كل كائن حي صائر إلى الموت والزوال حتى يثبت العكس علمياً. بيد أن السؤال الأخطر يتناول كيفيات الموت وقرائنه وشروطه وأحواله ومكتنفاته: على أي وجه من الوجوه الإنسانية الممكنة نرغب في أن نموت؟ لا شك في أن استباق الموت يثير فينا رعدة الرهبة الكيانية العظمى، ويرسم لنا إمكاناتنا القصوى، على حد قول الفيلسوف الألماني هايدغر (1889-1976). ولكن الموت الذي تصاحبه آلام الجسد المنهكة هول عظيم تنخلع له القلوب، وترتعد له الفرائص، وتصطك به الركب. لذلك ما برح الناس يطالبون بالحق الشرعي في الموت موتاً كريماً رحيماً هنياً.
في ظل الجائحة الكونية المتفاقمة، ينبري بعض العلماء والمفكرين والفلاسفة فيسوغون ضروباً شتى من الموت الإرادي الحر. في المجتمعات الغربية التي يخضع فيها التشريع لمنطق المناقشات العلمية والفكرية العلنية، يدرك بعض الناس أن الموت الإرادي حق من حقوق الإنسان الأساسية. في هذا السياق، يجدر الانتباه إلى ظاهرة تشريع قتل الجنين حتى في ختام الأسبوع السابع من الحمل. أما في بعض الحالات الجراحية القصوى، فإن التشريع يبيح إنهاء الحمل في الأسبوع الثاني عشر، أي من بعد أن تتكون ملامح الجنين، فترتسم هيئة الرأس وتتضح سمات الفم والأنف والعينين المغلقتين والذراعين والساقين وأصابع اليدين والرجلين.
الحق في الحياة والحق في الموت
حين يقارن المرء أصناف الحقوق التي تنطوي عليها شرعة حقوق الإنسان بعضها ببعض، يتبين له أن مفهوم الحق في عبارة "الحق في الحياة" ينطوي على إشكال فلسفي. ذلك بأن مفهوم الحق لا ينطبق إلا على الأمور الممكنة. ومن ثم، فإنه من المستغرب أن يطالب الناس بحقهم في العبقرية أو في الجمال، إلا إذا استطاعت تقنيات التجميل النسائي أن تبتكر هيئات اصطناعية ترسم على المحيا الأنثوي أمارات الجمال المستورد. لست أينشتاين العلوم الفيزيائية، ولست بقادر اليوم على اللحاق بعبقريته. ومن ثم، ليس لي الحق في مطالبة الناس بإنصافي ومنحي القدرة على اكتساب مثل العبقرية النادرة هذه. العبقرية والجمال والثراء الأخلاقي الذاتي وقائع وجودية، لا حقوق مكتسبة يطالب بها الناس مطالبة شرعية قانونية. وعليه، فإن الحق في الحياة لا يستطيع الإنسان أن يطالب به إلا في حدود الحفاظ على نعمة الحياة، إذ لا أحد يستطيع أن يمنح الأحياء الحياة، وقد سبق أن نشؤوا عليها وفيها. جل ما نستطيع أن ننجزه إنما هو صون الحياة وتعزيزها وتطويرها وترقيتها.
الانتحار الاعتراضي العبثي
بيد أن الحق في الموت لا يوازي الحق في الحياة، إذ إن الموت يختم الوجود، في حين أن الحياة تهيئه وتستقبله وتحتضنه وتعززه. لذلك ينبغي التمييز بين ضروب شتى من الموت: الموت الرحيم في حالات الاستعصاء الطبي القصوى والآلام العبثية المبرحة، والموت الطوعي التضامني استنقاذاً للبشرية أو نصرةً لقضية من قضايا الإنسان، والموت الانتحاري الذي يفضي إليه قرار الإنسان الشخصي. لا بد، في هذا السياق، من النظر في الموت الإرادي الانتحاري هذا. إذا كان الموت الرحيم إعتاقاً للإنسان من آلام الجسد الثقيلة المضنية، فإن الموت الانتحاري ينتشل الإنسان من جراح الوعي، وأوجاع النفس، وامتحانات الفكر المهلكة. الحقيقة أن بعض الناس يفضلون الانسحاب الطوعي من الحياة لشدة ما يصيبهم من إرباكات التفكر في ألغاز الكون، وأحجيات الوجود، وأسرار العالم. بعض من الفلاسفة أنهوا حياتهم بقرار شخصي ذاتي منبثق من معاناة إرباكات الوجود. وقد يظن بعض الناس أن موت السيد المسيح الطوعي على الصليب موت إرادي من أجل نصرة قضية المحبة الكونية، وقد يتحول إلى مستند لاهوتي يبيح للإنسان أن ينهي حياته حين يتيقن أن الأسباب الوجودية الموجبة تسوغ له مثل القرار الاستثنائي هذا.
في حالات الموت الرحيم، يجمع العلماء والأطباء وفلاسفة الأخلاق واللاهوتيون على ضرورة تعزيز المصاحبة الطبية والنفسية التخفيفية التي تجعل المريض المدنف الذي أشفى على الموت يودع الحياة توديعاً راقياً يليق بقيمتها الأصلية. إذا نجح علماء الطب والنفس في مؤازرة الاعتلال الجسمي الأشد ومساندة المريض في اجتياز العتبة الفاصلة بين الحياة والموت والحياة الأخرى السرية المنحجبة المستشكلة على العقل البشري، استطاعت الإنسانية أن تصد المتألمين المنهكين اليائسين القانطين عن تحمل أثقال القرار الفردي القاضي إنهاء الحياة في جميع أبعادها البيولوجية والنفسية والعلائقية الاجتماعية والتضامنية الكونية. ذلك بأن قرار الموت لا يشبه أي قرار من القرارات الوجودية الكبرى. فالموت ينهي الكيان الإنساني، ويجر على الكون اهتزازاً كيانياً تختلف مقاديره باختلاف قرائن انقضاء الحياة. الحقيقة أن قرار الموت يلزم الإنسان في مجال ميتافيزيائي يتخطى وجوده التاريخي المنظور. لذلك ينبغي أن يتدبر الإنسان مفاعيله التي تخرج عن سلطة الوعي ومرجعيات الفعل التاريخي الممكن.
المستند القانوني في تسويغ الموت الطوعي
من الضروري، والحال هذه، أن ننظر نظراً حصيفاً متأنياً في مفهوم الحق في الموت، ولو اختلفت الخلفيات والقرائن والمستندات. يعلم الجميع أن الحقوق ترعى علاقات الناس بعضهم ببعض وعلاقاتهم بالسلطات الشرعية. إنها مستند الأنظمة التي تنطوي في مقاصدها القصوى على مطلب صون الحياة. كيف يمكننا إذاً أن نضع الموت في سياق الحياة، وقد ثبت أنه يبطلها ويعدمها ويلغي كل آثارها القانونية؟ لا يجوز، من ثم، أن نشرع الموت الذي لا سلطان لنا عليه. في القوانين العامة ينظر المشرع إلى الحياة ومفاعيلها في تعزيز حقوق الكائن الإنساني الحي. أما التشريعات التي تتصل بمسألة الموت، فتقتصر على الآثار التي يخلفها غياب الكائن الحي من حيث الميراث ورعاية ذاكرة الميت المعنوية. لذلك يبطل الموت المقام القانوني في الكائن الإنساني، وينزع عنه كل الصفات الشرعية، ويجرده من كل الحقوق، ويعفيه من كل الواجبات، ما خلا احترام الأثر الأخير في الجثمان المتحلل المتماهي بتراب الأرض.
يستند النقاش الفلسفي هذا على مفهوم الكرامة الإنسانية التي تعاين فيها الحضارات والمجتمعات إما مبدأ، وإما قيمة، وإما مسلمة تأصيلية (axiome)، وإما حقاً من الحقوق الأساسية. في التناول الأخير تنشأ المشكلة القانونية، إذ إن الشخص المعنوي لا يجوز له أن يتنازل عن هذا الحق على الإطلاق. من مفاعيل تطور مفهوم الكرامة الذاتية أن الناس ما عادوا يعتصمون بها في حياتهم فحسب، بل طفقوا يطالبون بها في مماتهم. بيد أن المشكلة القانونية، بحسب أستاذة الأخلاقيات الطبية في جامعة أوكسفورد روث هورن، مؤلفة كتاب "الحق في أن نموت: اختيار المرء نهاية حياته في فرنسا وفي ألمانيا" (Le droit de mourir. Choisir sa fin de vie en France et en Allemagne)، إنما تنشأ من شرعية الحق الذي يمكن أن يمنح في حال الإقدام على إسعاف الآخرين في استعجال موتهم المبكر أو في افتعال الموت الذاتي. في هذا السياق، لا بد من التذكير بأن شرعة الحقوق الأساسية في الاتحاد الأوروبي على سبيل المثال لا تنطوي على تشريع تفصيلي يرعى مسائل الحرية التي تخول الإنسان الفرد الحق في إنهاء حياته من أجل صون كرامته الذاتية وسلامة وعيه وانسجام قوامه الداخلي الذي يجعله يتصور كيانه في هيئة السوية الجسدية النفسية الروحية الكيانية الأنسب.
المستند الأنثروبولوجي
يستعرض المحامي والأستاذ الجامعي البلجيكي (كليات نامر الجامعية)، في كتابه "الحق في الموت" (Le droit à la mort)، جميع الأدلة العلمية والأنثروبولوجية والفلسفية التي تؤيد حق الإنسان في موت شريف كريم عزيز رقيق هادئ سلمي، لا يذل الإنسان، ولا يعفر خده وجنبه، ولا يمرغ جسده في حمأة الهذيان، ولا يقص جناحه، ولا يقوض وعيه ويرطمه بعاهات الاعتلال المرعبة. مستنده الأنثروبولوجي أن الإنسان لا يختار الحياة، بل الحياة تصطفيه اصطفاء حراً. لذلك ينبغي أن نعوض له عن الحرمان الأصلي هذا، فنمنحه الحق في اختيار القرائن الزمنية والمكانية والطبية والعلاجية التي ترافق انطفاء كيانه وانقضاء أجله، ولو ظن بعضهم أن غياب الحرية في الولادة ينبغي أن يوازيه غياب الحرية في الممات. من الخواطر البارزة في هذا الكتاب أن المجتمعات الغربية تتيح للناس أن يختاروا سبلاً شتى من الانتحار البطيء (التلوث المتفاقم، الكحول والتدخين والمخدرات الخفيفة المشرعة، الخضوع النفسي لمعايير الإنتاجية الإقصائية الجارفة، الهندسات الجينية والعلاجية المسيئة إلى الانسجام الخلوي العضوي الدقيق في الجسم الإنساني، إلخ)، ولكنها تحرم عليهم أن يختاروا بحرية موتهم الذاتي الخاص الذي يعنيهم في صميم كرامتهم الفردية.
في كتاب "الحق في الحياة وفي الموت: أركيولوجيا أخلاقيات الحياة" (Le droit de vie et de mort. Archéologie de la bioéthique)، يضع أستاذ القانون في جامعة ستراسبور الفرنسية جان-بيار بو مسألة الحق في سياق الحضارة الغربية التي نحتها تلاقح تصورين ثقافيين أساسيين: الفكر الإغريقي-اللاتيني المبني على مفهوم الحق، والفكر المسيحي المستند إلى روحانية التجسد في صميم بشرية الإنسان. في تضاعيف التحاليل التي يسوقها سوقاً جريئاً، يحذر من اجتياح أخلاقيات الحياة الفضاء الحقوقي الغربي، بحيث يصبح الحق في الحياة ضرورة من ضرورات انتظام الهندسة الجينية العلمية وإباحة جميع أصناف التركيبات والتدعيمات الإلكترونية المتناهية في الصغر والمتعاظمة في الأثر.
الاعتراض على الحق في الموت الإرادي
خلافاً للذين يناصرون حق الإنسان في الحكم الذاتي على حياته وعلى كرامته وعلى أهليته للاستمرار الواعي الكريم في الوجود، تنبري كوكبة من العلماء والمفكرين لتناهض التأويل القانوني الخطأ هذا، فتعتبر أن الحياة الإنسانية حقيقة متسامية تتجاوز مستوى الأفراد وتتخطى مجال حرياتهم الذاتية الفردية. ذلك بأن هبة الحياة مقدسة لا يجوز التصرف العشوائي فيها. ومن ثم، لا يحق للأطباء والعلماء وأهل القانون وفلاسفة الأخلاق أن يشرعوا إنهاء حياة المرضى المدنفين. لا شك في أن الموت الرحيم يستند إلى تصور فرداني يضع حرية الشخص الإنساني في سياق المنفعة الذاتية الضيقة. غير أن خطورة القرار الحر في إنهاء الحياة تشتد على قدر ما تتفاقم التباسات مفهوم الموت. فالاصطلاح الطبي الذي يجتهد في تعيين طبيعة الموت يحتمل كثيراً من التأويلات، ويعسر على المشترع الخروج بتعريف قانوني جامع مانع. فهل الموت توقف في الدورة الدموية وشلل في الدماغ؟ أم عجز عضوي عن تحريك الأعضاء وفقدان مطبق للوعي؟ أم تعطل كامل في الاستثارات التلقائية العصبية في أصل الجذع الدماغي؟ ما دامت حقيقة الموت البيولوجية خاضعة للتأويلات الطبية والاجتهادات القانونية، فإن القول الفصل في تعيين لحظة الأجل النهائي والانقضاء الحاسم وضبط قرار الموت الذاتي يحتاج إلى كثير من الفطنة والتروي والحكمة.
الحق في الحياة
رأس الكلام في هذا كله أن الحرية سلطان ذاتي منبثق من كرامة الإنسان الأصلية يمنح الكائن الإنساني الفرد القدرة على فعل ما يشاء، شرط أن يحترم حقوق الآخر احتراماً صارماً مطلقاً. من الواضح أن اعتناء النصوص الدستورية والقانونية الغربية بمسألة الحق في الموت يستنهض الفكر الفلسفي من أجل الإسهام في استجلاء الرهانات الأنثروبولوجية الخطيرة التي ينطوي عليها مثل القرار الوجودي الفردي هذا. عماد الاجتهاد القانوني القول بأن للإنسان الفرد الحق في التصرف الواعي الحر في حياته الشخصية بعد الولادة، وأثناء المسار الحياتي، وفي اختتامه. يشمل هذا الحق إذاً رعاية الحياة الذاتية في بدايتها وفي نهايتها. أما الموت موتاً يصون كرامة الإنسان الكيانية في جميع أبعادها، فإنه يجسد أقصى متطلبات الوجود الإنساني الذاتية. إذا كان بعض الناس، وهم الأغلبية، يرغبون في الحياة، فإن بعضهم الآخر، لأسباب اعتلالية في الجسد المتهالك أو في الباطن المنفرط، يؤثرون الانعتاق الشرعي من انسدادات الحياة الجسدية والنفسية المطبقة على وعيهم. يعتقد كثير من أهل القانون في أوروبا، من بين الذين اجتهدوا في تشريع البند الثاني من المعاهدة الأوروبية، أن الحق في الحياة يتضمن الحق في الموت الكريم. لذلك ينبغي أن يصان الحقان معاً حتى تتعزز في الإنسان كرامته وحريته على حد سواء.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
في جميع الأحوال، يمنح الحق في الحياة الناس الراغبين في الموت الكريم حرية الانعتاق من الآلام التي لا يطيقها أي كائن بشري على الإطلاق. الحقيقة أنهم ليسوا إلا قلة من بين هؤلاء الذين يكابدون أقسى ألوان العذاب الجسدي، تتواطأ عليهم الأوجاع المبرحة حتى تذوي نضرتهم ويتخدد لحمهم، فلا يبقى منهم إلا جلد على عظام وألواح شبحية مرعبة. هؤلاء الذين يدخلون في النزع الأخير، ويشرفون على التلف الكياني في حشرجة الأنفاس، يحق لهم أن يتجاوزوا محنتهم بقرار شخصي حر يتيح لهم أن يستعيدوا صورة وجدانهم البهية وهيئة كيانهم المشرقة. بمقتضى القرار الحر هذا، يختمون جميع مساعيهم الوجودية، ويكللون مقاصدهم الإنسانية، من غير أن يمسوا حق الحياة الكريمة، كلما استطاعوا إلى ذلك سبيلاً. فالحياة هبة مقدسة لا يجوز احتقارها أو تهديدها أو الانتقاص من مداها الشرعي المعقود على الرجاء والحكمة والبصيرة. أما الموت، فأبلغ الاختبارات الكيانية وأعمقها وأعقدها وأعسرها على الإطلاق. ومن ثم، يليق بنا أن نتيح للإنسان أن يقول قولته الحكيمة فيه، فننزل على رأيه حتى يشعر بأنه قادر على المشاركة المستنيرة في تدبر جميع أبعاد الوجود.