Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

الحرب الأوكرانية ومساحة للتعايش والحياد

عالم جديد يتشكل ليس فيه نفس الخطوط الحمراء التي كان يعرفها التاريخ الطويل للبشرية من تحالفات جامدة

بايدن مصافحاً لولا لدى استقباله إياه بالبيت الأبيض، في 10 فبراير الحالي (أ ف ب)

ملخص

الجديد في #المشهد_الدولي ليس أن نسبةً متصاعدة من دول العالم تقرر الحياد تجاه صراع بين #القوى_الكبرى، ولكن الجديد هو الواقعية في تعاطي القوى الكبرى مع هذه التوجهات

استقبل الرئيس الأميركي جو بايدن منذ حوالى عشرة أيام نظيره البرازيلي، الزعيم اليساري، لويس ايناسيو لولا دا سيلفا، وتبادل الرئيسان المظاهر الودية واستعراض التجربة التي تجمعهما بالفعل ضد ممارسات الرئيسين السابقين الأميركي دونالد ترمب والبرازيلي جايير بولسونارو، اللذين رفضا الاعتراف بالهزيمة واحترام التقاليد الديمقراطية، وأكد بايدن ثقته في انتصار الديمقراطية، وأن هذا ما حدث بالفعل في البلدين.
وصحيح أن هذا ما حدث بالفعل، وأصبح يجمع بين الرئيسين، وأن المشتركات بينهما من هذه الزاوية تزيد على المتناقضات التاريخية التي كانت دوماً تجعل من الرئيس لولا، ليس الشخص الأكثر قرباً من السياسة الأميركية، بل إن ولايته الأولى كانت محملة بتوترات مع الولايات المتحدة، التي لم يعرف عنها أبداً علاقات ودية مع القيادات اليسارية في أميركا اللاتينية، ولكن ربما كان ما تضمنته الزيارة من أبعاد أخرى تفسر أكثر الود الظاهر فيها والذي يزيد على المشاركة في مواجهة قيادات يمينية متطرفة لا تحترم قواعد الديمقراطية التي تحاول إدارة بايدن أن ترسخها كأيديولوجية وشعار للسياسة الأميركية، وأيضاً كأداة لهذه السياسة.

فضمن تصريحات لولا ذكر أنه لا بد من وجود مجموعة من الدول المحايدة التي يمكنها أن تقود تسوية الصراع في أوكرانيا، أي إن الزيارة تضمنت محاولة استمالة للجانب البرازيلي بعيداً من روسيا، ولكن دا سيلفا الذي دانت بلاده الحرب الروسية، لا يريد اتخاذ خطوات تبعده عن تجمع "البريكس" الذي يضم بلاده مع روسيا والصين وجنوب أفريقيا والهند، ومن هنا جاء طرحه لفكرة مشاركة بلاده في فريق الدول المحايدة الذي يمكن أن يقوم بالوساطة في أوكرانيا.

تبلور متزايد لرؤية محايدة

يمكن القول إن ثمة تحولات لا يمكن تجاهلها منذ الحرب الأوكرانية، إذ كما اصطفت أوروبا والدول ذات الارتباط التاريخي والأيديولوجي بالغرب كاليابان وكوريا الجنوبية وتايوان وأستراليا مع الولايات المتحدة وبدعم كامل لجهود "الناتو" لاستنزاف روسيا في أوكرانيا، فإن كتلة أخرى من الدول حاولت ترك مسافة بينها وبين الجانبين المتحاربين، ومن المفيد هنا مقارنة أنماط التصويت الدولي الخاصة بأوكرانيا، فبعد عجز مجلس الأمن عن إصدار قرار ملزم بانسحاب روسيا من الأراضي الأوكرانية، لسبب مفهوم وهو "الفيتو" الروسي، فقد حصل قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة، الذي دان الحرب ودعا روسيا إلى سحب قواتها، على أغلبية كبيرة، ولكن عندما طرح طرد روسيا من مجلس حقوق الإنسان اتسعت نسبة الدول التي رفضت القرار أو امتنعت عن التصويت وشملت أغلب الدول الأفريقية والعربية وعدداً لا يستهان به من دول آسيا وأميركا اللاتينية.

 ومن ناحية أخرى، فمن الأهمية بمكان تحليل مواقف الدول التي رفضت تطبيق العقوبات ضد روسيا والتي شملت أيضاً دولاً أفريقية عدة وأغلب الدول العربية ودول "البريكس" وعدداً آخر من الدول، بما فيها دول حليفة للغرب بخاصة تركيا.
ومنذ أشهر عدة كنت قد كتبت عن اتجاه الحياد العربي الواضح الذي يمكن رصده من خلال نمط التصويت العربي في المنظمات الدولية، ومن البيانات الرسمية الصادرة عن بعض هذه الدول، بخاصة تلك المتعلقة بشرح نمط تصويتها، وبصرف النظر عن دوافعه العديدة ومنها تراكم مشاعر سلبية ضد توجهات الغرب غير الموضوعية والمعايير المزدوجة بخاصة في ما يتعلق بالقضية الفلسطينية وباللاجئين السوريين وكيفية التعامل معهم، والأهم ما ظهر من تمسك أغلبية هذه الدول برفض تطبيق العقوبات ضد روسيا. وعندما عقد الرئيس الأميركي بايدن لقاءه مع عدد من القادة العرب كان البعض يتصور أن ناتج هذا اللقاء سيكون ضمان تنفيذ العرب لطلبات واشنطن بخاصة في ما يتعلق بزيادة إنتاج النفط، ولكن دول الخليج لم تلتزم إلا مصالحها وما تراه مناسباً، بما في ذلك استمرار التنسيق مع روسيا في إطار ما يعرف بترتيبات "أوبك +"، وجاء هذا ليتماشى مع موقف مصري راسخ في حرصه على التوازن تجاه الحرب، وصفته القاهرة منذ أشهر في موضع آخر بأنه "حياد ليس بحاجة لتبرير"، وهو ما يتسق مع تقاليد عميقة وتاريخية للسياسة الخارجية المصرية.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)


التعاطي بواقعية

وفي الواقع أن الجديد في المشهد الدولي ليس أن نسبةً متصاعدة من دول العالم تقرر الحياد تجاه صراع بين القوى الكبرى، ولكن الجديد هو الواقعية في تعاطي القوى الكبرى مع هذه التوجهات وإدراك تغير العالم، وأن الأمور جار إعادة تشكيلها، وأن منطق "من ليس معي فهو ضدي" يتراجع ويفقد أي زخم، بل يبدو مستهجناً ومحل مخاوف حتى من الأطراف التي كانت ترفع هذا الشعار، من حيث إنها قد تخسر أكثر إذا استمرت بالتمسك به.
من هنا رأينا الرئيس الأميركي يعبر عن رسائل تقدير لمصر في لقائه الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي على هامش قمة المناخ في شرم الشيخ، وفي موضع آخر يعبر عن استمرار حرصه على العلاقات مع الرياض بعدما كانت قد صدرت تلميحات بإجراءات انتقامية بسبب عدم التزامها طلب واشنطن زيادة صادراتها البترولية، وعلى الجانب الآخر يعبر الجانب الروسي عن تقديره للموقف المتوازن لمصر إزاء الحرب وكأنه لا يحلم بأكثر من ذلك.
وأخيراً يأتي لقاء القمة الأميركي -البرازيلي سابق الذكر ليقدم صورة مشابهة، فعلى رغم الإطراء ومظاهر الحفاوة غير المسبوقة بالرئيس دا سيلفا، فليس من الوارد حدوث تغيير حاد في توجهات السياسة البرازيلية التي حافظت على روابطها بروسيا وليس من المنتظر تخليها عن هذه المصالح.
وحتى تركيا، أحد الأعمدة الرئيسة لحلف "الناتو"، تمارس سياسة عملية ومصلحية وترفض تطبيق العقوبات على رغم مشاركتها في تسليح أوكرانيا، ولكنها تحتفظ بهامش حركتها ولا تستنكف روسيا من قبول وساطتها، وعلى رغم أن أنقرة تشارك بشكل أو بآخر في الجهود العسكرية الغربية ضد روسيا إلا أنها لا تشارك في تطبيق العقوبات، وبالنهاية قبِل الجميع دوراً أتاح لتركيا التوسط بين الجانبين في مسألة تبادل أسرى وصادرات الحبوب الأوكرانية، لكي تحصل على تقدير غربي وروسي معاً.
على صعيد آخر، يواصل الجانبان محاولة استمالة الهند التي تحتفظ بمسافاتها بحسب مصالحها حيالهما، ولهذا حديث آخر، فحالة هذه الأخيرة مرشحة لسباق وتنافس على خطب ودها من المعسكرين معاً، وفي كل الأحوال أمامنا عالم جديد يتشكل ليس فيه الخطوط الحمراء السابقة نفسها التي كان يعرفها التاريخ الطويل للبشرية من تحالفات جامدة، بل تحالفات مرنة يعززها تعاظم دور القوى الإقليمية والمتوسطة، بل وحتى الصغرى ويبدو فيه هامش الحركة للجميع أوسع بكثير من ذي قبل.

اقرأ المزيد

المزيد من تحلیل