم من الأقارب وقليلهم من الجيران والمعارف والأصدقاء، ويحمل كل أتوبيس 48 راكباً، وفي حين أنه كان يدفع ما بين 20 و25 ألف جنيه سوداني (نحو 41.5 دولار)، نظير تحرك الأتوبيس من الخرطوم إلى معبر أرقين، كان على كل شخص أن يدفع 300 ألف جنيه سوداني (500 دولار)، وهو رقم كبير لم يكن في حسبانه، على أن تلك لم تكن سوى أول عقبة، وإن كان التغلب عليها صعباً.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

وبحسب منظمة الهجرة الدولية، التابعة للأمم المتحدة فإنه وحتى التاسع من مايو (أيار) الجاري، بلغ عدد النازحين داخلياً في السودان 700 ألف شخص، وقد كانت أعدادهم قبل الاشتباكات تزيد على هذا الرقم بثلاثة ملايين.

وبحسب المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين، فإن ما لا يقل عن 150 ألف سوداني غادروا بلادهم وحدودهم. ووفقاً المنظمة الدولية لشؤون اللاجئين، فإن أكثر الدول استقبالاً للاجئين من السودان هي مصر، يليها تشاد وجنوب السودان، ثم إثيوبيا، ثم جمهورية أفريقيا الوسطى.

طريق غير ممهد 

حمل الأتوبيسان أقارب هشام ومعارفه، وتحركا بهم لكن خلال الرحلة التي تخللها أكثر من إذن للعبور، وإظهار تأشيرات للدخول، تعطل أحد الأتوبيسين بسبب غرزه في رمال أحد الطرق غير الممهدة، واسودت الدنيا في وجه الرجل ومن معه.

كان موقع الأتوبيس آنذاك قبل معبر أرقين البري مع مصر بنحو 170 كيلومتراً، في الثامنة والنصف مساء، وظلت محاولات إخراجه مستمرة حتى التاسعة من صباح اليوم التالي، وكانت تلك الليلة قاسية على الجميع، حتى ظهرت لهم سيارة نقل كبيرة، لا تصلح إلا لنقل البضائع لا الركاب، لكن صاحبها عرض المساعدة نظير 200 ألف جنيه سوداني (333 دولاراً أميركياً) للركاب جميعاً، فاختار هشام كبار السن والأطفال للركوب أولاً، ثم ظهرت لهم سيارات أخرى وقد فرغت بعض مقاعدها، لعدم وجود تأشيرات معهم، فوضع فيها من تبقى من الأتوبيس العالق.

وصل الجميع أمام معبر أرقين، من الجانب السوداني، أظهر هشام ومن معه أوراقهم الثبوتية وجوازات السفر والتأشيرات، للرجال ما بين 18 عاماً حتى 50 عاماً، أما الآخرون ممن هو دون أو أكبر من ذلك العمر فلا يلزم تأشيرة للدخول، إضافة إلى السيدات جميعاً "هنا تخلف اثنان عنا ووصلا إلى حلفا للحصول على تأشيرة، لكن الزحام وكثرة الطلبات والموافقات الأمنية أخرتهما حتى هذه اللحظة، ولم يصلا بعد".

مصر والفارون 

وبحسب تصريحات متلفزة لمتحدث الخارجية المصرية، فإن "القاهرة ضخت أعداداً أكبر من المسؤولين بالمنافذ الحدودية، والقنصلية المصرية في وادي حلفا وبورتسودان تعمل على مدار الساعة، وأجهزة الدولة تعمل على مدار اليوم للتعامل مع الشق الإنساني لهذه الأزمة".

على البوابات الحدودية، تعاون الجانب المصري مع الحالات المرضية، بحسب ما يروي هشام الكردي ثم كان دور الهلال الأحمر الذي أوصلهم إلى المستشفيات، بعد رحلة امتدت لـ48 ساعة، قاسية على الرجل ومن معه، قطعوا فيها أكثر من 700 كيلومتر.

وفي تلك اللحظة غادر الأتوبيس الذي كان معهم، فلجأ الرجل إلى باصات لنقله ومن معه من معبر أرقين إلى مدينة أسوان المصرية، ثم إلى موقف حافلات كركر التي تبعد عن قلب أسوان 30 كيلومتراً، نظير 400 جنيه مصري للفرد، وكانت في السابق بـ100 جنيه أو 150 جنيهاً مصرياً فقط. ومن أسوان إلى القاهرة، طلب الكردي سيارة إسعاف خاصة لخالته الكبيرة في السن، واستقل الإسعاف معها ومع بناتها إلى القاهرة مقابل ستة آلاف جنيه مصري.

 

 

وسهلت مصر عبور 16 ألف شخص، من غير المصريين عبر منافذها الحدودية مع السودان، حتى 27 أبريل الماضي، بحسب إفادة للمتحدث الرسمي باسم وزارة الخارجية المصرية أحمد أبوزيد، قائلاً إن "أعداد العابرين من الأشقاء السودانيين تجاوزت أكثر من 14 ألف مواطن، كما بلغ عدد العابرين إلى مصر ما يزيد على ألفي مواطن أجنبي من 50 دولة وست منظمات دولية".

لكن وفي السابع من مايو (أيار) الجاري، كان 50 ألف مواطن سوداني قد وصلوا إلى مصر، بحسب مداخلة تصريحات متلفزة لمتحدث الخارجية المصري، فيما أفادت المفوضية السامية لشؤون اللاجئين، بأن أكثر من 65 ألف سوداني وصلوا إلى مصر منذ بداية الاشتباكات حتى السابع من مايو (أيار) الجاري.

خلال رحلة الفرار من السودان، كان هشام يتواصل مع زوجته هاتفياً، للاطمئنان عليها وعلى ابنته، يخشى الرجل أن يصيبهما أذى، ويعدهما بالعودة في أقرب فرصة ممكنة، لكنه خلال تلك الفترة يحاول العمل في أكثر من مجال لتغطية حاجات الزائرين الجدد معه، الذين وصلوا للقاهرة لأول مرة في حياتهم مثل خالته وبناتها، وأبناء خاله.

أعباء اقتصادية

ما بين الجنيه السوداني والمصري فارق كبير، وما بين الأخير والدولار فارق أيضاً، وإن كان أفضل حالاً من نظيره السوداني، ما يفرض على الفارين من السودان هماً معيشياً إضافياً، إذ تصل قيمة الدولار الأميركي أمام الجنيه السوداني 600 جنيه، وفي مصر فإن الدولار يصل إلى نحو 31 جنيهاً مصرياً "هذه كلفة اقتصادية كبيرة، تلزمني البحث عن أكثر من عمل، والبعض من أسرتي جاء معي للسكن في مدينة نصر بالقاهرة، والآخرون سكنوا في حي المهندسين بمحافظة الجيزة".

وتضم مصر لاجئين وفارين من عدة دول على رأسهم سوريا، وفي المركز الثاني السودان، لتسمح باستضافة أعداد أخرى من الفارين على وقع الاشتباكات الأخيرة. 

في ظل تلك الأجواء، يجد هشام نفسه محظوظاً، إذ كانت لديه تأشيرة لمصر، فلم يقف في طوابير طويلة للحصول على تأشيرة من وادي حلفا التي باتت وجهة لكثير من الفارين من السودان أو بورتسودان، كما لم يتعرض لمواقف نهب وسلب وتفتيش قاس في بعض الأكمنة، كما حدث مع آخرين يتواصلون معه بين الحين والآخر، للاستفسار منه عن طرق الوصول إلى لقاهرة بشكل آمن.

مساعدات بحكم الخبرة

هذا الدور الذي يلعبه هشام، يقوم به آخرون من أبناء السودان الذين زاروا مصر  غير مرة أو استقروا بها لسنوات طويلة، وتقدر المنظمة الدولية للهجرة، التابعة للأمم المتحدة عدد السودانيين في مصر بنحو أربعة ملايين، فيما تصل أعداد اللاجئين والطلاب المسجلين بالمفوضية السامية للاجئين في مصر إلى أكثر من 110 آلاف سوداني.

على مواقع التواصل الاجتماعي، ظهرت عدة منشورات مختلفة بالمجموعات التي تضم سودانيين، تتحدث عن كيفية التحرك من الخرطوم للقاهرة، وحول أفضل الأماكن للسكن فيها بمصر، والمطاعم التي تقدم طعاماً سودانياً كذلك. من أصغر التفاصيل إلى أكبرها، وهو دور يعتبره الكردي له أهمية كبيرة، لمن لم يزوروا مصر من قبل "هذا ما تفرضه علينا الأزمات، ولمسنا من مصريين أيضاً محبة كبيرة، ومحاولة تسهيل بعض الأمور علينا خلال تلك الفترة".

يشير المحامي الحقوقي المصري ياسر فراج مدير مكتب "حق" للمحاماة ودعم اللاجئين، في تصريحات خاصة، إلى إشكاليات عدة تواجه السودانيين الفارين من بلدانهم، وعلى رأسها أن كثيراً منهم لم يستخرج جواز سفر "وهذه إشكالية، فالمؤسسات لا تعمل، ويتعرض بعضها للقصف".

البحث عن تأشيرة

الأعمال القنصلية المعطلة، إلا في وادي حلفا وبورتسودان، تسببت بزحام كبير وتكدس في انتظار الهرب من الأوضاع الملتهبة بالسودان، من معبري أرقين أو قسطل، الحدوديين مع مصر. وفي بعض الأحوال لا يتمكن الرجال من الحصول على تأشيرة نتيجة الزحام والتكدس، ولا تستطيع الأم أن تخرج من الدولة بابنها أو ابنتها بمفردهم، في حال ضياع أو تلف الأوراق الثبوتية الخاصة بالأبناء "هنا على سبيل المثال يلزم وجود الزوج، وإلا فلن تخرج الأسرة". ويرجو المحامي الحقوقي أن تزيد السلطات المصرية أعداد العاملين على المعابر وفي القنصليات لتسهيل خروج تلك الأعداد الكبيرة من النازحين.

 

 

وتمنح مصر التأشيرات للسودانيين لمدة ستة أشهر، ثم ينبغي تجديدها بعد ذلك التوقيت، بتقديم مستندات مختلفة، كعقد إيجار موقع عليه من المؤجر، وإثبات مرافق السكن سواء إيصال كهرباء أو ماء، وذلك في أهداف غير العمل أو الدراسة، وهي مشكلة يعتبرها المحامي الحقوقي روتينية في حاجة إلى تغيير.

تابع أشرف سليمان محادثات جدة التي تجمع الأطراف السودانية المتنازعة، على أمل وقف دائم لإطلاق النار، والامتناع عن شن أي هجوم يضر بالمدنيين، بالتوقيع على إعلان مبادئ بين الجيش السوداني والدعم السريع، بعد اختراق أكثر من هدنة بين الطرفين.

يتابع أيضاً وهو يجلس داخل مقر سكنه الجديد في حي العجوزة بمحافظة الجيزة بمصر، أخبار المقربين منه، وزملاء العمل الذين تركهم ورحل إلى الجارة الشمالية بعد الاشتباكات، آملاً أن تتوقف الاشتباكات ليعود إلى بلده من جديد.

يتألم أشرف ذو الـ39 عاماً، مع الأخبار التي تصله عن بلاده، وما يستمع إليه عبر الهاتف من رسائل زملائه وجيرانه ومعارفه هناك. انقطاع الماء والكهرباء لساعات وربما أيام، أمر مقلق. ارتفاع أسعار المواد الغذائية بات متسارعاً. الرعب يدب في قلوب المواطنين، ولا ملامح للخروج من الأزمة.

تهالك المرافق

الخميس الماضي، تحدث مدير منظمة الصحة العالمية، تيدروس أدهانوم غيبريسوس، حول أنباء عن تفشي الملاريا وحمى الضنك والحصبة في السودان. محذراً من أن ملايين الأطفال والحوامل يعانون سوء حاد في التغذية، ومع تراجع إمدادات المياه والكهرباء والغذاء والأدوية فإن 70 في المئة من المنشآت الصحية في المناطق المتأثرة بالقتال وما حولها خرجت عن الخدمة.

كان السودان، يشهد من قبل الاشتباكات، أزمة في المرافق الصحية، ففي ديسمبر (كانون الأول) 2022، قالت منظمة الصحة العالمية إنه نتيجة لنقص التمويل الصحي، فإن 11 مرفقاً صحياً تم إغلاقها، ويواجه 49 مرفقاً آخر شبح الإغلاق، وهو أمر يضر بنحو مليون شخص، بينهم 323 ألف امرأة وطفل، لا يمكنهم الحصول على الرعاية الصحية الجيدة.

آنذاك حذرت المنظمة من احتمالية لزيادة عدد المتأثرين بمشكلة المرافق الصحية، ووقوع أوبئة بسبب إغلاق تلك المرافق وقلة فرص النازحين على خدمات صحية، ما ينشر الأوبئة والأمراض. وهي أمور ضاعفتها الاشتباكات الآن، لا سيما بعد هجوم على بعض المرافق الصحية والاستيلاء على سيارات الإسعاف.

نقص الخدمات تسبب في اتخاذ أشرف قراره بمغادرة السودان، متجهاً إلى مصر التي لم يزرها من قبل سوى مرتين على سبيل السياحة، لمدة ثلاثة أسابيع، لكنه وصل إليها، أخيراً، للهرب من تبعات الاشتباكات المسلحة في بلاده. يقول أشرف "الكهرباء والماء والغذاء والمرافق الصحية هي ما دفعتني للخروج، هذا وضع مقلق لا يمكن التعايش معه".

هدف غير مقصود

حين بدأت الاشتباكات، كان أشرف سليمان يسكن بالطابق الثالث، في أحد منازل منطقة بري بالعاصمة الخرطوم. وكان مقر عمله يقع على بعد ثلاثة كيلومترات من مقر القيادة العامة للقوات المسلحة السودانية، وقريب من القصر الجمهوري أيضاً، ما جعله هدفاً محتملاً وسط عشوائية القصف وإطلاق النيران، فاختار الرجل الذي يعمل مهندساً تقنياً، العودة إلى أم درمان، حيث منزل العائلة الكبير.

"كنت أخشى على نفسي من التعرض للنيران، ابتعدت عن الأماكن الملتهبة، واخترت المكوث في أم درمان، ولم يكن في نيتي مغادرة السودان قط"، يحكي الرجل الذي يعيش وحده في السودان، فقد غادرت العائلة منذ سنوات طويلة إلى دولة الإمارات العربية المتحدة، وله أقارب من الدرجة الثانية في مصر، وما بين الإمارات ومصر تنقلت العائلة قديماً، حين كان والده يدرس في الكلية العسكرية وتخرج فيها.

كانت الأسرة تتواصل مع أشرف بشكل يومي، يقنعونه بالسفر والخروج من السودان، لكنه مرتبط بعمل لدى عدة منظمات دولية، وغيرها ممن هم في حاجة إلى أعمال تقنية وتكنولوجية، لكن ومع استمرار الاشتباكات وتوقف العمل، وذهابه إلى أم درمان، وانقطاع الخدمات الرئيسة، فكر في أمر السفر لكنه لم يحسم قراره، إلا بعد أن انقطعت الكهرباء على مدار أكثر من 48 ساعة، ومع قلق الأسرة، أخبرهم بقراره بالرحيل من الخرطوم إلى القاهرة.

رحلة محفوفة بالمخاطر

السفر إلى مصر كان محفوفاً بالمخاطر، فجواز سفر الشاب في مكتبه الذي يقع على مقربة من القصر الجمهوري، فخاطر واتجه إلى هناك بسيارته، وتعرض لإطلاق النار في طريقه "هذه المنطقة لا يقترب منها كثيرون، كانت لحظات صعبة في حياتي".

قرر أشرف ترك سيارته على بعد ستة كيلومترات من مكتبه، وتحرك سيراً على الأقدام، حتى وصل إلى مكتبه وأخذ جواز سفره ثم عاد للسيارة ومنها إلى أم درمان من جديد "لم أكن لأفعل ذلك لولا أن أسرتي في حالة نفسية سيئة، وهم قلقون للغاية من أن يصيبني أذى، أم درمان كانت أهدأ كثيراً من الخرطوم".

في الأول من مايو (أيار) الجاري، تحرك أشرف من أم درمان، في أتوبيس دفع له 150 ألف جنيه سوداني (250 دولاراً)، ويعتبر نفسه محظوظاً بذلك المبلغ، إذ إن غيره كان يدفع أضعافه. تحرك الشاب في الواحدة ظهراً بتوقيت الخرطوم، في طريق يصل به إلى معبر أرقين، ثم إلى موقف كركر.

وداع الذكريات

ودع الشاب السوداني ذكرياته ومضى، هاتف زملاء العمل ممن يتقاضون مرتبهم منه، وأخبرهم بالأمر وانصرف. كان يفكر فيهم، وفي غلاء المعيشة، وفرصهم الضئيلة في الحصول على عمل في ظل تلك المعطيات على الأرض، لكنه وعدهم بالعودة من جديد.

"حين وصلت إلى المعبر، كانت معي أوراقي الثبوتية وجواز السفر وتأشيرة سارية حتى أغسطس (آب) المقبل، حتى إنني حملت أوراقاً تثبت التطعيم من الحمى الصفراء" قالها أشرف، الذي دخل من المعبر وخرج إلى موقف كركر، ومن هناك استقل قطاراً إلى القاهرة.

تجار الأزمات

بدأت رحلة أشرف في البحث عن شقة يسكن فيها، حيث مكان يسعه وحده، إذ ليس معه أحد، وكانت أسعار الإيجار مبالغاً فيها برأيه، حتى اهتدى إلى شقة سكنية في حي العجوزة نظير سبعة آلاف جنيه مصري (228 دولاراً) شهرياً "هذه الشقة كانت منذ شهرين بـ4500 جنيه مصري (147 دولاراً) فقط، هناك استغلال في الحقيقة، لكنه ليس لدى الجميع".

ويشتكي سودانيون ممن قدموا إلى مصر، من استغلال كثيرين الاشتباكات الدائرة في الخرطوم، في رفع أسعار التنقلات والسكن، سواء في الخرطوم أو القاهرة "الأوضاع الاقتصادية صعبة الجميع وهذا أمر مفهوم، لكن الاستغلال وقت الأزمات لا مسوغ له في رأيي، أسعار المواد الغذائية في السودان ارتفعت بشكل كبير، بعد بداية الاشتباكات، وأسعار التنقلات والسكن أيضاً".

ينتظر أشرف هدوء الأوضاع في السودان، وعودة بعض المنظمات لأعمالها كما كانت في السابق، ليعود إلى بلاده من جديد للعمل. يرجو ألا تطول تلك الفترة، وأن تفلح المساعي في إيقاف دائم للعمليات العسكرية، ليعود إلى طاقم عمله، لكنه حتى الآن، لا يعرف متى سيحدث ذلك، وكيف سيعيش خلال تلك الفترة، وفي أي عمل سينخرط إلى حين عودته للسودان من جديد.

المزيد من تحقيقات ومطولات