Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

دايفيد هوكني المجدد من داخل التقليد استخدم الفن الرقمي

معرض فرنسي يعيد خط مسيرته الإبداعية بمختلف مراحلها وإنجازاتها

لوحة رسم فيها هوكني والده ووالدته (خدمة المعرض)

منذ معرضه الاستعادي الأول في #لندن عام 1970، ما برح الفنان البريطاني #دايفيد_هوكني يثير اهتمام #النقاد وهواة الفن، سواء بموهبته الفنية الفريدة، أو بتعدّد مصادر وحيه التي تمتد من الصورية الشعبية إلى أعمال المعلّمين القدامى و#الحداثيين، أو بموضوعاته التي بقيت ثابتة (الطبيعة الجامدة، البورتريه والمشهد الطبيعي) يهيمن على معالجتها هاجس التمثُّل والمنظور. طلائعي، في الوقت نفسه، بمساءلته رؤيتنا للعالم وطريقة تفاعلنا معه، يشهد عمله الباهر على عبقرية في استكشاف إمكانات الرسم والحفر والتصوير الفوتوغرافي والتكنولوجيات الرقمية.

لا عجب إذاً في المعارض الغزيرة التي تخصّص له في أوروبا وأميركا، أحياناً أكثر من واحد في العام نفسه، كالمعرض الذي نظّمه "متحف مدينة نيس" منذ أشهر قليلة على شكل حوار بينه وبين ماتيس، والمعرض الذي ينظّمه حالياً له "متحف غرانيه" في مدينة إكس أن بروفانس، بالتعاون مع "متحف تايت" اللندني. معرض لا يفوّت لكونه يعيد خط مسيرة هذا العملاق من مطلع الخمسينيات إلى اليوم، متوقفاً في صالاته التسع عند الطرق التي تأمل فيها الطبيعة والحياة المعاصرة، وتلك التي اتّبعها لتمثيل هذه التأملات.

اللوحات الحاضرة في الصالة الأولى تبيّن أن هوكني تأثّر في بداياته بتيارات فنية مختلفة. لوحات تجريبية يعكس بعضها افتتانه بالفن القديم والمعاصر، واهتمامه بالوجه البشري وأماكن واقعية وخيالية، وبعضٌ آخر سعيه آنذاك إلى مقاربة مثليته. وفي هذا السياق، قاده فضوله تجاه الأعراف التصويرية والمفاهيم الفضائية إلى مزج داخل عمله، فن الغرافيتي والرسائل المشفَّرة والأشكال المدبّبة والكتابة الحرّة، بغية مقاربة موضوعات مثل الحب أو الجنس. ومع تحرّره تدريجاً، تتجلى مساءلته للرغبات بشكل مكشوف وأكثر تعقيداً.

واقعية الأحلام

 

في الصالة الثانية، ننتقل مع هوكني إلى لوس أنجلس، المدينة التي تصبح فيها الاستيهامات والأحلام واقعاً، وعشق الفنان فور وصوله إليها، ضوءها المتلألئ وفضاءاتها الفسيحة الحرّة، فانطلق في رسمها ضمن تساؤل ثابت في كيفية تمثيل شفافية الزجاج أو حركة تموّج الماء. ففي "رجل تحت الدشّ في بيفرلي هيلز" (1964) مثلاً، حقق توليفة معقّدة تقع بين واقع وخرافة. وفي "عوامة تطفو في حوض سباحة" (1971)، التي تتجاور فيها أشكال متلألئة وتصاميم هندسية متباينة، وجّه انتقاداً للفن التجريدي الذي كان رائجاً آنذاك.

في الصالة الثالثة، نرى كيف وضع هوكني خلال السبعينيات رسوماً ذات حساسية كبيرة تجاه الأشخاص المحيطين به والأماكن التي كان يحيا داخلها، قبل أن يستعين بآلة تصوير لإنجاز لوحات تمثّل بطريقة أكثر فأكثر، واقعية الضوء والظل والوجوه البشرية، وفي الوقت نفسه، توهم بفضاء وعمق شاسعين. ونظراً إلى اهتمامه بالآثار السيكولوجية والعاطفية الناتجة من حضور وجهين بشريين داخل إطار مغلَق، رسم تلك البورتريهات المزدوجة الشهيرة التي يجمع إخراجها بين وضعيات جسدية متكاسلة، وبين الجانب الشكلي لفن البورتريه التقليدي، ويدعونا إلى ولوج المجال الخاص للشخصيات الممثَّلة فيها.

 

في أعمال الصالة الرابعة، يتبيّن لنا تخلّي هوكني بسرعة عن أبحاثه الأولى التي كانت تهدف إلى وضع الوجه البشري في مركز فنه، لصالح بورتريهات طبيعية الأسلوب، تحتفي بالشخصيات المرصودة لها وتعزز إنسانيتها. نتأمل أيضاً سلسة المحفورات التي استوحاها من قصائد الشاعر اليوناني المصري كفافيس، وتبنّى فيها أسلوباً متقشّفاً تعكس دقة خطه وبساطته كتابة الشاعر، وتمنح مشاهد الحب فيها طابعاً رومنطيقياً جليلاً. أعمال تجاور في هذه الصالة بورتريهات لأصدقائه وأفراد عائلته، أسقط داخلها انفعالات معقّدة مختلفة، بفضل تطويره طريقة عمل جديدة سمحت له بالإمساك بجوهر جسد ما، باقتصاد كبير في الوسائل.

الفضاء الثلاثي الأبعاد

وتنقلنا الصالة الخامسة إلى الثمانينيات التي شهد عمل هوكني خلالها تحولاً راديكالياً في الأسلوب والوسيط. فإثر اكتشافه الرسم الصيني على لفائف، أنجز محفورات سعى فيها إلى استكشاف الواقع المتقلّب للفضاء الثلاثي الأبعاد، وفقاً لـ "نقطة محورية متحوّلة" للمنظور والذاكرة. أعمال تتراوح بين بورتريهات لبعض موديلاته المحبّبة وطبيعة جامدة بألوان حادّة، وتشهد على جهد في بلوغ واقع، في حالة حركة دائماً لدى الفنان، وعلى بحث مستمر عن مختلف إمكانات تمثيل الفضاء والأشياء.

وهذا البحث تحديداً هو ما دفعه إلى الاختبار بواسطة البرامج الأولى للرسم بواسطة الحاسوب، وأيضاً ماكينة الفاكس والآلة الناسخة، بغية ابتكار أعمال جديدة وتوفير أوسع وسيلة لنشرها. اختبارات تحضر في الصالة السادسة برفقة تلك التي قادها بعد ذلك بآلة التصوير الرقمية بهدف توثيق حياته داخل مرسمه. تحضر أيضاً سلسلة اللوحات التي حقّقها مطلع التسعينيات في منزله على شاطئ مدينة ماليبو الكاليفورنية واستكشف فيها الفضاء العميق للبحر، وبورتريهات زيتية لأصدقاء وأقارب بقياسات صغيرة، وبعض المشاريع التي رصدها لأعمال أوبرا (موزارت، فاغنر، سترافينسكي...)، وتتميّز بديكور جريء وألوان نيّرة وإضاءة باهرة، وأيضاً بأشكال وتصاميم مجرّدة. خيارات غايتها إثارة المُشاهد وإشراكه بشكل أكثر مباشرة في تأدية هذه الأعمال.

 

الصالة السابعة مرصودة لموضوع المرسم كمكان تنبثق فيه الصور من تساؤل الفنان الثابت وتأمّله في عمله. ومن بين اللوحات التي نشاهدها في هذه الصالة، تستوقفنا واحدة بعنوان "في المرسم"، هي عبارة عن بورتريه ذاتي يتألف من 3000 صورة رقمية ويحضر هوكني فيه داخل محترفه محاطاً بلوحات قديمة وحديثة. لوحة تلاعب الفنان فيها بالمنظور التقليدي، ولذلك تمنحنا الانطباع بمحور مركزي يتحرك وفقاً لأبعاد ثلاثة.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

وفي الصالة الثامنة، ننتقل إلى موضوع المنظر الطبيعي الذي شغل اهتمام هوكني مطلع الألفية الثالثة، وقاده إلى تمضية وقته في طبيعة منطقة يوركشاير البريطانية، فرسم لوحات شديدة التلوين والتعقيد لغابات وأشجار مقطوعة ومشاهد بانورامية، قبل أن يلجأ إلى آلة تصوير رقمية لمساعدته على الرسم في محترفه، من ذاكرته. وانطلاقاً من عام 2010، استبدل ريشته بجهاز "آيباد" أنجز بواسطته سلسلة رسوم رقمية حول موضوع حلول الربيع، ثم بآلة تصوير فيديو سمحت له برسم مناظر طبيعية داخل الفضاء والزمن على السواء، وبالتالي بتحقيق صور متحركة غامرة نظر إليها كأفلام تكعيبية رائدة.

وهذا التوجه الطلائعي في عمل هوكني هو ما يقودنا، بشكلٍ مفارِق، إلى موضوع الصالة الأخيرة من معرضه الحالي، أي مدى تأثّر عمله بكبار الرسامين القدامى والحداثيين. فمن فرا أنجيليكو تعلّم كيفية رسم فضاء منظوري غامِر، ومن آنغر استقى الخط الكلاسيكي الجديد، ومن ماتيس وفان غوخ الرسم الخطوطي المتواصل، ومن بيكاسو استمد الجرأة على استخدام تقنيات تعبيرية مختلفة، وتعلّم أمثولة التحليل التكعيبي للمنظور ولفضاء المشهد المرسوم. أما الترقين بالألوان الذي يحيي فضاء العديد من لوحاته ومحفوراته، فيستحضر طريقة عمل سيزان.

تأثيرات كثيرة إذاً ومختلفة لا يقرّ هوكني بها فحسب، في كل مناسبة، بل يذهب أحياناً إلى حد الشهادة عليها وتوجيه تحية لأصحابها من داخل عمله، كرسمه كرسي فان غوخ الشهير بكل سلطة حضوره، أو استخدامه في "بورتريه جون شارب" ليس فقط التأطير نفسه الذي اعتمده سيزان في "بورتريه مدام سيزان"، بل الوضعية نفسها، والاقتصاد نفسه في الخط، أو استحضاره بلا مواربة في لوحة "لاعبو ورق الشدّة" صورية سيزان النموذجية، وأيضاً وجهات النظر المتزامنة لبيكاسو التكعيبي.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة