Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

نعمة سيئة السمعة... كيف ساد الجهل عصر المعلومات؟

يضم أكثر من 40 نوعاً منها "الاستراتيجي" الذي تمارسه الحكومات و"التنظيمي" في مؤسسات العمل ويمتد من الزعماء الكبار وحتى عتاة الثقافة

الجهل ليس سلبياً على إطلاقه فاعتراف المرء بما لا يعرفه يمكن أن يساعده في توجيه جهوده الفكرية  (أ ف ب)

ملخص

عصر #ديمقراطية_المعرفة بات هو أيضاً عصر #طغيان_الجهل بلا مراء فكلاهما براق وجذاب ومستند إلى مراجع ومعروض على منصات وله أنصار وأتباع

في عصر الإنترنت هذا قد يذهب بعض الناس محقين إلى أننا نعيش اليوم، وللمرة الأولى في تاريخ البشرية، عصر ديمقراطية المعرفة، فبلا ثمن تقريباً، أو بأقل ثمن ممكن، نجد أنفسنا في قلب مصادر المعرفة لا على ضفافها، وبلا جهد تقريباً، أو بما تقتضيه نقرة إصبع من جهد، يتاح لكل من شاء ما لا أول له ولا آخر من المعلومات عن كل شيء تقريباً.

هكذا لم يبق لجاهل من حجة، ولم يبق له من لوم يلقيه إلا على كسله. لم يعد في عصر الـ"بي دي أف" ومكتبات القراصنة النبلاء (ولو كره الكارهون) من داع لأن ينكب طالب علم على نسخ كتاب حرفاً حرفاً، ولا لطالب معرفة أن يرحل من بلد إلى بلد ليتزلف إلى عالم عسى أن يقبله تلميذاً أشبه بالعبد. فاليوم يلتقي الأستاذ بتلاميذه عبر "زوم" أو أي تطبيق مشابه، وكل منهم مضطجع على أريكته، وتتنقل المعرفة من أريكة إلى أريكة في شتى أرجاء العالم.

عصر طغيان الجهل

كل هذا حق ولا شك، لكنه أبعد ما يكون عن الحقيقة الكاملة. ذلك أن عصر ديمقراطية المعرفة هذا هو أيضاً عصر طغيان الجهل بلا مراء. فلا أحسب الإنسانية عرفت على مدار تاريخها تشابهاً للحق والباطل كما في عصرنا. كلاهما براق وجذاب ومستند إلى مراجع ومعروض على منصات وله أنصاره وأتباعه. وحسبكم أن تنظروا كم كلمة نحتت نحتاً في السنين الأخيرة لأن كلمة "الكذب" لم تعد كافية وحدها للإحاطة بألوان الزيف والضلال التي نتعرض لها ليل نهار.

عندنا الآن "المعلومات الزائفة"، و"المعلومات المختلقة"، و"اللامعلومات"، و"الأكاذيب"، و"الضلالات"، ناهيكم عن "نظريات المؤامرة"، و"الخرافات". ودعكم من هذه القرينة اللغوية، وابحثوا بأية لغة شئتم عن المؤمنين بالأرض المسطحة، لتعرفوا فوراً لماذا يتحول "الجهل" الآن، ومنذ بعض الوقت، إلى مبحث بل ميدان بحثي مزدهر.

في غضون سنوات قليلة صدر لبيتر بيرك الأستاذ الفخري بجامعة كمبريدج كتابان، الأول صدر عام 2019 بعنوان "تاريخ ثقافي للموسوعيين منذ ليوناردو دافينشي وحتى سوزان سونتاج"، والأحدث الذي تعنى به هذه السطور عنوانه "الجهل: تاريخ عالمي". وليس غريباً على باحث اقترب من موسوعيي الثقافة على مدار ستة قرون هي الأكثر ازدهاراً واستنارة في الغرب أن يقرر دراسة الجهل، فهكذا يكون درس النقيضين اللذين يفترض أن الفضيلة تقع في نقطة ما بينهما. لكن النقلة من دراسة المعرفة إلى دراسة الجهل لا تخلو أيضاً من دلالة على تفشي الجهل.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

في استعراضه لكتاب بيرك - بموقع "إنسايد هاير إد"، 24 فبراير (شباط) 2023 - يعرض سكوت مكليمي للسياق الذي صدر فيه "الجهل: تاريخ عالمي" أو لأحد دوافع تأليفه، فيكتب أنه "إذا كان العام الماضي قد شهد صدور الطبعة الثانية من دليل روتلدج الدولي لدراسات الجهل، وهي طبعة محدثة من طبعة 2015 الأصلية، فمن الواضح أن المجال يتنامى"، يقصد مجال دراسات الجهل.

ويمضي مكليمي فيكتب أن بيتر بيرك قد لاحظ "أن المشاركين في دليل روتلدج البالغ عددهم 51 كاتباً وباحثاً ليس بينهم مؤرخ واحد، وأن الوضع لم يتغير في الطبعة الجديدة. فكان كتاب بيرك محاولة لسد هذه الثغرة"، لكنه في الوقت نفسه محاولة لسد ثغرة أهم، إذ يكتب بيرك أن "كثيرين عرضوا للجهل عرضاً، ولكن قلة هم الذين جعلوا منه مركز بحوثهم". ومع أن بيرك يقدر أعمال علماء الاجتماع والفلاسفة الذين درسوا الجهل من قبله فتركزت دراساتهم على سياقاته المجتمعية، فإنه يؤثر "تعريفاً للجهل ضيقاً نسبياً باعتباره غياباً" أو فراغاً معرفياً أو معلوماتياً.

جرعة زائدة من الفضول

لقد عرّف بيرك الموسوعيين وهو يؤرخ قبل سنوات لمن يوصفون عادة برجال ونساء عصر النهضة، بأنهم ذوو "الاهتمامات الموسوعية التي تشمل مجمل المنهج الدراسي الفكري"، وحدد 500 موسوعي على مدار القرون الستة الماضية، وخصص كتابه للعثور على الأنماط الشائعة بينهم، لينتهي إلى أن الموسوعيين ليسوا بالضرورة من يرفضون دور المتخصصين في إنتاج المعرفة، لكنهم بالأخرى من "يكملون التخصص بروابط عابرة للحدود بين التخصصات". وقد أشار بيرك في كتاب "الموسوعي" إلى أن من تنطبق عليهم هذه التسمية هم الذين يمتلكون درجة من الانتباه تفوق غيرهم، أو هي "جرعة زائدة من الفضول، طالما عرفت بالليبيدو العلمي libido sciendi  ووصفها الموسوعي فرانسيس بيكون بـ"الشهوة الفضولية"، وهي بالتأكيد السمة الأعم والأوضح في هذه السلالة".

وإذا جاز أن نعتبر دراسة هذه الفئة من البشر مقدمة فهي مقدمة لكتاب يدور حول النقيض التام لـ"الشهوة الفضولية"، كتاب يركز على أسئلة الجهل، أنواعه ومصادره وعواقبه.

 

 

يرصد مايكل ديردا على هامش استعراضه للكتاب – "واشنطن بوست" في 10 فبراير 2023 - أحد أبرز نماذج الجهل المتفشي بين ظهرانينا، فيكتب "أما عن دونالد ترمب، فإن نطاق جهله بالجغرافيا والعلوم يكاد يستعصي على التصديق لولا أننا شاهدناه بأعيننا مراراً على شاشة التلفزيون. وليت ذلك كان يهم أنصار ترمب، فقد اقتنعوا مراراً وتكراراً بأن يتجاهلوا جهله، مثلما تجاهلوا صفقاته التجارية المشبوهة وسلوكه الشائن. ويذهب بيرك إلى أن المتشددين من أنصار "إعادة عظمة أميركا من جديد" [وهو من شعارات ترامب الأساسية] قد اختاروا الجهل عامدين، بل إنهم في بعض الأحيان استماتوا في التشبث به. ولإيضاح ذلك يستشهد بيرك بالمفكرة النسوية ليندا ألكوف، التي تقول إن "نقصهم المعرفي هو نتاج نوع من الجهد المرتب والاختيار الواعي، أو هو في واقع الأمر سلسلة من الاختيارات. إذ إنهم يعمدون إلى اجتناب مقالات إخبارية معينة، ومصادر إخبارية، واستبعاد دراسات جامعية بعينها، ولا يطلبون الرأي في أخبار اليوم أو التعليق عليها من أناس معينين بدقة".

نعمة سيئة السمعة

يكتب ديردا أن "الجهل قد يكون في بعض الأحيان نعمة، لكنه بصفة عامة سيئ السمعة، وهذا ما يجعل أحدث كتب بيتر بيرك مفاجأة. فبعد سنين تركزت فيها جهود هذا الباحث المتميز على التاريخ الاجتماعي للمعرفة. ها هو في تغيير جذري يستكشف في كتابه (الجهل: تاريخ عالمي) طرقاً لا حصر لها يؤثر من خلالها عدم المعرفة على حياتنا، ففي بعض الأحيان يكون التأثير حميداً، وفي أحيان أخرى يكون خبيثاً. وعلى مدار 15 فصلاً يتحسس بيرك شبكة أفكار مترابطة منها النسيان، والكتمان، والإنكار، وانعدام اليقين، والهوى، وسوء الفهم، والسذاجة. كما ينظر أيضاً في أمر المعلومات المضللة، والأخبار الزائفة، والجهل المزيف، والإغراق بالمعلومات، ونثر بذور الشك والتشويش عبر الإنترنت. باختصار، يتناول بيرك الجهل كله، بدلاً من المعرفة كلها، متخذاً منه ساحة بحثه، وفي تواضع يطلق على كتابه أنه مقدمة لمجال أكاديمي ناشئ، ومزدهر أيضاً".

 

 

عند التطبيق العملي لتعريف بيرك "الضيق نسبياً" للجهل باعتباره غياباً أو فراغاً معرفياً أو معلوماتياً، فإنه يسفر عن سلسلة مقالات عامة، إذ يتناول النص الأساسي لكتاب بيتر بيرك أكثر من 40 تنويعة من الجهل (يدرجها جميعاً في فهرست ملحق بالكتاب)، فهناك على سبيل المثال "الجهل الاستراتيجي"، وهو "تعمد إبقاء الآخرين جهلة"، وتختص بممارسته الحكومات وأجهزة الاستخبارات على رغم شتى مزاعم "الشفافية". وهناك "الجهل التنظيمي" الذي يعرّفه الكاتب بأنه "الأثر الناجم عن التوزيع غير المتساوي للمعرفة داخل تنظيم معين". وبموجب هذا الجهل فإن العمال المنتشرين في طوابق البيع بشركة ما والرؤساء القابعين في أجنحة الإدارة فيها يعرفون أشياء مختلفة عن الشركة، وحين لا يتبادلون "معارفهم" الخاصة، وهذا ما يحدث في أكثر الأحيان، فإن الشركة في مجملها تعاني.

وهناك "الجهل العقلاني"، وهذا بدوره يعني "الإحجام عن التعلم حينما تعلو الكلفة على المنفعة". والحجة الكلاسيكية لهذه الممارسة المريبة ترد في رواية "دراسة في القرمزي" لآرثر كونان دويل، ففي تلك الرواية يفصح شرلوك هولمز عن أنه لا يعرف، بل ولا يريد أن يعرف، أن الأرض تدور حول الشمس. لماذا؟ لأن عِلِّيَّة دماغه، أو مخزن دماغه إن شئتم، لا يمكن أن يحمل كل هذا الكم من المعرفة، وهو يأبى، بحسب ما يقول للدكتور واطسن، أن يتخم هذه العلية بمعلومات غير ذات صلة بعمله كمحقق بوليسي.

مثل هذه الالتقاطات والنوادر منتشرة في "الجهل: تاريخ عالمي"، حيث ينثرها بيرك على قرائه بين الحين والآخر بحسب ما يكتب مايكل ديردا. فمن ذلك أن الإغريق القدامى حددوا "نوعين من المشككين في المعرفة، فهناك المشككون الدوغمائيون، وهؤلاء على يقين من أنه لا يمكن معرفة شيء، وهناك المشككون التأمليون، وهؤلاء ليسوا حتى على يقين من ذلك".

أقوام لا نعرفهم

ومن ذلك أيضاً قول الفيلسوف السياسي التنويري الفرنسي جان جاك روسو إن "الأرض تعمرها أمم لا نعرف عنها إلا أسماءها، غير أننا نتجاسر فنصدر أحكاماً على السلالة الإنسانية بأكملها". ويعلق ديردا على ذلك بأن التوصيف الذي فضح به روسو الجهل الإنساني العام بقي صالحاً حتى بعد القرن الـ18، فبعد أن قسمت القوى الأوروبية أفريقيا ذلك التقسيم الجائر في مؤتمر برلين 1884-1885، وجد رئيس الوزراء البريطاني اللورد ساليزبيري نفسه مكرها على الاعتراف بـ"أننا كنا نتخلى لبعضنا بعضاً عن جبال وبحيرات وأنهار. ولم نكن نعرف بالضبط أين تلك الجبال والأنهار والبحيرات".

ويمضي ديردا فيشهّر برئيس آخر لوزراء بريطانيا هو نيفيل تشامبرلين، الذي "اشتهر بقوله عن مطالبة هتلر بتشيكوسلوفاكيا عام 1938 إنها (مشاجرة في بلد بعيد بين أقوام لا نعرف عنهم شيئاً)".

ولا يقتصر الجهل على الساسة، سواء منهم من كان رئيساً لأميركا أم رئيساً لوزراء بريطانيا، لكنه يمتد إلى أقل من يحتمل فيهم الجهل، وآخر من يغفر لهم أيضاً، أي المثقفين. وهنا يستشهد بيرك بملاحظة لغياتري تشاكرافورتي سبيفاك على المثقفين الغربيين الذين ترى أنهم يشتركون في إحساسهم بأن "لهم الحق في البقاء جاهلين بالثقافات الأخرى، مع انتظارهم من الثقافات الأخرى أن تعرفهم".

 

 

ولو أن لي أن أعترف هنا على الهامش، فقد حدث قريباً في ما كنت وسط جمع من المثقفين العرب على هامش معرض للكتاب أقيم بالسعودية أن أدنت نفسي بهذا الجرم، إذ بدا لي رفاقي أكثر متابعة لمثقفين وكتاب من مختلف البلاد العربية لا أكاد أعرفهم إلا بأسمائهم في أحسن الأحوال. ونوقش ذلك بيننا فتذرعت بحجة الوفرة أو بحجاب الوفرة. وقلت إن الإنتاج الثقافي المحلي في مصر وفير، كمياً على الأقل، ويكاد يستهلك وقت القارئ المصري وطاقته، وينسيه تدريجاً أن من حول بلده بلاداً تسهم هي الأخرى كل يوم في الثقافة العربية بما ينبغي أن يلم بطرف منه. والحق أنه لولا اللياقة لما بدت حجة الطغيان الكمي هذه إلا عذراً يتساوى في قبحه مع الذنب.

وبالعودة إلى الجهل في تاريخه العالمي، لا الإقليمي أو الشخصي في الحقيقة، يشير بيرك إلى انتشار واسع النطاق لما يطلق عليه عالم الاجتماع روبت كيه ميرتن "فقدان ذاكرة الاستشهاد". وهذا لون من "الجهل المزيف" يجري فيه إهمال الاعتراف باعتماد الباحث على اكتشافات وأعمال أسلافه في مجاله البحثي. وهذا، عند التطبيق على الواقع العربي، حديث طويل ذو شجون.

يكتب مايكل ديردا أن الجهل مع ذلك ليس سلبياً على إطلاقه. فاعتراف المرء بما لا يعرفه يمكن أن يساعده في توجيه جهوده الفكرية. وبحسب العالم الفيزيائي البريطاني في القرن الـ19 جيمس كليرك ماكسويل فإن "الوعي بالجهل مقدمة لكل تقدم حقيقي في العلوم". وبالحديث عن بحوثه هو، يؤكد عالم الأعصاب المعاصر لاري أبوت أهمية الاختيار الدقيق "لموضوع الجهل الذي أريد أن أعمل فيه". وهذا اللون من الاختيار بحسب ما يضيف بيرك قد يوصف بـ"إدارة الجهل".

هل الصفقة رابحة؟

يكتب بيرك أن كل مجتمع "يركز الانتباه على قليل من سمات الواقع"، وذلك يأتي "على حساب سمات أخرى"، فقد كان بوسع جيل أسبق، وغير بعيد بالمناسبة، من البشر "أن يميزوا أنواع الفطر الصالح للأكل، ويحددوا المجموعات النجمية، ويعرفوا الأشجار المختلفة بأسمائها في الغابة وعشرات الحيوانات من آثارها".

يكتب مايكل ديردا أن تلك المعرفة كانت متاحة لـ"الناس العاديين" الذين كانوا "يعرفون ذلك. والآن ما عادوا كذلك. فبالنسبة إلى كثيرين منا في القرن الـ21، يتألف عالم الطبيعة إجمالاً من شجيرات جميلة على طول مسار التريض. ما يهمنا هو أن نعرف كيف نستعمل الكمبيوتر والهاتف الذكي. فنحن في نهاية المطاف لم نعد بحاجة إلى أن نتعلم أي شيء بأنفسنا ما دام لدينا "مؤثرون" يرشدوننا، وروبوتات دردشة تكتب ما يجب أن نكتبه بأنفسنا، وأنواع وألوان من المعلومات على بعد نقرة زر. ولكن هل الصفقة رابحة؟".

يضعنا مايكل ديردا بسؤاله البسيط هذا أمام حيرة كبيرة، فهل نقول إن الصفقة رابحة ونرضى بما صرنا إليه من جهل، أم نقول إنها خاسرة وندين كل ما يتوافر بين أيدينا، من دون استثناء للأزرار التي أكتب بها هذه الكلمات وللشاشة التي تقرأونها عليها؟ وليت الإجابة تقتصر على تغيير في شعورنا تجاه هذه الأشياء، ولكنها في ما أرجو إدانة منا لأنفسنا وللطريقة التي استقررنا عليها لتلقي ما حولنا من معارف أحياناً ومجاهل كثيراً.

عنوان الكتاب: Ignorance: A Global History 

تأليف: Peter Burke 

الناشر: Yale University Press

اقرأ المزيد

المزيد من كتب