بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، قال خبير استراتيجي في موسكو لمسؤول أميركي "أنتم في مشكلة كبيرة: خسرتم عدواً". ويروي مستشار الأمن القومي في إدارة الرئيس جيمي كارتر، البروفسور زبغنييف بريجنسكي في كتابه "رؤية استراتيجية: أميركا وأزمة القوة الكونية" أن مسؤولاً صينياً قال له "لا مفر من انحدار أميركا وصعود الصين، ولكن أرجوكم لا تدعوا أميركا تنحدر بسرعة". اليوم، في ظل الرئيس دونالد ترمب، صاحب شعار "لنجعل أميركا عظيمة ثانية"، تواجه أميركا تطورين كبيرين: أولهما صعود منافسين استراتيجيين تضعهما واشنطن في مرتبة "العدو" هما الصين وروسيا. وثانيهما تسارع الانحدار الأميركي. وما يزيد في خطورة التحديات الإستراتيجية أن أميركا تمارس نسخة جديدة. من الأحادية "الجاكسونية" على يد إدارة نرنسيسية "مضطربة وغير كفوءة". وهذا ما عبّر عنه مؤخراً سفيران في أميركا لدولتين حليفتين: كيم داروش سفير بريطانيا وفرنسوا ديلاتر سفير فرنسا.
السفير داروش، الذي كان من المقرر أن تستمر مهامه حتى نهاية العام الحالي، وجد نفسه مضطراً للاستقالة بعد تسرب مراسلاته الدبلوماسية مع وزارة الخارجية البريطانية، وما تكشف فيها من آراء صريحة وجريئة في إدارة ترمب. وهو ليس سفيراً عادياً. إذ كان مستشاراً للأمن القومي، وعلى صلة وثيقة بجهاز الأمن القومي الأميركي، بحيث لعب دوراً في تنسيق السياسات حول روسيا وإيران وبريكست. أقل ما جاء في مراسلاته هو أن سياسة ترمب حيال إيران "فوضوية وغير مترابطة"، وأنه خرج من الاتفاق النووي "نكايةً بأوباما"، وأن رئاسته "قد تتحطم وتحترق وتنتهي بوصمة عار". وهو لا يعتقد أن هذه الإدارة "ستصبح طبيعية أكثر، وأقل اختلالاً ومزاجية وطيشاً من الناحية الدبلوماسية". أما نصيحته إلى المسؤولين في لندن، فإنها "طرح أفكارهم ببساطة وفظاظة أحياناً" إذا أرادوا التعامل بفاعلية مع رئيس "يشع اضطراباً". وكالعادة، فإن ترمب الذي يمتدح ويهجو الشخص نفسه بحسب المصلحة، وصف السفير داروش بأنه "غبي ومدعٍ"، وهاجم رئيسة الوزراء تيريزا ماي، وهما أكثر منه خبرة وعلماً.
والسفير ديلاتر، الذي أنهى خمس سنوات كمندوب دائم لفرنسا في الأمم المتحدة، وقبلها خمس سنوات كسفير في واشنطن، تجنب الملاحظات الشخصية للتركيز على ما تعلمه من دروس خلال خدمته. ففي مقال نشرته "نيويورك تايمز"، قال ديلاتر إن التجربة علمته حقائق صعبة، وإن "العالم يصبح أكثر خطراً وأقل قابلية للتنبؤ به يومياً". ونحن اليوم في "لا نظام عالمي جديد"، حيث عاد التنافس بين القوى الكبرى ولم تعد تعمل ثلاث آليات للسلامة: لا قوة أميركية لضبط النظام الدولي، لا نظام مترابطاً للسيطرة الدولية، ولا مجموعة متناسقة قادرة على إعادة تأسيس أرض مشتركة. إذ كل أزمة مرشحة للخروج عن السيطرة. و"هذا ما رأيناه في سوريا وما نحاول تفاديه مع إيران وكوريا الشمالية وفي بحر الصين الجنوبي". وخيار أميركا "وجودي" في رأيه: هل تريد أن تصبح "مملكة وسطى" جديدة كقلعة معزولة بذهنية الجزر أم أن تستمر في الكلام مع العالم "والمساعدة في تشكيله"؟ والبارز أمامه ثلاثة اتجاهات أساسية في أميركا: ميل للحؤول دون تحالف إستراتيجي بين روسيا والصين، ثمن نظام ما بعد الحرب العالمية الثانية مضار أكبر من فوائده الإستراتيجية، واندفاع نحو الأفكار الشعبوية للرئيس أندرو جاكسون، وهي "مزيج عجيب من الأحادية والعزلة". وخلاصة ذلك أن "فك الارتباط" بالعالم بدأ قبل إدارة ترمب و"أعتقد أنه هنا ليبقى". لكن نصيحة ديلاتر هي أن مواجهة التحديات الكونية تحتاج إلى "التزام أميركي وأشكال عصرية من التعددية". إذ "لا أميركا تستطيع فعلها وحدها، ولا العالم يستطيع فعلها من دون أميركا".
وتلك هي المسألة. أميركا هي المشكلة. وأميركا هي الحل. وهذا ما يختصره قول شهير "مسكينة المكسيك كم هي بعيدة من الله كم هي قريبة من أميركا. مسكينة إيرلندا كم هي قريبة من الله كم هي بعيدة من أميركا". ففي أي أزمة في العالم دور لأميركا. وفي كل أزمة وحرب موفد أميركي خاص وموفد دولي خاص ضمن محاولات التسوية. حتى في ليبيا واليمن وسوريا والعراق، فإن الجامعة العربية متفرجة على ما يحاوله الموفدون الدوليون. ولولا انخراط أميركا في الحربين العالميتين لكان العالم اليوم تحت حكم النازية والفاشية. ولولا مشروع مارشال لما عرفت أوروبا نهضتها الحالية. لكن العالم قاسى الكثير من غطرسة القوة الأميركية. وفي أوساط عربية متعددة قول خلاصته إن أقرب طريق إلى الفشل هو إتباع النصائح الأميركية.
لكن اللعبة ثابتة مهما تبدل اللاعبون. كل طرف يريد إضعاف عدوه ولا أحد له مصلحة في خسارة عدوه. وإلا كيف يبقى تنظيم "داعش" قوة خطرة على الرغم من حملة الدول الكبرى والمتوسطة والصغرى على "الخلافة الداعشية"؟ وما الذي تفعله أميركا وروسيا والصين إذا انتهى نظام الملالي في إيران؟ وماذا تربح طهران من إخراج أميركا من الشرق الأوسط ما دام "العداء لأميركا من أسس الثورة"، وفق المرشد الأعلى علي خامنئي؟
أخطر ما في التحديات الحالية أن الأزمات تتعمق وتتوسع، والسلطات التي تعالجها تصبح أقل خبرة ونزاهة وأكثر سطحية. ألم يقل الشاعر قسطنطين كفافي "ماذا نفعل من دون البرابرة، إنهم نوع من الحل؟".