Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

سبيلبرغ مكرماً: دب برلين يخيفني أكثر من القرش

مؤسس "هوليوود الجديدة" يعتبر أن يهوديته ساعدته على تضميد جراح التاريخ

سبيلبرغ خلال تسلمه "الدب الذهبي" في مهرجان برلين (خدمة المهرجان)

ملخص

اختيار المخرج الأميركي #ستيفن_سبيلبرغ لتكريمه ومنحه "دباً ذهبياً فخرياً" عن مجمل أعماله هذا العام في #مهرجان_برلين السينمائي أشبه بضربة معلم.

لعل اختيار المخرج الأميركي ستيفن سبيلبرغ (76 عاماً) لتكريمه ومنحه "دباً ذهبياً فخرياً" عن مجمل أعماله هذا العام في مهرجان برلين السينمائي (16 - 26  فبراير - شباط)، أشبه بضربة معلم! أسطورة الإخراج التي تبهرنا منذ عقود، لم ينل التفاتة كهذه في حياته المهنية (ما عدا "أسداً ذهبياً" في البندقية)، ومن المستغرب أن مهرجان "كان" لم يسبق زميله "برلين" في هذا المجال، على الرغم من انه سبق أن اختاره لرئاسة لجنة التحكيم في إحدى الدورات الماضية. ويومذاك فاجأ الجميع عبر إعطاء "حياة أديل" لعبد اللطيف كشيش "السعفة الذهبية". هذا التكريم البرليني الذي تتخلله استعادة لثمانية من بعض من أهم أعماله السينمائية، يكتسب معنى إضافياً في ظل خروج أحدث أفلامه، “آل فايبلمان” (المرشح لسبع جوائز أوسكار)، إلى الصالات الأوروبية، وهو فيلم يحكي فيه مخرج "انقاذ الجندي راين" عن طفولته ومراهقته وبدايات وعيه بالسينما، وكيف غيرت السينما حياته، وتفاصيل عن صراعه مع محيطه.

هذا كله قبل أن يتحول إلى السينمائي الكبير الذي نعرفه اليوم. بعد 35 فيلماً و60 سنة أمضاها داخل أروقة هوليوود مخرجاً ومؤلفاً ومنتجاً، فتح سبيلبرغ صندوق أسراره ليتحدث ولأول مرة في حياته، من وحي سيرته الذاتية. لماذا الآن وهو في السادسة والسبعين. قد يكون الجواب واضحاً بالنسبة الينا: إنه النضج والعمر وتراكم التجارب وكل ما يجعل الإنسان يرغب في العودة إلى الينبوع ليروي من أين جاء. ولكن بالنسبة إلى سبيلبرغ، فهو ينجز من دون أن يطرح الكثير من الأسئلة على نفسه لضيق وقته كما يقول، تماماً كمعلمه جون فورد الذي أنجز أكثر من مئة فيلم، وما كان يحب الأسئلة التي تبدأ بـ"لماذا؟ وكيف؟". كان يعمل وحسب. حتى سبيلبرغ الذي ينتمي إلى جيل أحدث من جيل فورد، تخلى مع الزمن عن فكرة معرفة من أين تأتي أفكاره. "لا نعرف من أين تأتي، ولمَ في هذا اليوم تحديداً وليس في آخر. أعتقد انها تجيء من انطباعات نخزنها طوال حياتنا، تنضج من ناحيتها، وذات صباح تطفو مجدداً على السطح وتفرض نفسها عليك".

 

أمس في برلين، قبل ساعات قليلة من تسلميه الجائزة المرموقة خلال العرض الألماني الأول لـ"آل فايبلمان"، عقد سبيلبرغ مؤتمراً صحافياً غصت الصالة خلاله بالإعلاميين. الجميع أراد إلقاء نظرة على سبيلبرغ والاستماع إليه. لا يوجد أحد لم يمسه فيلم من أفلامه الـ35 التي قدمها منذ بداياته والتي ترشح عنها على 19 جائزة أوسكار وفاز بثلاثة منها. أفلام فيها كل الأنواع: من الدراما التاريخية إلى الكوميديا فالخيال العلمي وسينما المغامرات والرعب والمطاردات والميوزيكال والحرب والجواسيس... حتى التحريك لم يعص عليه. فيلموغرافيته المتنوعة، فيها على الأقل دزينة من التحف السينمائية، وقد حرص المهرجان على انتقاء ثمانية من أفلامه التي تكشف هذا التنوع. على سبيل المثال، يصعب العثور على عملين يختلفان إلى هذا الحد مثل "مبارزة" و"لائحة شندلر" أو "جسر الجواسيس" و"إي تي".   

قال سبيلبرغ خلال المؤتمر أن هذا النوع من التكريمات يعيد الإنسان إلى ماضيه، وهذا ما جعله يفكّر بأمه التي توفيت قبل ست سنوات، ووالده الذي رحل قبل ثلاث. صرح أيضاً أن شغفه بالسينما لم يتراجع ولم يخبُ طوال كل هذه السنوات، ولا يزال يحتفظ بدرجة الحماسة نفسها، التي كان يشعر بها عندما يجد كتاباً جيداً يعتقد أنه سيصنع فيلماً جيداً. إعترف أيضاً أنه فكّر في الموت والتقدّم في السن لأول مرة في حياته في إبريل (نيسان) من عام 2020 والجائحة مدّته بالقوة الضرورية ليتناول قصته الشخصية. قال: "لطالما فكرت في أن أصور فيلماً عن أمي وأبي وأخواتي، وعن هذا الصراع بين الفن والعائلة. كلّ أفلامي شخصية، ولكن ما من فيلم كان بهذا القدر من التحديد كما حال "آل فيابلمان". سُئل سبيلبرغ عن الفيلم الذي يفضّله بين أفلامه، فرد بأنها كأولاده لا تفضيل بينها، بيد أنه روى أن أكثر عمل مرهق على المستوى الجسدي أنجزه كان "الفك المفترس"، أما عاطفياً ومعنوياً فكان "لائحة شندلر"، مضيفاً أن "آل فايبلمان" تجاوزه.  

 

خلال منحه "الدب الذهبي" لسبيلبرغ، ألقى المغني الإيرلندي بونو كلمة قال فيها إن هناك أسباباً عدة وراء حب الناس هذا المخرج. فذكر أن غولدا هون، وهي تهرع لإنقاذ ابنها في "شوغرلاند اكسبرس" هو موقف سبيلبرغي بامتياز، وهي تذكره بأمه التي كانت لتفعل الشيء نفسه لإنقاذه. "هوليوود آلة وسبيلبرغ روحها"، قال في تفكيك عميق لأهم ما يتميز به عمل "صانع الأحلام"، الذي بدا متأثراً وهو يجلس إلى جنب زوجته كايت. تصفيق حار حظي به سبيلبرغ عندما اعتلى خشبة المسرح ليقول كلمة وجدانية. فتحدث عن الزمن وكيف هو نسبي، فيبدو بعيداً وقريباً في آن واحد. ثم قال إن هذه الجائزة لها معنى خاص عنده، لأنه مخرج يهودي، معتبراً فوزه بها خطوة صغيرة ضمن مشروع أكبر لتضميد جراح التاريخ. وعلق قائلاً: "الظلم ليس نقيض العدالة، بل النسيان. المصالحة ممكنة فقط عندما يذكر الإنسان ماذا حدث". وختم ممازحاً وهو ينظر إلى الجائزة: "عليّ أن أعترف أنّ الدببة تخيفني أكثر من القروش".

 

قال غودار ذات مرة: "أنا الماضي وسبيلبرغ هو المستبقل". أما فيلليني فكان يعشق "مبارزة". شارلوت تشاندلر روت في كتابها "أنا، فيلليني"، أنهما التقيا لأول مرة في عام 1973 في روما وتناولا الغداء معاً، وعبّر فيلليني عن إعجابه به. وكان سبيلبرغ سعيداً بهذا اللقاء، فهو كان من أشد المعجبين بالمعلم الإيطالي، وظلا يتراسلان بتقطع. وعلّق سبيلبرغ الصورة التي التُقط لهما في مكتبه. وحين نال "الأسد الذهبي" عن مجمل أعماله في البندقية عام 1993، لم يستطع رؤية فيلليني لأنه كان يرقد في المستشفى، لكنه بعث له برسالة، وهي كانت آخر رسالة يطالعها فيلليني في حياته. ثم جمعته علاقة صداقة ومهنية بستانلي كوبريك، الذي كلفه قبل رحيله بانجاز "ذكاء إصطناعي"، اذ رأى فيه الشخص المناسب لتحقيق هذا المشروع الذي حلم به طويلاً. صداقات أخرى ربطته بالعديد من السينمائيين الأوروبيين، ومن بينهم فرنسوا تروفو الذي كان أعطاه دور العالم الفرنسي في "لقاء قريب مع الجنس الثالث". 

في حديث مع جان بيار لافوانيا وميشال روبيشون في مناسبة مئوية السينما عام 1995، أشاد سبيلبرغ بالسينما الأوروبية التي لطالما ألهتمه وكان أحد أبنائها منذ بداياته، قائلاً أنها أنقى من السينما الأميركية وأن "الموجة الجديدة" التي برزت في فرنسا وإيطاليا كان لها تأثير كبير في السينمائيين الأميركيين، خصوصاً في أبناء جيله الذي أسس ما عُرف بـ"هوليوود الجديدة" في نهاية الستينيات. ولم يخفِ سبيلبرغ أن السينما الأميركية راحت تؤثّر سلباً في السينما الأوروبية، فتجّرها إلى مبدأ الإنتاجات الكبرى لتجرّدها من الأسلوب الشخصي الذي لطالما ميّزها.

 

في مقابلة لي مع يانوش كامينسكي، الذي صوّر أفلام سبيلبرغ في السنوات الثلاثين الأخيرة، كشف بعض أسرار عمله السينمائي مع المعلم: "مع سبيلبرغ، لا نشاهد أفلام الآخرين قبل البدء بالتصوير، ولكن هذا لا يعني أننا لا نعلم كيف كان جون فورد يصوّر. علاقتنا المهنية أثمرت أعمالاً كبيرة، وهذا لا يحصل دائماً. في الكثير من الأفلام، تلاحظ أن المخرج يعمل على شيء والمصوّر على شيء آخر. لا كيمياء بينهما، وإن بدا الأمر من الخارج غير ذلك".

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

يؤمن سبيلبرغ أن السينما هي مثل الحياة التي تحيط بنا ولكن في شكلها الأفضل. الحياة في نظره تجربة علينا جميعاً التصدّي لها، أما  السينما فهي تجربة أكثر تحديداً وأكثر حميمية. هي عذر لمغادرة حياتنا والعيش بضع ساعات حياة شخص آخر، مع عدد من الإحتمالات. يعترف أن ما حرّك أفلامه طوال حياته وما غذّاها، هو أكثر التجارب الأليمة التي مر بها. حتى وإن كان العديد من أفلامه يثير نهماً معيناً إلى الحياة، فذكرياته الأقوى هي دائماً الأكثر تعاسةً. عندما سألته مجلة "استوديو" أي تحديد لمهنته يفضّل، فكان جوابه أن الكلمة الفرنسية "سينياست" هي التي يفضّلها لأنها أفضل تعريف لمهنته. يحب أيضاً كلمة "سينيمانياك" (مهووس سينما) التي تعبّر عنه جداً بحسب تعبيره. أما في الإنكليزية، فيفضّل كلمة "فيلم ميكر" (صانع أفلام) على "دايركتر" (مدير) لأنها تتعلّق مباشرة بالحرفة. يقول معلّقاً: "مثل طاه في مطبخه، يملك في تصرّفه الكثير من التوابل، من الأدوات، يصنع بفضلها طبقاً لذيذاً ومغذّياً. لا أحبّ كلمة "دايركتر" التي ترن مثل "ديكتيتر" (ديكتاتور). "فيلم ميكر" كلمة أكثر وداً، تنطوي على تعاون مع الآخرين. أحتاج الى موهبة الآخرين لأكون أفضل ممّا لو كنت وحدي". 

كواحد من أشرس المدافعين عن المشاهدة داخل الصالات، يأمل سبيلبرغ أن تبقى السينما دوماً شعاعاً من ضوء، وغباراً متناثراً على شاشة في صالة كبيرة، ويتمنى أن تحافظ على جاذبية ينبغي الإنتقال من أجلها. أما الذي كان يخشاه قبل أكثر من ربع قرن ولا يزال يخشاه، فهو أن تتحول السينما إلى إسلوب تعبير أناني، بحيث يصبح كل مشاهد قادراً على مشاركة السينما في منامه، بالحلم، بواسطة قطب كهربائي أو حبوب، وألا تعود تجربة نتقاسمها مع آخرين. 

المزيد من سينما