Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

من هو الفيلسوف وهل يحتاج العالم إليه وكيف؟

رقيب الزمان وحاكم الوعي وراعي الفكر مرتبط بالوظيفة التنويرية الاستثنائية التي يضطلع به

الفيلسوف كما رسمه فراغونار (موقع الرسام - فيسبوك)

الفيلسوف رقيب الزمان وحاكم الوعي وراعي الفكر. ليس هذا القول نابعاً من أوهام النخبة، بل مرتبط بالوظيفة التنويرية الاستثنائية التي يضطلع بها الفيلسوف في مجتمعه. قلة من الناس تدرك مقام الفيلسوف الحق في معترك الحياة الاجتماعية اليومية. يطلقون عليه صفات شتى، وينعتونه في بعض الأحيان بالمنظر المعتزل المنكفئ الساكن في برجه الأثيري العاجي وقلعته النظرية الحصينة، بيد أن عبر التاريخ أظهرت لنا أن أفكار الفلاسفة حركت المياه الآسنة في غير سياق من سياقات الزمن الحضاري القديم والوسيط والحديث والمعاصر. لا بد، والحال هذه، من إعادة النظر في مقام الفيلسوف وهويته ووظيفته ودعوته حتى ننصفه ونعامله المعاملة التي تليق برسالته التنويرية الجليلة.

الفيلسوف "حبيب المعرفة"

يمارس الفيلسوف رسالة الفلسفة، والفلسفة تضطلع بمهمة جليلة تستوجب إدراك العلوم، وإتقان المعارف، ورعاية الحكمة. لا شك في أن الثالوث المعرفي المؤلف من العلوم والمعارف والحكمة يؤهل الفيلسوف لفهم كينونة الكائنات، وماهية الوجود، وجوهر الزمان، ومعنى الحياة. فالعلوم، وقد اطلع على خلاصاتها، ضرورية حتى لا ينطق بالضلال، والمعارف، وقد أحاط بمضامينها العامة، أساسية حتى يتقن فن الاستدلال والربط والاستخلاص، والحكمة، وقد اعتنقها اعتناقاً وجودياً، لا غنى عنها على الإطلاق حتى يضطلع برسالة الفلسفة. وعلاوة على ذلك، يحرص الفيلسوف على تهذيب أخلاقه وأخلاق الناس، إذ إن الحكمة الفلسفية لا تستقيم إلا بالمسلك النبيل. أعلم أن سير الفلاسفة ليست كلها على البهاء الذي نفترضه فيها، بيد أن المقاصد الفلسفية غالباً ما تنطوي على أشرف المضامين الإصلاحية.

من الضروري العودة إلى الجذر اليوناني الذي منه اشتق اصطلاح الفلسفة، ذلك بأن فعل فيلين (philein) إنما يدل على أمرين: البحث عن المعرفة أو الحكمة (sophia)، وأيضاً محبة الحكمة. ومن ثم، تشير الفيلين اليونانية إلى معاشرة الحكمة، وتقبيل خديها، والاستمتاع بمحضرها، وعشق روحها، والاحتفاء بها وخدمتها. فالفيلسوف إنسان الثقافة الراسخة، والمعرفة المنفتحة، والسعي العلمي الرصين، والاستقصاء الفكري المعمق الدقيق. حين تجتمع هذه الصفات في الإنسان، يستحق مقام الفيلسوف.

ومع ذلك، كان مخترع اصطلاح الفلسفة عالم الرياضيات اليوناني فيثاغورس (نحو 580 ق م – نحو 495 ق م) يرفض رفضاً قاطعاً أن يدعوه الناس حكيماً (sophos)، إذ إن امتلاك الحكمة، في نظره، من خصائص الآلهة وامتيازاتهم. اللقب الأعز على قلبه كان "حبيب المعرفة" (philosophos)، أي الفيلسوف الذي يعشق الحقائق العلوية السماوية السرمدية الإلهية. والإلهيات، في زمن الإغريق الأوائل، كانت تدل على علم الأصول والمبادئ والحقائق الجوهرية.

ثمة فرقة يونانية أخرى كانت تمتهن المعرفة وتسعى إلى العلم، ولكن من غير أن تعشق فضيلة الحكمة وتتوق إلى الحقائق الأسمى. اشتق اسمها أيضاً من اصطلاح الحكمة اليوناني، ولكنه أتى على صيغة مختلفة (sophistès) تدل على الإنسان المتخصص بالمعرفة، بيد أن هؤلاء السوفسطائيين كانوا يتلاعبون بالمفاهيم والمقولات والاصطلاحات والكلمات، فيجعلون الأبيض أسود، والأسود أبيض، شرط أن ينبني حجاجهم على مقتضيات التماسك المنطقي الظاهر، لذلك رشقهم أهل الحكمة الفلسفية بتهمة الاتجار بالمعرفة وتشويه الحقائق وادعاء العلم.

الفلسفة بين تخزين المعرفة وفن التفكير

بناءً على ذلك، يمكننا أن نميز في شخصية الفيلسوف صفتين اثنتين: حب المعرفة والعلم والحكمة، والرغبة في تهذيب ملكات الفكر واكتساب مهارة التناول العقلاني والتحليل الموضوعي. وقد تناسب الصفة الثانية فرادة الإنسان الفيلسوف، إذ إن إتقان فن التفكير أعلى مقاماً من تخزين المعارف وتكديس المعلومات ومراكمة الاختصاصات العلمية. كان الفيلسوف الألماني كانط (1724-1804) شديد الحذر من عمليات التضلع والتبحر والتوسع. فاكتساب المعرفة ليس فلسفة، إذ إن الفيلسوف ليس بالضرورة بحراً للعلوم ومحيطاً للمعارف وحافظاً للأفكار ومستوعباً للتصورات، بل صاحب الفكر المنفتح والنظر الصائب والحكم السديد. لا يقتصر حب الحكمة على دراسة النظريات الفلسفية، بل يتجاوز هذا المستوى من الاستقصاء ليغوص على معاني الوجود، مستنداً إلى ما اكتنزته اختبارات الحكماء والقدماء.

بين المثقف الإعلامي والفيلسوف الملتزم

لا ريب في أن الفلسفة فن التفكير النقدي في حقائق الوجود. كل فيلسوف لا يرضى أن يعيد النظر في جميع البناءات والعمارات والأنظومات والأنساق والهياكل لا يستحق الانتساب إلى محفل محبي الحكمة. ومن ثم، فإن الفيلسوف الحق إنسان مستنير جريء اكتسب مهارة التفكير النقدي الموضوعي البناء. فأخذ يتدبر المبادئ والأصول والأسس والخلفيات والمستندات والفرضيات التي تنعقد في تصورات الناس والمجتمعات والأمم والحضارات، فضلاً عن ذلك، يتميز الفيلسوف باعتصامه الصادق بمقاصد الرفعة الأخلاقية، إذ إن الفلسفة أيضاً فن الحياة الشريفة. نادراً ما يتساكن الفكر الفلسفي والفساد المسلكي أو قل الفجور السياسي في المدينة الإنسانية الواحدة، لذلك يستحيل على الفيلسوف أن يخالط أهل الفساد والضلال والانحراف الأخلاقي. بما أن الفلسفة فن الحياة الراقية، فإن الفيلسوف ما برح يجتهد في انتهاج سبيل الحكمة من أجل بلوغ السعادة الحق. من جراء هذا التساكن بين الفلسفة والصلاح، كان الأقدمون ينعتون الفيلسوف بالإله المائت الذي يطوي أيامه بين الناس حاملاً مصباح الاستنارة.

أما الميزة الأبرز في مسلك الفيلسوف، فالتناغم الجوهري بين الفكر والقول والفعل، ذلك بأن حبيب الحكمة يجرؤ جرأة عظيمة حين يصور للآخرين مثال الإنسان التائق إلى الكمال، فلا يكتفي بصوغ المبادئ ونحت الحقائق وسن الأحكام، بل يجهد في أن يحيا حياة توافق اقتناعاته الفلسفية. لا تقتصر رسالة الفيلسوف على الكشف عن الأفكار السامية، بل تنطوي أيضاً على مهمة حياتية جليلة تستوجب التزام المبادئ، وتجسيد القيم، والنضال في سبيل أنسنة الإنسان. ومن ثم، ينكشف لنا الاختلاف الخطر بين الفيلسوف الذي يحيا وفقاً لمقتضيات الحكمة، والمثقف الذي يفصح عن آرائه في الأحداث من غير أن يلتزم التزاماً كيانياً وجودياً. قد يكون المثقف المعاصر الذي يمتطي المعرفة مهنة إعلامية أقرب إلى شخصية السوفسطائي الإغريقي القديم.

معايير تصنيف الفلاسفة

لا يخفى على أحد أن لقب الفيلسوف لا يحمله عندنا كثير من علماء الفكر، إذ إنه ينطوي على معاني التألق والإبداع والإنجاز الأصيل. في غالب الأحيان يخلط الناس بين مراتب شتى من التفلسف، لذلك لا بد من تمييز مراتب الفلسفة حتى تستقيم التسمية في أذهاننا. قبل ذلك، أود أن أذكر بالممارسات المختلفة التي نصادفها في بيئاتنا الجامعية والأكادمية والثقافية. أعتقد أن المجتمعات العربية تحتار في أمر التسمية، إذ تكتفي بعبارات ضبابية لا تفصح عن ماهية الوظيفة الاستثنائية التي يؤديها الفيلسوف. أما التنازع الأشد فأعاينه في الأوساط الجامعية العربية التي لا تستحسن إطلاق لقب الفيلسوف إلا بعد مكابدة وعناء وجدل منهك. السائد أن يدعى الفلاسفة بالمتفلسفة، ولكن من غير ازدراء أو تسخيف، أو بأهل الفكر الفلسفي، أو بأساتذة الفلسفة، وذلك كله تخفيفاً لوطأة الرسالة الفلسفية على وعي الفلاسفة أنفسهم ووعي الناس على حد سواء. أعتقد أن الإحجام عن منح لقب الفيلسوف في الأوساط الثقافية العربية يرتبط بأمرين متناقضين: الحقيقة المثالية التي تفرض على وعينا أن يكون الفيلسوف من أهل الإبداع الفريد، والحقيقة المخجلة التي تجعل كل أساتذة الفلسفة، من أكسلهم إلى أنشطهم، يرغبون في أن يدعوهم الناس بالفيلسوف الألمعي.

من الإنصاف أن يميز المرء أربع فئات: أبداً بأهل المعرفة العامة الذين يكتسبون من جراء مطالعاتهم وقراءاتهم ثقافة فلسفية رصينة تؤهلهم للمشاركة في مطارحات المجتمع الفكرية الناشطة في مسائل شتى من حياة الناس، ثم انتقل إلى أساتذة الفلسفة الذين يدرسون الفلسفة في المدارس والثانويات والمعاهد والجامعات، بفضل الخلاصات التعليمية الثمينة التي أنضجوها في مداركهم، يتسنى لهم أن يكتسبوا معرفة فلسفية موثوقة تؤهلهم لمواكبة تطور الفكر الفلسفي المحلي والعالمي. أمضي بعد ذلك إلى الفلاسفة الباحثين والمؤرخين الذين ينظرون في تاريخ الأفكار الفلسفية ويحللونها، ويستجلون مضامينها، ويستصفون جواهرها، ويتأولون حدوسها، ويستثمرون فتوحاتها، هؤلاء الفلاسفة الباحثون يمتلكون من الفهم الفلسفي ما يؤهلهم لصوغ أحكام المقارنة والتقويم، وتدبر مسار الفكر الفلسفي واستطلاع آفاقه. أما الفئة الأخيرة فينتسب إليها أصحاب الأنظومات الفلسفية الجديدة، أو التصورات الفلسفية المبتكرة، أو الآراء الفلسفية الفذة، أو الحدوسات الفلسفية الأصيلة. أعتقد أن الفئة الأخيرة هذه، على ندرتها، تحتكر في مجتمعاتنا العربية لقب الفيلسوف الحق، في حين أن المجتمعات الغربية لا تستنكف من منح الفئات المذكورة، ما عدا الأولى، لقب الفيلسوف، ويقينها أن كل من تعاطى مهنة التفكير الفلسفي، مهما تنوعت مقادير إبداعاته، يستحق هذا اللقب.

في سياق المشروع التأريخي الفلسفي الذي أشرف عليه من أجل ترصد البناءات الفلسفية المعاصرة في الأوطان العربية، وضعت بضعة من المعايير الاستنسابية التي تجعلني أصنف نتاج الفلاسفة العرب المعاصرين. أغتنم الفرصة لأذكر بما سقته في مقدمة كتاب "الفكر الفلسفي المعاصر في لبنان" (مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، 2017): "من البديهي القول إن الفلسفة صناعة وجودية تنغل في تعابير الذات الأصيلة المبتكرة. فكل ذات لبنانية أصيلة مبتكرة خليقة، والحال هذه، بأن تأتي بإسهام فلسفي. إلا أن البحث اقتصر، في تخير الفلاسفة اللبنانيين المعاصرين هؤلاء، على الذين اكتملت لديهم أربعة من الشروط الأساسية: دراسة الفلسفة دراسة أكاديمية وإنجاز أطروحة الدكتوراه في حقل من حقول الفلسفة، وتعليم الفلسفة في الجامعات والمعاهد الأكاديمية العليا، والتفكير والبحث والنشر في حقول الاختصاص الفلسفي المحض، والإتيان بأنظومة فلسفية متسقة جديدة، أو بتصور فلسفي أصيل، أو بحدس فلسفي مبتكر، أو حتى بتناول فلسفي فتاح، لذلك أعرض الكتاب عمداً عن فئتين: أساتذة في الفلسفة من النجباء اللامعين في الجامعات والمعاهد اللبنانية، ومتمرسين بالفكر من أهل الحكمة والتبصر المتقدين الذين لمعوا في أفق التفكر الإنساني في سياق الاجتماع اللبناني المعاصر. والفئتان هاتان قد تنطوي أعمالهما على أبعاد فلسفية جليلة. وقد يخرج من بيننا من يعنى بترصد هذه الأبعاد ودراستها. غير أن انعقاد الشروط الأربعة المذكورة حصر اللائحة بأسماء الفلاسفة اللبنانيين المعاصرين هؤلاء".

الفيلسوف في المجتمعات العربية

من الواضح، والحال هذه، أن الفيلسوف ما برح يجسد مثال الإنسان الذي يملك القدرة على التفكير الذاتي النقدي البناء، من غير أن يخضع للثقافة السائدة، أو للأنظومة المهيمنة، أو للمذهب الرائج، أو للتيار الشائع، بيد أن هم الفيلسوف يملي عليه أولاً أن ينهج سبيل الاستقامة الفكرية والمسلكية حتى يستطيع أهل المجتمع الذي ينتمي إليه أن يستدلوا على الصراط القويم. ليس على الفيلسوف سوى الإشارة. أما الالتزام فينهض إليه الناس، وقد استناروا بما استخرجه لهم من نضيج الآراء وسليم التصورات وسديد التوجهات، لا سيما في ما يتعلق بأصول الحياة الصالحة، المستقيمة، العادلة، السعيدة.

أعلم علم اليقين أن الفيلسوف يختبر غربة الوجود، ويحيا في عزلة التأمل، ويعاني لا مبالاة المجتمع، مما يجعله يقنع بمصيره التوحدي، بيد أن هناك فئة من الفلاسفة يرغبون في معاركة الدهر، ومقاومة الظلم، واستصلاح الاجتماع الإنساني بالفكر والقول والفعل. فإذا بهم يعتلون المنابر ويخطبون في الساحات العامة، ويلتئمون في الحركات الاجتماعية والسياسية الإصلاحية، محذرين من انحراف الأيديولوجيات، وبطش السلطان، وجشع الشركات الإنتاجية العالمية، واحتكارية القرار العلمي الكوني.

أما في المجتمعات العربية المعاصرة، فالفيلسوف ما فتئ يحيا في البحث عن مقام يليق به، ووظيفة تناسب دعوته، ودور يلائم رسالته التنويرية. في أغلب الأحيان، ألاحظ قدرة فائقة على المسايرة الحكيمة، إذ إن الفيلسوف العربي المعاصر يتكيف ويتأقلم ويلاين ويساوم حين يدرك بحدسه العملاني وفطنته المتوارثة أن التاريخ يتقدم ببطء، لذلك يؤثر التروي والتصبر، عوضاً عن المجابهة التي قد تفتك به فتكاً ذريعاً. من الفلاسفة من يرفض المسايرة، فتدوسه عجلات التاريخ بلا شفقة، ومنهم من يساير حتى المساومة والتزلف، ومنهم من يراقب بحكمة مسار الأحداث حتى يتبين له أن الوقت قد حان من أجل الدعوة إلى تحول جديد، أو تغيير ضروري، أو استنهاض خلاصي.

الفيلسوف الذي يصنع الحدث

من الإنصاف القول إن بعض الفلاسفة العرب المعاصرين يرومون أن يصنعوا الحدث، فيشاركون مشاركة كثيفة في مسار التاريخ، وينخرطون في حركة الزمان، ولكن بما أن المجتمعات العربية شديدة التقلب، نرى هؤلاء الفلاسفة يخطئون الهدف، فيوالون أنظومة بائدة أو سلطاناً جائراً، من غير أن يحسبوا أن عجلة الأحداث قد تدور دوراناً يخالف الوجهة الفكرية التي رسموها لها. بمعزل عن خيبات الأمل السياسية التي يبتلى بها هؤلاء الفلاسفة الراغبون في صناعة الحدث، لا بد من الاستفسار عن شروط صناعة الحدث الفلسفية. هل يستطيع الفيلسوف، وقد انعقدت هويته على التفكير النظري المثالي، أن يجترح الحدث التاريخي أو يفتعله أو يستثيره أو يلهمه، أو حتى إن يشارك في نشأته وانبساطه؟ في هذا المقام، ينبغي أن ننظر في معنى الحدث التاريخي الذي أضحى مكتنفاً بضبابية العولمة الكاسحة، لذلك لا بد لنا من التصدي الصبور للسؤال الفلسفي الخطر: من أو ما الذي يصنع الحدث التاريخي في الأزمنة المعولمة المعاصرة؟ أهل السلطان السياسي؟ أصحاب النفوذ الاقتصادي؟ النخبة العلمية الناشطة في مختبرات الأبحاث؟ معتنقو الأيديولوجيات الشمولية التي تسحر ألباب العامة فتجيش الناس من أجل نصرة القضية الأسمى؟

الفيلسوف الذي يصنعه الحدث

لست أرى للفيلسوف العربي المعاصر حتى اليوم موقعاً واضح المعالم مؤثراً نافذاً في معترك التنافس الكوني على الاستئثار بالقرار التاريخي الخليق بصنع الحدث. جل ما أعاينه، لا سيما في المجتمعات العربية، فلاسفة يصنعهم الحدث، إذ يضطرون إلى التفكير بعد وقوع الواقعة، لا قبلها. معنى ذلك أن الفلاسفة العرب المعاصرين يعجزون عن استيلاد الفعل التاريخي من مجرد التنظير الفكري. ليس العجز مقترناً بسوء النية أو بقلة الزاد المعرفي أو بضآلة الحدس الفلسفي الفتاح، على قدر ما أعاينه مرتبطاً بجسامة الحراك الكوني المتعولم، ذلك بأن المسكونة الخاضعة لمنطق الفلاح التقني أمست عاجزة عن الاضطلاع بمسؤولية الإنقاذ الشامل. فالبيئة مهددة بالتلوث المبيد والجوائح الآتية المهلكة، والعلاقات الدولية مضطربة اضطراباً ينذر بأوخم العواقب الاحترابية النووية، والعقل العلمي تسيره ضرورات منعفية محض، والاقتصاد مرتهن لمنافع الأنانيات الجماعية التي تهمل عمداً واجب تغذية مليارات الكائنات البشرية الجائعة، في حين يكاد ثمن هذه المليارات يحيا حياة كريمة فيحصل على الطعام السليم والماء النقي والهواء العليل.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

ومن ثم، أعتقد أن مهمة الفيلسوف أضحت في عسر شديد، خصوصاً في المجتمعات العربية التي لا تصنع الحدث. قد يأمل المرء في بعض من المشاركة الإيجابية حين يحيا الفيلسوف في مجتمع غربي مقتدر يصنع الأحداث، ولو على التواء في المقاصد وانحراف في الغايات، ولكنه على الأقل يشهد شهادته الفلسفية في موضع ولادة الحدث الكوني الحاسم، ويضطلع برسالته الفكرية في احتدام المناقشة التي يواجه فيها أهل القرار. أما في المجتمعات العربية، فالفيلسوف يوشك أن يفقد السيطرة على فكره من جراء خضوع هذه المجتمعات لضربين من التبعية: التبعية الناجمة عن الخضوع للحدث الكوني الناشط خارج الحدود، والتبعية للأنظومة الاجتماعية والثقافية والسياسية والاقتصادية السائدة في قرائن الزمن الراهن.

لذلك لا بد من اللطف بالفيلسوف الذي لا يستطيع، في مثل القرائن الضاغطة هذه، أن يبحث عن الحقيقة بحثاً متطلباً يقتضي إعادة النظر في الهوية الذاتية، وفي علاقتنا بالآخرين وبالطبيعة وبالكون وبالآلهة. إذا كانت الفلسفة، بحسب كانط، نظراً ناقداً في بنية الفكر عينه، فهل يستطيع الفيلسوف العربي أن ينتقد البنى والقوانين الفكرية السائدة في تراثه من غير أن يجابه الأنظومة وحراسها من جميع الأصناف والأنواع؟ هل يحق له أن يندد بالانحرافات ويفضح المظاهر الخداعة ويسمي الأشياء بأسمائها ويعطل الأحكام الظالمة ويقوم الاعوجاج ويناهض الضلال ويقارع جميع ألوان الأيديولوجيات القاهرة؟ لا ريب في أن كل فعل من هذه الأفعال ضرب من المقاومة الفلسفية المناضلة يستلزم من شروط البقاء والاستمرار ما لا يطيق المجتمع العربي المعاصر أن يضمنه للفيلسوف المناضل. لا عجب، والحال هذه، من أن يكتفي الفلاسفة الصادقون بالقسط اليسير من الاستنهاض الفكري. أما الآخرون، فإما يستحسنون رخاء البلاط، وإما ينكفئون إلى صومعات الفكر الحر. الحقيقة أني لا ألوم أحداً في العالم العربي، إذ أدرك أن الحياة العربية جهاد جسدي نفسي فكري مرير يصاب به من رمى به الدهر على قارعة التاريخ.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة