في مثل هذه الأيام تماماً قبل مئة سنة، أي عند نهايات عام 1922، ظهرت للمرة الأولى واحدة من أجمل القصائد المكتوبة بالفرنسية خلال تلك الحقبة التي كان كثر من النقاد ينعون فيها الشعر، قصيدة "المقبرة البحرية" للشاعر بول فاليري التي كان الشاعر قد كتبها قبل ذلك، لكنها لن تظهر كما سنرى إلا مع تركه العمل وانصرافه إلى الكتابة شعراً ونثراً، لئن اشتهرت تلك القصيدة لاحقاً كما لم تشتهر أي قصيدة مزامنة لها، فإن المغني الفرنسي الكبير جورج براسان لن يلبث أن يزيد شهرتها شهرة حين سيغني الكلمات التالية في واحدة من أجمل أغانيه بعد ذلك بسنوات، "مع كل الاحترام الذي أحمله لبول فاليري، أنا المغني الجوال الوضيع الذي يزايد عليه، أملي أن يسامحني المعلم الطيب على الأقل إن كانت أشعاري هذه أفضل من أشعاره، أن يكون قبري أكثر بحرية من قبره، حتى وإن لم يرق هذا لسكان المنطقة الأصليين". ومن الواضح هنا أن ما يشير إليه براسان في هذا المقطع، إنما هو "المقبرة البحرية"، التي يحفظها عن ظهر قلب كل محب للشعر الفرنسي، علماً أن الشاعر والمغني مدفونان في تلك المقبرة التي باتت بفضلهما واسعة الشهرة في موقعها عند الطرف البحري من مدينة سيت في الجنوب الفرنسي الشهير بشمسه المشرقة خلال أشهر طويلة من السنة.
حكاية قصيدة
كان بول فاليري في قرابة الـ50 من عمره حين نشر هذه القصيدة، غير أن هذا لا يعني أنه كتبها في ذلك الحين، حيث أن الحكاية تقول إن الشاعر والكاتب جاك ريفيير، الذي كان صديقاً لفاليري ومديراً للمجلة الأدبية "نوفيل روفو فرانسيز"، عثر مرة في عام 1922، على "نوع من المسودة" لتلك القصيدة فيما كان يقلب في أوراق الشاعر في بيت هذا الأخير، وعلى الفور طلب من فاليري الإذن بنشرها، فقبل هذا دون أن يصر (حتى) على إعادة كتابتها مع أنه كان يرى أنها غير مكتملة، ولاحقاً ضم فاليري "المقبرة البحرية" إلى مجموعته "CHARMES"، قائلاً عنها إنها ليست بالنسبة إليه أكثر "من مقاطع موقعة خالية من المعنى الحقيقي الذي كنت أتوخى في الأصل التعبير عنه"، وهو أشبه "بمونولوغ داخلي أستعرض فيه كل تلك التيمات البسيطة وغير المتماسكة التي كانت تملأ حياتي العاطفية أيام مراهقتي مرتبطة بالبحر وبقدر كبير من الضوء الذي يشع في بعض أنحاء البحر الأبيض المتوسط".
انفتاح على الخارج
مهما يكن من أمر فإن النقاد ينظرون إلى "المقبرة البحرية" على أنها القطعة الأكثر انفتاحاً على "الخارج" من بين كتابات فاليري جميعاً، كما يرون أنها الأكثر ارتباطاً بسيرته الذاتية وبفلسفته الشخصية، حيث أن القصيدة "تفاجئ القارئ الذي يعرف مقدار ما يصر فاليري دائماً على أن تكون كتابته نوعاً من "الكوميديا الذهنية" المستكشفة للعوالم الخارجية، "تفاجئه بالقدر الذي تحمله من البوح الحميمي الذي يكاد يكون عاطفياً"، ما يفسر، كما يرى النقاد، إصرار فاليري أول الأمر على عدم نشرها وإيداعها النسيان حتى اكتشفها ريفيير، أما ما يطغى على هذه القصيدة فهو منذ البداية كما أشرنا، حب البحر الأبيض المتوسط الذي يظهر من بين سطورها وكلماتها أزرق مضيئاً ومشعاً مفعماً بالحياة، وهو أمر علينا ألا نعتقد أنه يتناقض مع كون القصيدة تتحدث أولاً وأخيراً عن مقبرة، لكنها بالطبع، مقبرة بحرية مشرفة على البحر يعبر الشاعر عن رغبته في أن يكون مآله إليها كي يبقى مخلداً وسط النور وزهو الربيع، وكان فاليري نفسه قد أخبر يوماً صديقه الذي سأله عما إذا كانت هذه المقبرة موجودة بالفعل أم أنها من نسج خياله، إنها موجودة كما هي "موصوفة" في القصيدة، تطل كلياً على البحر، وتظللها أعداد هائلة من "اليمامات البيض"، ويعني بهذا مراكب الصيادين التي تسمى هكذا هناك، متجولة فوق سطح الماء، ويضيف فاليري في جوابه أن المقبرة موجودة غير بعيد من مدينة سيت وهي مقبرة عائلته بمعنى أن الشاعر نفسه سوف يدفن فيها في نهاية الأمر بشكل طبيعي.
بدءا من الموت
والحال إن فاليري "ركّب" قصيدته انطلاقاً من المسار الذي أملته عليه تأملاته منطلقة من فكرة الموت وصولاً إلى موته هو شخصياً، الموت الذي جعل شعاره "يجب أن نحاول العيش"، بكل ما في هذه التوليفة هنا من تناقض، لكنه بالنسبة إلى الشاعر تناقض مفعم بالحياة والحيوية، ولئن كان الشاعر قد بدأ قصيدته بتأمل البحر، تأمل مهندس عمراني يقارب بين صورة البحر وصورة المعبد من خلال رؤيته لسطح البحر وكأنه "سطح معبد" أقيم لذكرى الآلهة، ويبدو واضحاً أن الشمس هي من بناه "ساعة الظهيرة"، التي تعطي الانطباع عادة بأن "الزمن معلق"، فإنه يصور لنا في الأبيات التالية كيف أن طيف الشاعر يعبر وسط ذلك الزمن المعلق عبوراً بطيئاً، إشارة إلى أن الزمن قد عاد وتحرك وربما بفعل الريح التي يشهد الشاعر ويشهدنا معه على ولادتها، حيث يدعو ثديه إلى أن تشرب "من ولادة الريح طزاجة هذا البحر المستثار" ما يعيد إليه الروح بفعل تلك "القوة المالحة" فيدعو إلى الركض "مع الموج حيث تعود الريح للولادة والانبثاق".
وبهذين المقطعين من الواضح أن ما شاء فاليري التعبير عنه إنما هو التعارض بين الوضع العابر للإنسان، والسكون البين للبحر والسماء، إذاً عند هذه اللحظة يجد الشاعر نفسه مسوقاً إلى التفكير بالموتى الحاضرين هنا في غور الأرض، بخاصة بتلك الكائنات التي كانت عزيزة عليه يوماً. متسائلاً حول ما آل إليه مصير "الغائبين"، وهو إذ يسعى للوصول إلى جواب هنا، نراه يرفض فكرة الخلود التي تتحدث عنها ديانته، مفضلاً عليها فكرة الالتحام بالطبيعة بعد الموت، حيث يقول، "ها هم الموتى المختبئون حاضرون في هذه الأرض"، ما يذكرنا طبعاً، بما يقوله شاعرنا العربي أبو العلاء المعري من أن موتانا هم أديم هذه الأرض.
جواب موارب
أما فاليري فإنه بعد ذلك يصل إلى ذاته طارحاً عليها سؤالاً عميقاً هو، هل تراه يأمل لنفسه نوعاً من خلود الروح؟ ومن الواضح هنا أن إجابته عن هذا السؤال لا تأتي سوى مواربة، فبالنسبة إليه، إذا كان يقال عادة أن الدود في القبر هو ما ينخر جثمان الميت، فإن الأقسى والأشد إيلاماً من ذلك الدود إنما هو الضمير الذي ينخر جسد الأحياء قبل موتهم، وانطلاقاً من هذه الفكرة التي يبدو واضحاً كم أنها تؤلم فاليري، يصل شاعرنا إلى الدعوة الأخيرة في قصيدته، الدعوة التي يعبر عنها بـ"يجب علينا أن نحاول العيش"، إذ هنا، بحسب دارسي القصيدة، يفضل فاليري أن "يتخلى ولو بشكل مؤقت" عن أفكاره حول الموتى "بل أيضاً عن أي تفكير على الإطلاق" في محاولة منه للتناغم (العفوي ربما) مع الحياة وذلك عبر الالتحام بحركة الطبيعة المحيطة به.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
الشمس والبحر معا
وبول فاليري (1871-1945) يعد واحداً من كبار الشعراء والكتاب الفرنسيين في القرن العشرين، ومع هذا، لم تكن لديه رغبة عارمة في البداية بأن يكون كاتباً، بل تطلع إلى أن يصبح بحاراً، غير أنه حتى وإن قال دائماً إن معلميه الكبيرين هما الشمس والبحر، اللذان ظللاه في مدينة سيت، سرعان ما نراه يدرس الحقوق في مدينة مونبيلييه ليعمل لاحقاً في وكالة "هافاس" الرسمية، عملاً سيتركه عام 1922، أي بالتحديد قبل مئة سنة تماماً من هذا اليوم الذي انطلق فيه يكتب هذه القصيدة بالذات، القصيدة التي أخفاها عن الأنظار ربما لكونها تحمل من التعبير عن الفراغ ما يعجز عن تبرير تركه العمل المجدي للانصراف إلى حياة فراغ كرسها للهو الروحي والكتابة، لا سيما الكتابة في انتظار إقامته نهائياً في تلك "المقبرة البحرية"، إذ وجده يتناقض مع حريته وتوقه إلى العيش المنطلق، وهو منذ ذلك الحين وجد نفسه يغوص كلياً في الكتابة شعراً ونثراً، بحيث أن ما خلفه لدى رحيله في عام 1945، ودفنه وسط جنازة وطنية مهيبة وكان قد أضحى عضواً مرموقاً في الأكاديمية الفرنسية، كان مجموعة من أعمال تعد اليوم من أسس التراث الأدبي الفرنسي، بما في ذلك قصيدته الطويلة "المركب الشابة" المهداة إلى صديقه أندريه جيد، و"خيبة فاوست" التي نشرت غير مكتملة بدورها بعد رحيله.