Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

نمطيا وذهنيا... كيف ينظر العراق إلى نفسه والعالم؟

تركت الحروب والانقلابات والاحتلالات أثراً كبيراً في ذاكرة وصورة المجتمع

منظر جوي لمدينة الموصل شمال العراق في 14 نوفمبر 2022 (أ ف ب)

قال لي متخصص عراقي في العلوم السلوكية إنه يتمنى ألا نكون الخبر الأول في نشرات الأنباء، دهشت كمشتغل في الإعلام منذ 40 سنة بحقبتيه القديمة المتمثلة بالإعلام التقليدي والحديثة عبر الـ"سوشيال ميديا" من دون انقطاع، لظني أن العالم مهتم بما يحدث في بلادنا، وتقدير قيمة ما يصدر عنه، لكنه أردف "أنت تعلم كمتخصص أن الإعلام يسير وفق مسلمة (الأنباء السيئة هي الأخبار الجيدة لمحطات البث الإعلامي)".

وأضاف "نحن لعقود خلت مصدر الأخبار السيئة والأحداث الكارثية، المتمثلة بالحروب والمعارك والانقلابات والإعدامات والقتلى والضحايا بالآلاف والسجون التي باتت مراكز عيش الملايين من البشر على مر العقود، ولا أنسى المهاجرين والمهجرين والمشردين والساكنين في مدن الصفيح".

ثم قال بأسى، صرنا كما قال شاعرنا السياب "يا بلاد المياه يا بلاد الظمأ"، فهناك وفرة في كل شيء، وشحة في كل مجال، غزارة في المياه لدينا، وكل أراضينا تصلح للزراعة ومراعينا كانت عامرة، لكن نحن في حالة عوز وشح دائم، وأرضنا تعاني زحف التصحر وشح المياه، حتى مياه الشرب، ومدننا تموت عطشاً.

قادتني هذه الصور إلى التساؤل، ما "الصورة النمطية" التي ترسخت في أذهان العالم عن العراق، الغني جداً وشعبه الفقير جداً؟ لماذا سنوات الجدب والعسرة الدائمة والشكوى المستمرة والرحيل الأبدي والهجرة في بلاد الشعر والحضارات والاجتهاد الفكري والمذاهب وتعدد الديانات والطوائف؟

صورة العراق النمطية

كان عليَّ أن أتوجه لمتخصصين من العراقيين ليقدموا شرحاً مسهباً عما حصل وترسب في أذهان الآخرين عن هذا الشعب المبتلى بالغنى الفاحش والفقر المدقع، والزاخر بفيض الماء وغزارة النفط وتدفق المعادن، كما تتدفق مياه الرافدين منذ الخليقة، فالعراق يسجل كونه ثاني أغنى بلد بالعالم في احتياطي النفط بعد السعودية، لكنه الأضعف اقتصادياً، والأفقر صناعياً، والأكثر عرضة لهزات أسعار النفط وتذبذباتها في ظل اقتصاد ريعي مهدد وإدارات فاسدة.

"الصورة النمطية" التي ترسخت حول العراقيين لم تأت من فراغ، فهي السائدة والمؤكدة لدى أبنائه، خصوصاً المثقفين، لأنهم يدركون بعدم توافق حاله مع إمكاناته، ولا ينسجم وتطلعات وتاريخ شعبه، الذي يقف على سبع حضارات عريقة، وبلد يفخر بأنه مبتكر العجلة والكتابة وتدوين القوانين.

وهو شعب حكمت عاصمته (بغداد) العالم خمسة قرون إبان الحقبة العباسية، وسقطت على يد المغول 1258 ميلادية، وتعاقب عليه الطغاة والولاة، وتقاتلت فيه الأكاسرة والقياصرة والروم.

ما الصورة النمطية السائدة اليوم على رغم حصيلة الشعب العراقي المدهشة، وهل يتمكن من الفكاك منها أو تغييرها؟

أستاذ الإعلام كاظم المقدادي، الذي درس في بغداد وتخرج في "السوربون" في باريس، يرى أن "هناك صراعاً حقيقياً بين صورتين عن العراق، النمطية والذهنية، وحصل بينهما جدل في الأوساط البحثية والعلمية وبين الفلاسفة والكتاب، حتى تم التفريق بينهما بشكل يجعل من الصورة النمطية حالة تتسم بالثبات والتحجر وحالات مستعصية وصعبة التحول".

وقال المقدادي "الصورة النمطية ترعرعت ونمت واستقرت بين تموج الأديان والعقائد والبهتان، تمسكت بتراثها القديم، فكانت الحروب، وصراع الكهنة في كل مكان، لذلك لا يمكن تغييرها بسهولة، وإن تغيرت فإنها بحاجة إلى وقت طويل وبذل جهود كبيرة ومريرة من قبل علماء الاجتماع والنفس وخبراء التراث الموصوف بجهله ونزواته ولعنته الأسطورية".

وأضاف أن "أي صورة تجري بحياتنا وتتشرب في لحظاتنا لا يمكن الخلاص منها إلا بقلعها، لأنها تحولت إلى حالة فعلية يومية ورغبة عابرة، ويساعد التخلص من الجهل المقدس والأساطير وثبات العقائد الدينية على وثوب وترسيخ الصورة النمطية، لهذا ذهبت العلوم والاكتشافات والفلسفات إلى تفعيل وإحياء الصورة الذهنية على مراحل تاريخية مهمة".

الحل في الثقافة

وأكد المقدادي "في ما يتعلق بأنماط سلوك المجتمع العراقي، فعلى رغم مدنيته، فهو يخضع للصورة النمطية السائدة، بسبب ثقل العادات والتقاليد وقوة الموروث الديني والشعبي الموغل بالقدم والتأصيل النمطي، لوجود مراقد الأئمة الأولياء والعلماء والصوفية، والمذاهب والطوائف التي احتفظت بطقوسها وعاداتها وتقاليدها بشكل متداول".

وأوضح "عندما أسست الدولة العراقية سنة 1921 لم يكن بمقدور الملك فيصل الأول، الذي توج ملكاً على البلاد بإرادة أجنبية، فعل الكثير سوى برامج الإعمار التي كانت تتمتع بمجلس فعال، لكنه لم يكن يمتلك أدوات تساعده على نقل العراق من حال إلى حال أفضل"، لقد وجد نفسه كما قال "وجدتني أمام مجموعات متنافرة غير متجانسة لا يجمعها رابط، سريعة التذمر، سريعة التغيير في مواقفها وانتماءاتها".

 

يضع المقدادي رؤيته للحل والخلاص من هذه الحالة بقوله "أظن أن الحل العملي يكمن بترسيخ الثقافة على حساب العوامل الأخرى، مثل العوامل الدينية والسياسية والعشائرية، وهذا الشرط الثقافي يبدأ في المراحل الدراسية الأولى والجامعات وبطرق وبرامج علمية مكثفة ومبتكرة وجديدة، المهم في هذا وذاك خلق بيئة فكرية ضامنة يقودها العلماء والمفكرون من أصحاب الرأي والتأثير والعقل السديد".

ويذهب أبعد في التصور عن الخلاص "عندما نتكلم عن بيئة ثقافية نافعة، بمعنى وجود حوافز ورغبات وحاجات لتقودنا في النهاية إلى حركة تنويرية حقيقية وتقود المجتمع، عمادها الابتكار والاكتشافات وقوامها النقاشات العلمية وتطوير المهارات والاهتمام بمؤشرات الجودة في المعاهد والكليات، فالمجتمع العراقي لا يمكن أن ينهض إلا بسيادة العلم والمعرفة ونبذ الجهل والتخلف في الحياة الاجتماعية، وخلق جيل من القادة من خريجي الجامعات المتخصصة في فن إدارة الدولة، فالدولة التي لا تجدد مسيرتها وتطور مناهجها لتكون منسجمة مع ما يجري من تحديث البنى التحتية والفوقية، ستكون عاجزة عن الالتحاق بركب العلم والمعرفة".

الحروب والاحتلال

الأكاديمي العراقي مؤيد الونداوي قال "من نتائج الحروب والغزو والانقسامات الطائفية والإصرار على المحاصصة، رسخت صورة نمطية عن المجتمع، لا سيما انتشار الجريمة، الذي أدى إلى شيوع العنف الذي هو من الصور التي بدأت تثير الانتباه بأشكال متعددة".

وأضاف الونداوي "لكن الصورة الأخرى اللافتة هي شراهة الاستحواذ على المال ونهب المال العام والابتزاز والرشوة والغش والمخادعة وشيوع التدليس في قضايا الحق وحقوق الآخرين أو تبرير الأفعال باستخدام الدين وفتاوى بعض رجاله، التي تستخدم في تبرير أشياء لم تعد تنسجم مع معطيات العصر والأخلاق المجتمعية، والتحضر وثقافة المجتمع الحقيقية".

وأشار إلى أنه "إضافة إلى انتشار الخداع والكذب وعدم قول الحق أضحت صورة نمطية أخرى مرفوضة وهي سيادة المناطقية والخوف الذي يجعل البعض يسألك مثلاً من أين أنت؟ ومن أي عمام؟ وهي الحالة السائدة اليوم بدافع رغبته في أن يعرف قبل أن يتكلم معك كمواطن من أي منطقة أنت كي يضع منطق كلامه مع بيئتك".

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

وأوضح "هذه الصورة بدأت تأخذ شكلها الواضح بموقف وسلوك المواطن، وهناك أنماط كثيرة في المجتمع سادت بعد عشرين سنة من الفوضى التي خلفها الاحتلال، بعضها كان موجوداً إلى حد ما قبل الاحتلال، لكنه ازداد وتكرس في المجتمع الحالي".

ويفسر الونداوي "هذا ناجم عن عدم الاستقرار والخوف من الحاضر أو من المستقبل، الذي يجعل المواطن العراقي يحاول أن يحمي نفسه بأساليب مختلفة، بما فيها هذه الأنماط المذكورة، ولا بد من الإشارة إلى الإعلام والسياسة التي سادت بعد 2003، والتي أنتجت هذه الأنماط السلوكية".

وأوضح أن "السياسة كسلوك، والإعلام الذي هو ليس إعلاماً حراً بشكل حقيقي، وليس إعلاماً موجهاً أيضاً، بل صناعة حاجات الأحزاب والجماعات السياسية، وقد يكون موجهاً خارجياً، كل تلك المعطيات فرضت واقعاً جديداً يساعد على استمرار تلك الأنماط السلوكية بأشكال مختلفة".

ولا يتوقع الونداوي من الإعلام الحالي السائد في العراق أن يعطي شيئاً لبناء الإنسان والمجتمع، بل موجه نحو ترسيخ العادات والقيم الأخلاقية القائمة على أسس المجتمع العراقي أو العربي أو الإسلامي الصحيح.

بين صورتين

لا بد من الإشارة إلى أن هناك خلطاً في فهم الصور التي تترسخ أو تتكرر لدى بعض الشعوب والجماعات وقد تتوزع منهجياً بين الانطباع الذي هو صورة شعورية سريعة عن حدث أو شخص غير معمقة، والصورة الذهنية، وهي ما يرسم بالذهن من تقييم لأشياء وصور وتفسير لحوادث وأشخاص وجماعات، حتى شعوب، وهو أعمق من الانطباع، وهناك الصورة النمطية التي تتميز بالانطباع، والتقييم المعمق الراسخ في العقل وليس من السهولة إزاحته.

عميد كلية الإعلام بجامعة بغداد السابق هاشم حسن التميمي يرى أن "صورة العراقيين النمطية منظور لها من الخارج، وبالتأكيد رسمت لها وسائل الإعلام ومعها مواقع التواصل الاجتماعي صورة مثيرة عن العراق وكأنه محافظة إيرانية، ويتسم باستمرار العنف وانتشار الفساد في كل مكان، والصراعات الطائفية والداخلية، وهذه صورة متناقضة مع الصورة الحضارية عن هذا البلد".

وفي شأن إسهام الاستقرار السياسي برسم صورة مغايرة عن المجتمع، قال التميمي "نعم يسهم الاستقرار السياسي والاقتصادي برسم صورة جديدة عن العراق، لكننا نحتاج إلى فعاليات متعددة وناجحة لتحويل الصورة السائدة عنا اليوم، مثل استضافة خليجي 25، وبالتأكيد هنالك برامج وخطط ثقافية وفكرية وتواصلية تستطيع أن تكرس صورة إيجابية، إذاً لا بد من الإصلاح والتغيير الحقيقي، الذي يحول الصراع داخلياً ثم خارجياً، بالمنافسة مع الآخر نحو عمل الخير، لكن هيمنة الجهلة على السلطات في العراق، وتأجيج الصراعات والفساد، تعرقل رسم الصورة الجديدة، التي تتطابق مع الماضي العريق وتمحو الصورة القاتمة لحكم الميليشيات والفساد".

الخرافة والدجل

لكن الأستاذ بالجامعة المستنصرية في بغداد ستار عبدالله يرى أن "الصورة النمطية وصمت الشعب العراقي بأنه اتكالي وينتظر من الآخرين القيام بمهامه نحو واجبات التغيير والإصلاح ونيل الحرية، وقد أثبت التاريخ أن من قاموا بذلك هم نسبة صغيرة من أبناء الشعب، فيما كان الآخرون يتفرجون وينتظرون المغانم".

وأضاف "من الصور الأخرى أن العراقيين شعب فوضوي، ويغذي هذا انتماؤه إلى الماضي أكثر من الحاضر، فتنشأ حالة من الاختلاف لا الائتلاف كانت وما زالت قائمة حتى اليوم، ويرتبط بهذه الحالة ميل طائفة كبيرة منه إلى الخرافة والدجل والانقياد إلى سلطة رجال الدين". وأشار إلى أن "الإعلام والسياسيين يحاولون تزويق هذه الصورة والقفز فوقها، بما ينسجم مع دوافع السلطة وتطلعاتها وأيديولوجيتها".

ويفسر عبدالله "أبرز مسوغات ذلك أن الشعب العراقي يتكون من أصول مختلفة لم تكن منسجمة ألواناً لتشكيل لوحة إنسانية مدهشة، وأن المجتمع عانى كثيراً الحروب والنزاعات والخضوع لموجات استعمارية غذت فيه روح الاختلاف والأنانية والانكسار، والميل والقبول لأدنى الحلول ضمن مستوى وهذا أضعف الإيمان".

بين رجل الدين والسلطة

الأستاذ بجامعة الكوفة كاظم مسلم العامري قال "تكرست صورة العراقي، سواء أكان رجل دين منتمياً للإسلام السياسي، أو رجل سلطة لصاً وسارقاً لا ثقة به، مما يعيد إلى الأذهان الصورة النمطية لعلي بابا والأربعين حرامي، وأن الأمر ميؤوس منه، إلا بظهور منقذ، والثقة تتركز في أذهان الناس بأن المنقذ هو الخارجي أو الأممي".

ويرى أن تغيير تلك الصورة يتحقق بثلاثة أمور، البحث عن أموال العراق، وما هي الطرق التي تتسرب من خلالها إلى دول الجوار، ومن كان في موقع المسؤولية، وتكدست بخزائنه الأموال، والبحث عن المغيبين ومن غيبهم، وإنصاف ضحايا العدالة الذين أدخلوا السجون من دون وجه حق، أو بتهم كيدية.

 

يدعو العامري إلى إعادة النظر بآثار القوانين التي صدرت إبان الاحتلال (2003-2011)، للحيلولة من دون تكريس الصورة السائدة اليوم في العراق، بقوله "القوانين التي صدرت من سلطة الاحتلال كانت سبباً في تفشي الرشوة والفساد وبروز ظاهرة الابتزاز وشيوع الفساد، فضلاً عن دخول مزاد بيع العملة ومزاد بيع الوزارات والمناصب الحكومية في النظام الجديد، لتجعله نظاماً هشاً لا يقدم للمواطن أية خدمة عامة، بل يخدم الطبقة السياسية الحاكمة على حساب حقوق المواطنة، إضافة إلى إعادة إقصاء الكفاءات بالاجتثاث وقانون المساءلة".

وأكد دور الإعلام السلبي في تكريس صورة الواقع الجديد بقوله "يؤشر الإعلام السائد في العراق حالياً لاتجاهات ثلاثة: الأول مساند للسلطة والفساد والولاء لدول وقوى خارجية، والثاني الوسطي الذي لا يضر ولا ينفع، بينما الثالث هو الإعلام المواجه الذي يفضح الفساد ويوضح كل ما يتعلق بفساد السلطة ومعظمه يبث من خارج العراق، لكن المواطن ينتظر أن يسهم الإعلام بتشكيل رأي عام دولي وعربي وداخلي وطني يغير من أوضاع البلاد ومن الصورة النمطية للدولة الفاشلة، دولة الطوائف والأحزاب الإسلاموية التي تغذي الفساد والإرهاب، ويسندها السلاح المنفلت إلى دولة المواطنة وتطبيق العدالة ورفع شعار المساواة بين المواطنين".

لم يكن ذنب الجمهور

لكن الكاتبة والإعلامية سارة الصراف تقول "عندما تذكر اسم العراق قد يخطر على بال المتلقي جملة من الأفكار والانطباعات، منها الفوضى وغياب القانون والحضارة التي لم تواكب العصر فضاعت معالمها، والطائفية والانقسام السياسي، لكن في الوقت ذاته صورة البلد المنعم بالثروات حاضرة، وأجزم بأننا لا نستطيع تحميل العراقيين المسؤولية عن وجود هذه الانطباعات، عربياً وعالمياً، لأن الإنسان العراقي لم يكن حاضر الإرادة بحكم كل الظروف التي وقعت، والتي كان هو ضحيتها بامتياز، فكيف نحاسب الضحية عن انطباعات الآخرين؟".

وأضافت الصراف أن "هذه هي النتيجة الطبيعية لعقود من التراجع وإهمال الاستثمار في تطوير الإنسان العراقي، بل استنزاف طاقاته بالبحث عن مقومات الحياة الطبيعية والحقوق الأساسية، كالأمان والحياة الآمنة، من ناحية الرعاية الصحية وضمان العمل والدخل المقبول".

وعن الحل الأمثل ترى الصراف أنه "يكمن في التركيز على التشجيع باتجاه الانتماء والهوية الوطنية الواحدة، والتوعية الكاملة بالوحدة وعدم التفرقة، وحب العراق كي نرفع الإحساس بالمسؤولية الجماعية تجاه صورة الوطن في الخارج".

وأشارت إلى "ضرورة التوعية المنظمة والمكثفة، لأن ما يحدث حالياً العكس تماماً، حيث يواجه الفرد العراقي حملات منظمة لتجهيله، وتغييب المنطق لديه وإشغاله بأمور تعود به إلى الوراء بدلاً من التركيز على تطويره إنسانياً وأكاديمياً ونفسياً".

تناقض خصال المجتمع

بدوره، قال أستاذ الإعلام كامل خورشيد، وهو عراقي يعمل في الجامعة الأردنية، إن "صورة العراقيين تبدو متناقضة، فهم من جهة صامدون بوجه الظروف، يكافحون ويصنعون الحياة ويعبرون المآسي ويتحدون الصعاب، ومن جهة أخرى متعبون محبطون غير مكترثين بما حل ببلدهم من احتلال وفساد، لا يهمهم سوى البحث عن المنفعة".

وأضاف "لكنهم من جهة ثالثة شعب مضياف كريم (عين غطا وعين فراش)، وأذكياء لا تنطلي عليهم حيل وخدع السياسيين، متطرفون في الحب والموالاة والكره والخصام، للأسف جنحوا للطائفية بعد الاحتلال وبعد تفكك أجهزة الدولة، ونمت العشائرية بدلاً من دولة القانون والمدنية".

أما الكاتب والشاعر فيصل جاسم فيعزو كل ما حدث في المجتمع العراقي إلى العامل السياسي، الذي تراكمت آثاره عليه بين نظامين، برأسين مختلفين في الإدارة والتوجه.

وقال جاسم إن "الصورة النمطية التي تكرست عند العراقيين تتمثل في غياب كامل لمشروعية بناء الإنسان على أساس وطني، لا على أساس قومي أو مذهبي، فضلاً عن أن الشباب الذين هم قوام التغيير قد أكلته الحروب وسنوات الحرمان والبحث عن وظائف في الدولة التي لم يعد باستطاعتها استيعابهم ومساعدتهم على تحقيق احتياجاتهم في سكن لائق".

وأشار إلى "العشوائيات السكنية التي انتشرت بشكل مريب، حيث شاعت المخدرات وكثرت الحساسيات بين أفراد الشعب، ولم يتمكن الإعلام على رغم أنه قوة عظمى في تشكيل الرأي العام، أن يحقق الصورة الواضحة والجلية لتخطي مراحل متلاحقة من الخوف والحرمان وتجاوز مرحلة النمو الداعشي، بمناطق معينة من البلاد، والقضاء عليه قضاءً نهائياً، والخروج من عنق الزجاجة، إلى فضاء مفتوح".

مطلوب إدارة وطنية

وأوضح أن "العراقي ما زال يبحث عن احترام أكبر لجواز سفره، وعن كينونة نقية متعالية بين أقرانه من شعوب الأرض، وعن رفاهية يستحقها تؤسس له وجوداً مقروناً بالسعادة والمستقبل له وللأجيال اللاحقة".

ويرى جاسم أن السؤال الأهم هو هل يمكن أن يتحقق ذلك؟ وأجاب "نعم إذا ما توافرت جهات رشيدة لقيادة دفة السفينة التي ظلت تتأرجح بين أمواج عالية وعاتية".

أمام هذا الكم الهائل من الصفات، التي تبدو متناقضة، لا يتمكن أي باحث من رسم صورة دقيقة للمجتمع العراقي، فهو يولد من بين الرماد ليخرج من جديد، كما خرج من أكثر من 20 احتلالاً سابقاً ليعيد بناء مدنه وكأنه مصاب برحلة الخلود، التي ذهب إليها جلجامش في الألف الرابع قبل الميلاد، للبحث عن سر الخلود في مزارع الأرز وليقتل خمبابا سارق عشبة الخلود، وراح صديقه إنكيدو إلى دار البقاء، كما في الأسطورة السومرية التي ترجمها طه باقر عن أول رواية في التاريخ.

اقرأ المزيد

المزيد من تحقيقات ومطولات