Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

النظام العالمي في ميدان الحرب مراجعات بلا مرجعيات

مشهد التوازنات الدولية السائد منذ عقود اهتز على وقع الصراع الروسي - الأوكراني المسلح ونتيجته ستعيد تشكيل العالم

كانت لحظة سقوط جدار برلين بداية نهوض نظام عالمي جديد أحادي القمة (غيتي)

ملخص

 عالم مريض؟ أم #نظام_دولي هش؟ الإجابة عن السؤالين هي نعم كبيرة كتبتها تطورات #الميدان_الأوكراني، والأطراف المشاركة في الصراع تزج بقواها لكي تنفرد برسم المشهد العالمي مستقبلاً.

حين سقط جدار برلين في التاسع من نوفمبر (تشرين الثاني) عام 1989 بدأت مرحلة عالمية مغايرة، إذ انطلقت عملية تفكيك الاتحاد السوفياتي وانتهت الحرب الباردة التي استمرت قرابة أربعة عقود.

لاحقاً وفي أوائل التسعينيات اعتبر الرئيس الأميركي جورج بوش الأب أن حقبة جديدة من النظام العالمي قد بدأت، وأطلق على المشهد "النظام العالمي الجديد"، وغالب القصد أنه ذهب لفكرة النظام العالمي الذي تقوده الولايات المتحدة وبشكل منفرد بعد تلاشي النفوذ السوفياتي وانعدام حضور كتلة دولية مكافئة للقوة العسكرية والنفوذ الاقتصادي، والتأثير الثقافي للولايات المتحدة.

مضت عقود ثلاثة على هذه الرؤية وكأنها قدر مقدور، غير أن القول باستدامة هذه المعادلة القطبية الأميركية المنفردة قد شاغبتها كثير من المشاهد في بدايات العقد الثالث من القرن الحالي، تمثلت في العودة الروسية لعالم القوة والنفوذ العسكري، وصعود الصين درجات في سلم النمو والتوسع الاقتصادي.

غير أن موسكو كانت تنقصها أشياء والصين بدورها كذلك، فيما واشنطن قد بدأت تظهر عليها علامات ما يسميه المؤرخ الأميركي الشهير بول كيندي "فرط الامتداد الإمبراطوري".

اليوم وبعد مرور عام كامل على انطلاق تلك العملية الموسعة التي لم ترتق حتى الساعة إلى مفهوم الحرب الشاملة، يتساءل مراقبون ومحللون "ما هو شكل النظام العالمي الجديد؟ وإلى أين يمضي؟ وهل سيفرز رؤى قطبية جديدة أم سيعزز الانفراد الأميركي بالهيمنة الأممية"؟

وفي الوسط من هذا الصخب العسكري وهدير الدبابات وفرقعات البارود يطل علينا تساؤل آخر عن حال العالم من وجهة نظر ثقافية وحضارية، وفي الخلفية التاريخية للتساؤل تنبؤات عالم الاجتماع الأميركي صموئيل هنتنغتون عن صراع الحضارات، وهل ما جرى من موسكو إلى كييف شابته مسحة من ذلك الصراع؟

في هذه القراءة نحاول مساءلة الأيقونات في محاولة لبلورة ولو صورة مقربة للعالم، وسط الضباب الكثيف الذي يخيم على المشهد الدولي.

موسكو - كييف وأزمنة الغرامشية

من أفضل التعبيرات التي يمكن استعارتها لتوصيف الزمن الحالي وبعد 12 شهراً من الصراع الدامي من موسكو إلى كييف، تعبير المثقف والفيلسوف الماركسي الإيطالي الأشهر أنطونيو غرامشي (1891-1937)، "تتجلى الأزمة تحديداً في أن القديم آيل إلى الزوال، بينما لا يستطيع الجديد أن يولد، وفي فترة الانتظار هذه يبرز عدد كبير من الأعراض المرضية".

يكاد الصراع الروسي - الأوكراني أن يضحي أحد هذه الأعراض، إذ إن الولايات المتحدة الأميركية تستشعر تراجعاً في موازين القوة المختلفة، فيما قوى أخرى قديمة تعود للميدان مثل روسيا وأخرى صاعدة مثل الصين تسعى حثيثاً لتسنم قائمة القطبية الدولية وإن لم تكشف عن ذلك صراحة.

من غرامشي إلى المنظر التاريخي للحروب كلاوزفيتز، نخلص إلى أن الحرب هي وسيلة أخرى للدبلوماسية، فحين تنسد آفاق الحوار تنطلق فوهات المدافع، وهذا ما جرى بالضبط خلال الأعوام الأخيرة بين موسكو والـ "ناتو" برأس حربته الأميركية والتبعية الأوروبية الماضية قدماً من بروكسل إلى واشنطن، أي حال القصور الدبلوماسي عن التواصل الطبيعي، لا سيما في ظل القناعات الروسية بأن الـ "ناتو" يحاول تغيير مصائر الأقدار والبقاء طافياً فوق وجه المسكونة بعد نحو ثمانية عقود من الحرب العالمية الثانية.

يمكن للمرء هنا القطع بأن الصراع وقبل أن يكون صراعاً عسكرياً هو صراع إرادات تحول إلى مواجهة قوى مسلحة على الأرض، وإن بوكالة مقنّعة لا تخفي عن أحد، فواشنطن التي خططت للتقدم شرقاً لتضع قواتها وصواريخها على الحدود الروسية، رأت في أوكرانيا أفضل موقع وموضع يمكنها من خلاله أن تناوش روسيا، وهو الأمر الذي لم يقبل به القيصر كما لن يرتضيه أي من القيادات القومية الروسية، تلك التي تبزغ فجأة وسط الأزمات ومن غير سابق علم بها من الشعوب المحيطة، كما ظهر بوتين من بين أضابير الاستخبارات الروسية.

غير أن تلك المخططات الساعية إلى تأكيد فكرة النظام العالمي الأميركي الجديد تجد نفسها في مأزق تاريخي بين إصرار المحافظة على مكتسبات ما بعد الحرب الباردة، وصعوبة تغيير الأوضاع عسكرياً على الأرض.

حرب بلا فائز أو مهزوم

للمرة الأولى منذ سبعة عقود تعيش الكتلة الأوراسية حرباً شرسة على هذا النحو، فمنذ نهاية الصراع مع النازية خُيّل للأوروبيين والروس معاً أن زمن السلم قد حلّ مرة وإلى الأبد، الأمر الذي تعزز بعد انضمام برلين الشرقية إلى شقيقتها الغربية واحتواء الـ "ناتو" لعدد من دول الكتلة الشرقية.

لم تفرز المعارك الضارية حتى الساعة منتصراً، كما أنها لم تسفر عن مهزوم، وربما اعتبر الروس أن الأمر سيكون أيسر كثيراً جداً وأن القصة لن تتعدى مغامرة سريعة، لكن ما أبدته أوكرانيا على أرض المعارك أظهر أن المواجهة ستطول.

بعد انطلاق المعارك بثلاثة أيام تحدث المستشار الألماني أولاف شولتس قائلاً "العالم لن يكون بعد الآن كما كان"، وكأنه كان يتخيل كثيراً من القلاقل، وللوهلة الأولى كان يمكن القطع بأن الفوز الروسي محقق ومقطوع به، إذ لا قدرة للعسكرية الأوكرانية على مناوءة نظيرتها الروسية، لا سيما بعد أن أقدمت طوعاً على التخلص من ترسانتها النووية وبثمن بخس لم يتجاوز الـ 400 مليون دولار قدمتها واشنطن كقرض لكييف عام 1994.

أصحاب التحليل المؤامراتي للتاريخ يقطعون بأن الأمر كان مقصوداً بعينه، بمعنى إضعاف أوكرانيا بقوة، وحتى يستطيع الـ "ناتو" أن يقدم لها يد العون ويجد له موطئ قدم قرب روسيا العنقاء القادمة من الرماد.

لا يزال التساؤل عن النيات الروسية من التحرك العسكري لجهة أوكرانيا مشوباً بعدم الوضوح، فهل كانت موسكو تتطلع لوضع يدها على منطقة الدونباس فقط بهدف حماية حدودها، أم أنها كانت صادقة في محاولة الإطاحة بنظام تراه نازياً بثوب عصراني؟

يمكن أن يكونا الأمرين معاً عطفاً على إيصال رسالة للـ "ناتو" بأن ضم أوكرانيا أمر لا ولن يستقيم أبداً، فقط كان الأمر على حد تعبير البابا فرنسيس "نباحاً عند أبواب روسيا".

مهما يكن من أمر تبدو المعادلة اليوم مثيرة للتأمل، فروسيا على رغم عدتها وعتادها لم تحقق النصر المؤزر، فقد بادر الـ "ناتو" إلى دعم واضح لأوكرانيا بأسلحة حديثة مما عطل تقدم الروس، والذين تابعوا تصريحات الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في خطابه الأخير يدركون تماماً أن فكرة هزيمة دولة نووية، وليس أي دولة، بل تلك التي تمتلك أكبر قدر من الأسلحة النووية، أمر غير قابل للتحقق.

وعلى الجانب الآخر، أي جهة أوكرانيا، هناك إصرار أميركي واضح تجلى في زيارة الرئيس بايدن المفاجئة إلى أوكرانيا، على عدم السماح بهزيمة أوكرانيا وإدراك روسيا للنصر.

يتحدث الجميع عن معركة الربيع التي يتحضر لها الروس عما قريب جداً، تلك التي قد تحول العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا إلى حرب أوسع، ولا يفوت الـ "ناتو" ما يجري، وهناك أحاديث عن برامج سرية للـ "بنتاغون" تجري في أوكرانيا، والتساؤل المبهم "كيف ستتم ملاقاة الروس في طريق حسمهم البتار للمعركة"؟

انكشاف الهمينة الغربية الأميركية

الجواب عن التساؤل المتقدم يقودنا إلى طرح مهم وجوهري عن انكشاف الهيمنة الغربية الأميركية تحديداً والحدود الواضحة التي لن يمكن تجاوزها.

في يوليو (تموز) الماضي وخلال كلمة ألقاها في منتدى لدعم التحالف بين الولايات المتحدة وأوروبا، تحدث رئيس وزراء بريطانيا الأسبق توني بلير عما سماه "نهاية هيمنة الغرب".

بلير الذي ترأس حكومة بلاده خلال الفترة ما بين عامي 1997 و 2007، اعتبر في محاضرته التي حملت عنوان "بعد أوكرانيا، ما الدروس الحالية للقيادة الغربية"، أن "العالم في مرحلة تحول في التاريخ يمكن مقارنتها بنهاية الحرب العالمية الثانية أو انهيار الاتحاد السوفياتي، لكن هذه المرة وبوضوح الغرب ليس في الكفة الراجحة".

لماذا يتحدث بلير بهذه اللهجة التي تناقض رؤية فرانسيس فوكاياما التي بشر بها قبل عقدين عن الإنسان الأعلى ونهاية التاريخ وحتمية فوز الرأسمالية، قبل أن يعود مرة جديدة ويراجع ما بشر به؟

من المؤكد أن رئيس الحكومة البريطانية الأسبق ينطلق من إدراكه للتغيرات الجيوسياسية الكبرى التي تحلق فوق سماوات الكوكب الأزرق، مع تحرك قلب العالم من أوروبا القديمة بحسب هالفي ماكندر إلى شرق آسيا، وبنوع خاص في ظل تحقق المخاوف التي تحدث عنها قبل نحو ثلاثة قرون الإمبراطور الفرنسي نابليون بونابرت والخاصة بصحوة الصين.

على أنه وقبل الخوض في سياق تلك التغيرات المحكومة بالجغرافيا والمنضبطة بالديموغرافيا، ربما يتحتم الوقوف أمام جزئية تعد حجر زاوية في البناء العالمي الجديد، تلك الموصولة بشكل النزاع بين موسكو وأوكرانيا وما يمكن أن يتخطاه من ناحية أدوات الحسم العسكرية، وهل في الأمر مجال لنهاية مواجهة كما انتهت الحرب العالمية الأولى والثانية، أم أن ما يمكن أن يكون نظاماً عالمياً جديداً لا بد له من أن يتجنب هاوية المواجهة المقبلة؟

نظام دولي من غير حروب عالمية

ذات مرة بعد نهاية الحرب العالمية الثانية سأل بعضهم العالم الفيزيائي ألبرت أينشتاين عن ملامح الحرب العالمية الثالثة، فجاء جوابه مثيراً وكالتالي، "أستطيع الحديث عن شكل الحرب العالمية الرابعة والتي سيخوضها البشر بالعصي والحجارة".

جواب أينشتاين يعني أن الخليقة ستعود للعصور الحجرية وليس إلى العصور الوسطى حيث القتال بالسيوف والدروع، ويفيد حديث رجل الذرة الشهير أنه حال حدوث مواجهة نووية في الحرب العالمية الثالثة فإن العالم بشكله المعاصر لن يبقى قائماً بعد.

لا تغيب هذه الحقيقة عن القائمين على الشؤون العسكرية حول العالم، لا سيما من موسكو إلى واشنطن، أولئك الذين حافظوا قدر المستطاع على أن لا تنفلت المواجهات وتصل إلى حد القارعة النووية.

يدرك العالمون ببواطن الأمور أن هناك خطوط حمراء متفق عليها بين الجنرالات لقطع الطريق على أية لحظات من انفلات العقلانية والدخول إلى حيز المواجهات النووية، وفي هذا الإطار يرصد المرء رفضاً مقنعاً خلال الأشهر الماضية لتزويد أوكرانيا بأسلحة هجومية تقليدية يمكنها أن تقلب سير المعارك، وفي الوقت عينه يلاحظ المراقبون أن روسيا في طريقها لتغيير عقيدتها النووية، فقد تحدث بوتين عن إمكان المبادرة إلى استخدام السلاح النووي وعدم انتظار الضربة الأولى ومن ثم الرد.

هل ما تقدم يعطي فكرة عن حال الاندفاع نحو مزيد من التسلح التقليدي؟

يمكن الجواب من عند ألمانيا تلك التي رصدت 100 مليار يورو، ربما كدفعة أولى لنهضة تسليحية ترقباً للأسوأ.

هذا التوجه لن يقتصر على المانيا وحسب، فقد أدركت فرنسا على سبيل المثال أنها حال جنبت أسلحتها النووية فستبدو شبه مكشوفة أمام الروس اليوم وربما الصينيين غداً، فعلى سبيل المثال تملك فرنسا عدة مئات من الدبابات، وهو رقم قليل في مواجهة الآلاف التي تحوزها روسيا.

هل يعني ذلك أن العالم مقبل على سباق تسلح مشابه لما عرفته أزمنة الحرب الباردة، وحتى يكون البديل عن المواجهات النووية؟

هذا الحديث يفتح الباب لنظام عالمي جديد يتوقف عند حدود الصراعات التقليدية واتساع مداها الجغرافي وزيادة ضحاياها، لكن من غير تخطي العتبة النووية.

يبدو هذا الإشكال أمام اختبار سيحدد شكل العالم خلال الأيام القليلة المقبلة، وبنوع خاص إذا مضت روسيا في ما يروج من حولها عن معركة كاسحة تستخدم فيها يدها الثقيلة لإحراز انتصار سريع ونهائي، وهل سيلتزم الـ "ناتو" الصمت أم أنه سيعمد إلى تصعيد مواز يمكن أن يقود في لحظة من سخونة الرؤوس إلى مستقبل من اللانظام العالمي الجديد بالمرة؟

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

الصين والمستقبل العالمي غير الواضح

حين بدأت عجلة العمليات العسكرية الروسية على الأراضي الأوكرانية تساءل الجميع عن التوجهات الصينية في الأزمة المحتدمة، وهل ستلتزم بكين الحياد أم أنها ستدعم روسيا؟

ليس سراً القول إن هناك مصالح متبادلة ما بين موسكو وبكين على رغم الصراعات التاريخية بين الجارين اللدودين، لكن المصائب تجمع المصابين، وتحدي الهيمنة الأميركية يقود التنسيق المتبادل.

لم تبد الصين ارتياحاً أو مباركة ظاهرة لغزو روسيا لأوكرانيا، لكنها في الوقت عينه لا تود أن تنكسر روسيا، ذلك لأنها ستجد نفسها بمفردها في ميدان الوغى مع الأميركيين.

في ديسمبر (كانون الأول) الماضي كانت محللة شؤون آسيا في معهد الاتحاد الأوروبي للدراسات الأمنية أليس إيكمان تقلب في الأوراق الإستراتيجية الخاصة بالصين، لا سيما أن العالمين ببواطن الرؤى الاستشرافية الصينية يدركون مخططات الصينيين لقيادة العالم بحلول العام 2049.

تقول إيكمان إن "الصين لا تنأى بنفسها ولكنها عززت علاقتها الوثيقة مع روسيا"، وتضيف "إن الدعم الصيني لروسيا قد لا يكون توافقاً كاملاً، والصين لا تقدم لروسيا مساعدات بحجم تلك التي توافرها واشنطن لأوكرانيا، لكن علينا أن ننظر إلى الوقائع، فقد تعززت العلاقات الاقتصادية".

هنا تقابلنا قضية مثيرة عن العلاقة بين موسكو وبكين، وهل الأولى ستضحي تابعة للثانية، لا سيما في ضوء التضييق الاقتصادي المتوقع على روسيا من خلال مزيد من العقوبات الغربية، أم أن قوة وحضور موسكو عسكرياً سيعطيان بكين انطباعات بأهمية التحالف مع بوتين في قادم الأيام؟

مهما يكن من أمر فإن المشهد الجديد بعد عام من حرب أوكرانيا ينتج لنا تحالفاً آسيوياً جديداً يبدأ من عند روسيا والصين وقابل لأن يحوي الهند، وهو تجمع ثلاثي كبير وخطر، ولهذا نرى المحاولات الأميركية الحثيثة لاستقطاب نيودلهي بعيداً.

تبدو الصين كمن له مصلحة في وقف الحرب، إذ ستخرج خاسرة قطعاً إن تعرضت روسيا لانتكاسة وحتى إن صعّدت موسكو المواجهة.

وفي الوقت عينه لا يود الرئيس الصيني شي جينبينغ الوقوع في فخ تنصبه له واشنطن وأوروبا، سواء في بحر الصين الجنوبي أو تايوان، بهدف وقف الصعود القطبي الروسي عسكرياً واقتصادياً، ومن هنا يدرك المرء لماذا بادرت بكين خلال "مؤتمر ميونيخ للأمن" قبل بضعة أيام بالإعلان عن مبادرة لحلحلة المشهد والبحث عن مخرج سلمي ينهي الأزمة ويوقف الحرب، حتى وإن مضى القطب الأميركي في طريق مزيد من صب الزيت على النار.

وفي الخلاصة فإن الزمن الغرامشي يمكن تلخيصه في سطور موجزة تعبر عن الحقيقة من قريب ومن غير ادعاء امتلاك الحقيقة المطلقة، والبداية من عند الولايات المتحدة التي لا تزال قوة ضاربة متقدمة، لكن إلى أي مدى ستظل إدارة بايدن راغبة في الاندفاع لجهة أوكرانيا، لا سيما أن هناك رفضاً واضحاً من النواب الجمهوريين لتحمل مزيد من الأعباء المالية.

واشنطن تبدو في مرحلة دفع أكلاف الامتداد الإمبراطوري وقد حان وقت المحاسبة الداخلية حتى وإن بقيت قوة مؤثرة، لكنها عما قريب لن تكون أفضل حالاً من بريطانيا العظمى بعد حرب السويس عام 1956، انطلاقاً من عدم مقدرتها على حسم الأمر عسكرياً.

روسيا ستظل رقماً صعباً على الخريطة الدولية تاريخياً وعسكرياً، لكنها في الوقت عينه تبقى تحت تهديدات الحصار والعقوبات الاقتصادية وعدم المقدرة على مجاراة النفوذ الأميركي في ست قارات الأرض، بل إنها ستكون في مأزق حال انتوى الـ "ناتو" توريطها في بولندا على سبيل المثال، وهناك من يتوقع ذلك مثل صاحب "مؤسسة ستراتفور" جورج فريدمان والمعروف برجل استخبارات الظل الأميركية.

ماذا عن أوروبا؟

يبدو الاتحاد الأوروبي باهتاً وضعيفاً من الناحية العسكرية، لكن تبقى مقدراته الاقتصادية أقوى كثيراً من روسيا، بينما الكنز الأوروبي الأكبر يتمثل في القوة الثقافية وفي ما وصفه الكاتب الفرنسي الجنسية اللبناني الأصل أمين معلوف بـ "الرجال والمرجعيات" ومساحة الليبرالية ونوافذ التنوير الأوروبي التقليدية، بينما الجهة الرابعة المتمثلة في الصين تبدو أمام لحظات مصيرية فاصلة ولا تريد أن تدفع فاتورة الصراع الروسي - الأميركي، كما أن رصيدها العالمي جرت اختصامات عدة منه، بخاصة  بعد حال عدم الشفافية الداخلية التي كانت سبباً مباشراً في وفيات الملايين حول العالم حين أنكرت بكين وجود فيروس على أراضيها.

هل ما تقدم هو شكل العالم المقبل؟

في واقع الأمر هناك ملفات أخرى تحتاج إلى مراجعات، لا سيما ملف الليبرالية العالمية ومستقبلها ورؤى الصدام الحضاري ومآلاته ونظام بريتون وودز ومساراته والرأسمالية العالمية والتنبؤات الدائرة من حولها، وفي كل الأحوال ستبقى الرؤية المتقدمة بأكملها، ربما، رهن الأيام القليلة المقبلة وما ستجري به المقادير من نهاية للأزمة الأوكرانية أو انطلاق لصراع عالمي ما قبل نهائي للبشرية، وليس لرسم نظام عالمي جديد.

المزيد من تقارير