Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

عن أولئك الذين يغادرون بريطانيا بحثا عن حياة جديدة: 'كل شيء يبدو قاتما جدا'

بدءاً من "بريكست" ووصولاً إلى الأزمة المعيشية واليأس من السياسيين، تلك بضعة أسباب لانتقال كثيرين بعيداً من المملكة المتحدة أو تفكيرهم في المغادرة

نظراً لما تواجهه المملكة المتحدة من تحديات عديدة، يقرر البعض أن الوقت قد حان للمغادرة (غيتي)

في يوليو (تموز) من هذا العام غادرت إليانور شامبر المملكة المتحدة أخيراً، خطوةٌ كانت تدرسها منذ فترة طويلة، لكن مع نهاية العام 2021 شعرت عائلتها بأنها قد بلغت مرحلة حاسمة ومهمة.

وتقول "أذكر ثمانينيات القرن الماضي جيداً حين كنت طفلة، بدا الوضع عندئذ شبيهاً إلى حد كبير بالآن، فكل شيء يبدو قاتماً جداً".

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

في بداية السنة فاتحت شامبر، التي عملت سابقاً في التدريس في الجامعة، زوجها بعدم قدرتها على تحمل بداية فصل دراسي جديد في سبتمبر (أيلول) في المملكة المتحدة، وبدأت تبحث عن وظائف شاغرة ملائمة لها في الخارج، "إضافة إلى ارتفاع الغلاء المعيشي والتردي المستمر لعملي في التعليم العالي كان كلانا يعمل ساعات طويلة جداً من دون مقابل يذكر من ناحية الحياة العائلية".   

عادت شامبر إلى مهنتها السابقة في الاتصالات ووجدت وظيفة في غراتس بالنمسا، حيث تعمل لمصلحة شركة أبحاث.

ولم يخل الانتقال من التحديات، فلا تزال ابنتها الصغرى تحاول التأقلم في مدرستها الجديدة وتعاني مشقة تعلم اللغة الألمانية بسرعة، كما أن الوالدان والطفلان يشتاقون إلى أصدقائهم وعائلتهم في المملكة المتحدة، لكن شامبر تقول إن نوعية حياتهم قد اختلفت بين ليلة وضحاها، فيما كان الوالدان مضطران قبلاً إلى العمل ساعات طويلة جداً بهدف تلبية حاجاتهم الأساس، وتعمل شامبر في الوقت الحالي وحدها فيما زوجها قادر على التفرغ للعناية بالأولاد.

وتقول، "صحيح أن إيراداتنا المالية أقل بعض الشيء ولا نزال نحاول الحصول على الإعانة العائلية في النمسا، لكن الفارق هو أنني أعمل وحدي وأستطيع إعالة عائلتي، بحيث يوجد أحد الوالدين دائماً مع الأطفال ولا تترتب علينا كلف باهظة لقاء رعاية الأطفال بعد اليوم، والآن يمكنني أن أقصد عملي سيراً على الأقدام، ويبعد مكان عملي 15 دقيقة عن شقتي وأنا أسكن في وسط المدينة". 

"ليس في السياسة البريطانية أية جدية فأهم الشخصيات السياسية تبدو كأنها خارجة من استعراض هزلي، والمشهد السياسي تعيس والبنية التحتية ضعيفة وكل شيء غير فعال"

 

وعند سؤالها عن شكل الحياة في النمسا أجابت، "كل شيء يعمل هنا بطريقة كانت قد سُلبت من الحياة في المملكة المتحدة". 

يتكرر هذا الوصف على ألسنة أشخاص كثيرين اختاروا أن يتخذوا هذه الخطوة الكبيرة ويغادروا بريطانيا، وفيما تختلف الدوافع الشخصية، بين السياسية (بريكست) والخاصة (إمكان الاستفادة من الرعاية الصحية أو التعليم)، تجتمع كلها حول نقطة واحدة، تتحول المملكة المتحدة إلى مكان غير مريح للعيش، ولا وجود لأي مؤشر إلى أن الأمور تتجه نحو التحسن، وبالنسبة إلى العائلات بشكل خاص تبدو الحياة أفضل في مناطق أخرى، فالعشب حقاً أكثر اخضراراً هناك. 

وينطبق هذا بالتأكيد على تجربة فيرجينيا نيوتن لويس التي تعمل في المنظمات الخيرية، وقد انتقلت إلى السويد عام 2019 عندما عرض عليها صاحب العمل فرصة الانتقال، ووصفت قرارها المغادرة بـ "ترجيح كفة الميزان الأفضل".

وتقول فيرجينيا، "من ناحية كان عدم الرضا يزداد في جوانب حياتية كثيرة، فلقد كنت أدفع أكثر من قيمة الرهن العقاري تقريباً لقاء رعاية الأطفال، ولم يكن بمقدورنا تحمل كلفة الانتقال للعيش في لندن [حيث أعمل]، فقد كنا نسكن في سايرنسستر [تبعد عن لندن حوالى 150 كيلومتراً] ولأن قيمة تذاكر القطار الموسمية بلغت رقماً مثيراً للسخرية مثل 10 آلاف جنيه استرليني سنوياً، وكنت أبذل كثيراً من الجهد لكي أحصل على تذاكر مسبقاً، ثم جاء "بريكست" والوعي المتزايد بتبعاته، وعندما جمعنا كل هذه العوامل قررنا انتهاز الفرصة السانحة".     

نقلت نيوتن لويس عائلتها عندما كانوا لا يزالون يتمتعون بحقوق المواطنين الأوروبيين، ومن بينها حرية التنقل إذ أضافت، "نشعر بأننا استقلينا آخر قارب مغادر"، لكن هذا لا يعني بأن الانتقال كان سهلاً.

"إن كان الطبيب غير قادر على تأمين حياة مريحة له فما الذي يحدث بحق السماء إذاً"

 

في البداية واجه زوجها صعوبات في العثور على وظيفة لأنه لم يتحدث اللغة السويدية، ثم بعد أشهر قليلة من وصولهم انتشر "كوفيد-19" وأجّل محاولاتهم الاندماج داخل مجتمعهم الجديد.

وبعد مرور ثلاثة أعوام وبلوغ طفليهما عمر السادسة والرابعة، لا يندم الثنائي على قرارهما مغادرة المملكة المتحدة، "إنه مكان مذهل للسكن مع أطفال صغار في السن، ونوعية الحياة بالنسبة إلى الوالدين رائعة، كما أن البنية التحتية جيدة. صحيح أننا ندفع ضرائب أعلى لكنني لا أشعر بالسوء لدفع أي بنس منها لأنني أعتقد بأن ما اكتسبناه أكثر بكثير".

 

ما هو حكمهما النهائي؟ لا يزالون في الوضع المالي نفسه الذي كانوا عليه في المملكة المتحدة على الأرجح لكنهم يشعرون بضغط أقل بكثير، ولهذا الجانب قيمته كذلك.  

ليست هذه العائلات وحيدة، وقد وجدت دراسة أجراها موقع "توتال جوبز" Total Jobs في وقت سابق من هذا العام أن 4.5 مليون باحث عن عمل عبروا عن رغبتهم في مغادرة المملكة المتحدة، وقد أفاد "غوغل" أخيراً بأن عمليات البحث الإلكتروني في المملكة المتحدة عن "الانتقال إلى الخارج" بلغت مستويات قياسية.

ووفقاً لبيانات "مكتب الإحصاءات الوطنية" Office for National Statistics فقد بلغ عدد الأشخاص الذين هاجروا من المملكة المتحدة لأجل طويل خلال عام حتى يونيو (حزيران) 2022 نحو 560 ألفاً، وكان من بين هؤلاء مواطنون أوروبيون دفعتهم صفقة "بريكست" القاسية إلى الرحيل، إضافةً إلى عدد متزايد من المواطنين البريطانيين.

وتبين الإحصاءات أيضاً بأن الهجرة بلغت ذروتها عام 2005 حين كان الاقتصاد مزدهراً والفرص العالمية كثيرة، ثم انخفضت إلى مستويات تاريخية خلال العام 2020 بسبب القيود على الحركة، لكنها عاودت الارتفاع الشديد مجدداً.

وفي العام 2013 ذكرت دراسة للأشخاص المغادرين المملكة المتحدة أجراها جون جيريم من كلية لندن الجامعية أن العمل هو السبب الرئيس لرحيلهم عن البلاد، لكن الإجابات التي حصلت عليها الآن تشير إلى وجود مشكلات في المناخ السياسي والاقتصادي الأوسع، وليس بسبب فرص العمل بشكل مباشر.

 

 

 

وطلبت من مستخدمي "تويتر" الذين انتقلوا للعيش في الخارج أو الذين يدرسون هذا الخيار الآن أن يشرحوا سبب ذلك، وهذه لمحة عن تلك الإجابات.   

يقول أحدهم "غادرت في يوليو (تموز) للعمل في هولندا، ومع أن معدل التضخم أعلى وكلفة الحياة باهظة في هذا المكان الذي يواجه مشكلاته الخاصة مثل نقص المساكن، يبدو أنهم منطقيون وحكيمون في ما يتعلق بالتحديات الاجتماعية الأكبر مثل المدارس".

ويذكر آخر، "رحلت بسبب كوفيد وتجربتي تنحصر في لندن إجمالاً، لكن الذي لاحظته هو الاتجاه نحو الابتعاد من قيم القارة الأوروبية واعتماد المعايير الأميركية، وتكمن المشكلات الرئيسة في كمية عمليات الخصخصة (غير المجدية) وقلة المساحات العامة وازدياد انعدام المساواة الشديد وبلوغ المستويات المعيشية حداً لا يمكن تحمل كلفته".

ثم يضيف ثالث، "أصبحت احتمالات الحصول على حياة رغيدة على المدى البعيد ضئيلة ولذلك رحلت، وأنا أسعد بأشواط فقد تعبت جداً من قلة احتمالات تغيير مسار الأمور في المستقبل، وليس في السياسة البريطانية أية جدية فأهم الشخصيات السياسية تبدو كأنها خارجة من استعراض هزلي، والمشهد السياسي تعيس والبنية التحتية ضعيفة وكل شيء غير فعال".

وكانت المكانة الاقتصادية والاجتماعية لأصحاب هذه الردود هي القاسم المشترك بينهم، فمعظمهم من أصحاب الخبرات الذين يملكون إمكانات مالية تسمح لهم بإحداث تغيير أساس كهذا في شكل حياتهم حتى وسط أزمة غلاء معيشي، لكن على رغم أفضليتهم المالية النسبية كانوا يعانون من أجل تحمل كلفة السكن الملائم، ومن أجل دفع نفقات رعاية جيدة للأطفال وتمويل حياة مريحة.

 

وهذا يشير إلى هجرة متزايدة للأدمغة من مهنيين وعمال مهرة، قد تخلف تبعات على المدى البعيد على المملكة المتحدة. 

وحللت البروفيسورة ميكايلا بنسون التي تدرس مادة علم الاجتماع العام في "جامعة لانكستر" أنماط هجرة المواطنين البريطانيين منذ خمسينيات القرن الماضي، إذ تلفت إلى أن الاغتراب ليس نمطاً جديداً بالنسبة إلى الشعب البريطاني بل يشكل في الحقيقة جزءاً من تاريخنا، فكروا في دور الهجرة في تعزيز مكانة الإمبراطورية البريطانية، ولذلك فليس من المستغرب أن يعيد هذا كثيراً من الناس الآن للتفكير في مستقبلهم، وتشرح فكرتها فتقول "بسبب طبيعة الإمبراطورية البريطانية وطريقة توزيع العمل حولها، وبسبب الجيش كذلك اختبر عدد كبير من الأشخاص تجربة العيش في منطقة أخرى من العالم أو لديهم فرد من العائلة المباشرة (في الخارج)، وأعتقد بأن هذا الأمر غير مألوف في المنظور العام للأمور".  

وتضيف بنسون أنه خلال الـ 70 عاماً الماضية ظل مستوى الهجرة من المملكة المتحدة على الحال نفسه نسبياً، لكن الذي تغير الآن هو ازدياد نسبة الاستنزاف في الوظائف التي تتطلب مهارات عالية مثل قطاع الرعاية الصحية، إذ يغادر الأطباء هيئة الخدمات الصحية الوطنية بسبب شعورهم بأنهم عاجزون عن تأسيس حياة مريحة لهم في المملكة المتحدة. 

وتشرح بنسون، "إن ظروفنا الحالية والاضطراب السياسي والاقتصادي الذي نعيشه يسهلان على الأشخاص الذين كانوا مترددين في السابق أن يقولوا 'ماذا نخسر إن غادرنا'؟.

هذه خلاصة هذا الوضع، إذ علينا أن نتعامل مع هذه الهواجس بجدية، ووصلنا إلى مرحلة حاسمة تتعلق بالوضع السياسي في هذا البلد وتبعاته الاقتصادية.

لا أعتقد بأن رحيل الأفراد هو المشكلة لكنه مؤشر عليها، وإن كان الطبيب غير قادر على تأمين حياة مريحة له فما الذي يحدث بحق السماء إذاً"؟

 

جوليان همفري، استشاري حالات الطوارئ الطبية الذي شارك في الأجزاء الأربعة الأولى من مسلسل كاجولتي 24/7 "إصابات على مدار الساعة"  Casualty 24/7 على القناة الخامسة، هو أحد الذين غادروا هيئة الخدمات الصحية الوطنية والمملكة المتحدة، ويعمل همفري حالياً طبيباً في قسم الطوارئ داخل مستشفى ريفي في غرب أستراليا، ويشعر بأنه يحصل الآن على مكافآت مالية واجتماعية أفضل لقاء عمله، وهو قادر على تأمين راتب أعلى مقابل ثلاثة أيام من العمل، ومن ذلك الذي كان يجنيه في العمل بدوام كامل في بريطانيا، كما يتحدث عن وجود تحد في العمل للمرة الأولى منذ سنوات، وهو أمر يعتبره هبة مع بلوغه عامه الـ 60 ودخوله سنواته الأخيرة في العمل بدوام كامل.  

ويقول، "كنت متفانياً لهيئة الخدمات الصحية الوطنية وكونت كثيراً من الصداقات والزمالات الرائعة، وكانت سمعتي طيبة ثم كان عليّ أن أفكر في ما سأفعله عندما أبلغ سن الـ 60، ولم أشعر بأنني على استعداد للتقاعد فعلاً"، ثم ظهرت فرصة العمل في أستراليا وقبل بها عازماً أن تكون إجازة ربما لمدة عام، نظراً إلى أن أولاده غادروا المنزل ولديه كامل الحرية لتجربة شيء جديد، لكن عندما حان وقت التفكير في العودة للمملكة المتحدة وهيئة الخدمات الصحية الوطنية لم تناسبه الأرقام.     

ويتكلم عن إدماج نفسه داخل نظام الرعاية الصحية الأسترالي واصفاً إياه بـ "الصدمة الثقافية الضخمة"، لكنها الصدمة التي تترافق مع الإيجابيات، ويقول "إن الموارد أفضل بكثير وتشعر بالتقدير والتوازن بين الحياة العملية والخاصة أفضل، وتشعر بضغط أقل في مكان العمل إذ يتصرف المرضى باحترام لأن التدريب ممتاز، ولا شك في أنه مكثف أكثر كما أن مكانتك في قسمك في المستشفى أعلى بكثير".  

ينوي همفري الآن قضاء ما تبقى من مسيرته المهنية على الأقل في أستراليا، ويدرس مع زوجته خيار الانتقال نهائياً إلى هناك، فيما يفكر أحد أولادهما في الالتحاق بهما.

من جهتها، تقول نعومي سميث، كبيرة المسؤولين في منظمة بيست فور بريتن (Best for Britain)، التي تأسست بعد التصويت على انفصال المملكة المتحدة عن الاتحاد الأوروبي وترمي الآن إلى "الحفاظ على تعاملات المملكة المتحدة مع العالم"، إنها سمعت مثل هذه القصص مراراً وتكراراً.

وتشرح سميث، "كنا نعاني أزمة مهارات قبل هذه الفترة، فأزمة المهارات البريطانية موثقة منذ زمن بعيد وقد خذلتها الحكومات المتتابعة، وللصراحة المؤسسات، وقبل أن يحدث كل هذا وقبل أن يشعر مواطنو الاتحاد الأوروبي بأنهم منبوذون وقبل مغادرة الأشخاص الذين لم تسوء أوضاعهم، كنا نعاني نقصاً في المهن في قطاعات عدة، وإن أضفنا إلى ما تقدم إساءة التعامل مع الجائحة وإصابة 2.3 مليون شخص بـ ’كوفيد‘ طويل الأمد يصبح لدينا معضلة حقيقية، وهذا ينذر بوقوع مشكلات كبيرة في مستقبل الاقتصاد البريطاني، وعندما لا تسمح بدخول المهاجرين ذوي المهارات إلى البلاد ولا تعالج مشكلة شيخوخة السكان وتصعّب كثيراً على الأفراد أن يأخذوا استراحة من العمل لإنجاب الأطفال، فهذا تصرف كارثي".

وتقول سميث إنه من المهم عدم التقليل من أهمية الدور الذي لعبه قرار مغادرة الاتحاد الأوروبي في دفع كثيرين إلى اتخاذ قرار الرحيل وليس فقط مواطني الاتحاد الأوروبي الذين خسروا حرية العمل والعيش في بريطانيا، وتقول إنه عند الإعلان عن النتائج للمرة الأولى اعتبر معظم مؤيدي البقاء في الاتحاد كما أنصار الأممية أن تقسيم النتائج إلى 52/48 يعني بأن "اتفاق بريكست" الذي سيبرم تالياً لا بد من أن يكون مرناً لكي يعكس مواقف الناخبين، ثم تضيف "إنما طبعاً ليس هذا ما حصلنا عليه. انتهى بنا المطاف في وضعٍ ما عدنا ندعى فيه إلى طاولة الكبار، وعندما استضفنا مؤتمر المناخ ’كوب-26‘ في غلاسكو اضطر جونسون إلى أن يقف أمام الكاميرات وينفي أن بريطانيا بلد يعمه الفساد، بعد طرح هذ السؤال عليه. كم تقهقرنا". 

إن خسارة هذا الاحترام والتأثير البريطاني بعد "بريكست" هو من بين الأسباب التي دفعت بيكي سلاك، مؤسسة ومديرة "شركة سلاك كوميونيكايشنز للتسويق والاتصالات" إلى اتخاذ قرار عدم العودة للمملكة المتحدة مع أنه المكان الذي سجلت فيه مؤسستها، وبعد فترة عمل في فرنسا ولاحقاً بروكسيل، تسكن وتعمل الآن في غنت Ghent.

وتقول، "أشعر بأنني سُلبت كثيراً من حقوقي وهذا أزعجني للغاية، ولا أزال أشعر بغضب عارم من الموضوع، وقد تأثرت حياتي بشكل كبير فخسرت 100 ألف جنيه بسبب الخسارة في العمل والنفقات الإضافية، كما عانيت ضغوطاً نفسية كبيرة بسبب عدم اليقين بما سيحدث تالياً، وأكره طريقة إدارة النظام السياسي البريطاني في الوقت الحالي إذ تبدو مثيرة للشقاق والاستقطاب. بدأ كل شيء مع "بريكست"، وبعد أن عشت في ظل نظامين أوروبيين لم أشعر بأن الوضع فيهما بهذا السوء، لا أريد أن أعود للعيش في بلد فيه هذا الكم من الانقسامات".

وتضيف بيكي، "صحيح أن الضرائب أعلى في فرنسا وبلجيكا وعليك أن تسهم في الرعاية الصحية، لكن في المحصلة تعتبر الخدمات جيدة جداً هناك، ومنذ أسابيع عدة أصيب صديقي الحميم برد فعل تحسسي وقصدنا الطوارئ ليلة جمعة، وقابلنا اختصاصياً فوراً من دون انتظار ولا جلوس في الأروقة". 

 

شكل "بريكست" مصدر لهو من خلال الطريقة التي هيمنت فيها على النقاشات والعمليات السياسية لمدة 10 سنوات تقريباً، مما منع حصول تقدم في قضايا اجتماعية أخرى تثقل كاهل المملكة المتحدة، بما فيها الرعاية الصحية والرعاية الاجتماعية، ولدى الموظفة الحكومية كلير ابناً لا يتكلم كما أنه من ذوي الحاجات التعليمية الشديدة، لكن بسبب الجائحة لم يتسن له زيارة طبيب أطفال سوى مرة واحدة فقط، ولم يحجز له مكان بعد في مدرسة لذوي الاحتياجات الخاصة، كما دفعت العائلة 5 آلاف جنيه لقاء الفحص الجيني من أجل تشخيص حالته بصورة شخصية، وهي حالة يحتمل أن تنقلها إلى أي أطفال آخرين في المستقبل.

قدمت طلباً للحصول على تقييم لحالته وحجز مكان له في مدرسة ملائمة له قرب منزلها، لكنها تشعر بأنها مضطرة إلى مغادرة المملكة المتحدة في حال لم يتحقق ذلك.  

وعن هذا تقول كلير، "سوف يفاجئني كثيراً إن لم يقولوا لنا أن عليه ارتياد مدرسة متخصصة، لكنني راسلت هذه المدارس بالفعل وكثير منها ليس فيه أي أماكن شاغرة لسبتمبر (أيلول) 2023، حتى إن إحداها قالت إنه لا شواغر فيها قبل العام 2025، وفي حال لم يتأمن لنا مكان فسوف يخصص له مكان في مدرسة عادية مع دعم شخصي مباشر، لكن لا يتمتع كل المساعدين بخلفية في مجال التعليم، وفي الواقع فليس من الضروري للإنسان أن يكون لديه أية مؤهلات لكي يعمل مساعداً تعليمياً، فهذا هو تعليمهم كاملاً عندما يكونون أطفالاً بحاجة إلى مستوى عال من الدعم المتخصص". 

تخشى كلير أن يرغم طفلها إن ارتاد مدرسة عادية في المملكة المتحدة على الخروج باكراً معظم الأيام بسبب تشويشه على الآخرين، إذ تقول "يبلغ ابني من العمر أربع سنوات لكن قدراته الإدراكية لا تتخطى قدرات طفل في الشهر الـ 10 من عمره، ولو ارتاد مدرسة عادية فسوف أتلقى ذلك الاتصال يومياً لأنه سيستاء كثيراً في ذلك المحيط".

وتتابع، "اضطررنا إلى دفع كلف كل الدعم الذي تلقيناه، وبما أن زوجي يعمل في شركة أميركية فهناك احتمال بأن تسنح لنا فرصة الانتقال إلى مكتب الولايات المتحدة، وعندها سنتمكن من إرسال ابننا إلى مدرسة خاصة للأطفال ذوي الاحتياجات الخاصة، فيما لا نملك هذا الخيار في المملكة المتحدة، ونحن ندرس هذا الخيار ولو اقتضى الأمر فنحن على استعداد لاتخاذ هذه الخطوة".

 

لكن بعضهم ممن قاموا بهذه الخطوة أنفسهم أو انتقلوا إلى المملكة المتحدة بحثاً عن حياة أفضل لهم يطلقون تحذيراً. 

انتقلت الصحافية الإيرلندية جنيفر ماك شاين إلى لندن قادمة من دبلن بسبب ارتفاع كلف المعيشة في إيرلندا لشخص يعاني إعاقة، وهي تحذر من يفكرون بالمغادرة بالتفكير ملياً في الأمر.

وتقول "لدى المملكة المتحدة مشكلاتها وهي كثيرة، لكن في دبلن وبسبب أزمة الإيجارات ما عدت قادرة على إيجاد أماكن شاغرة للإيجار، فيما أي شيء متوفر يكلف بين 2500 و3 آلاف يورو (2180 إلى 2600 جنيه) شهرياً على أقل تقدير.

إن كلفة الإيجار في دبلن أعلى من لندن، كما أن نظام النقل العام لدينا تعيس ولذلك اعتمدت على سيارات الأجرة لكي أتنقل، لا سيما لأنني أعاني إعاقة وليس لدينا هيئة خدمات صحية وطنية، وبالتالي فإن كل شيء مُكلف بما فيها زيارة الطبيب العام أو الحصول على وصفات طبية أو خدمات طبيب الأسنان".  

"انتقلت (إلى لندن) بسبب توفر وظائف أكثر وبسبب سهولة التنقل، فالباصات هنا مذهلة وأصبحت قادرة على تأجير مكان لي وحدي، وهذا حلم في موطني، كما أن معاملة هيئة الخدمات الصحية الوطنية رائعة ويمكنني أن أعيش باستقلالية كاملة هنا بطريقة يمكنني تدبرها مع أنها مكلفة".

لكن هذه الأسباب لن تكفي لتغيير رأي من اقتنعوا بطريقة الحياة في الخارج، فقد هاجرت الدكتورة الأكاديمية ليزا شيبر من المملكة المتحدة تجاه النمسا عام 2021، وكانت موظفة في جامعة أكسفورد لكنها لم ترتح للفرص المستقبلية المتوافرة لعائلتها في المملكة المتحدة، وتقول "شعرت بأن المستقبل قاتم جداً في مجال تمويل الأبحاث ونوعية التعليم الذي سيحصل عليه طفلي والرعاية الصحية، حتى إنني أُرهقت من قيادة الدراجة الهوائية على طرقات وعرة".  

ونظراً إلى أنها أوروبية ولأن طفلها يحمل الجنسيتين السويدية والألمانية، خشيت أن يصبح المنهج المدرسي ضيقاً أكثر ومركزاً على الداخل نتيجة لـ "بريكست"، ويفتقر بالتالي إلى المنظور العالمي والأوروبي الذي شعرت بأن طفلها يستحقه، كما لعبت حال هيئة الخدمات الصحية الوطنية دوراً في قرارها كذلك، بما أنها تحتاج مواعيد دورية.   

لكن تأقلمها مع الانتقال لم يخل من المنغصات، وتقول شيبر إنها افتقدت المملكة المتحدة ولا سيما إلى الطعام ومجموعة الخيارات المتاحة للنباتيين، لكنها تشعر بأن حياتها كمواطنة أوروبية توفر لها ولعائلتها استقراراً أكثر بكثير. 

وتضيف، "سأقول إنه من حيث الفرص المستقبلية فالوضع مريح أكثر بكثير هنا، وهو مريح لنا نحن الذين نتمتع بامتياز الانتقال طبعاً، وهذا خيار متاح لقلة من الناس".

© The Independent

المزيد من تحقيقات ومطولات