Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

علاقات متشابكة بين "صفر كوفيد" وسياسة "الطفل الواحد" في الصين

تجدد إشكاليات المناعة الفعلية للمجتمع والحرية الفردية فيه

مارة يسيرون في الشارع مع استمرار جائحة كورونا في شنغهاي (رويترز)

"إن كل اعتراض من الدول الغربية على سياسة السكان [الطفل الواحد] في الصين، ستكون مؤثرة في العمق شرط أن تتجنب اللجوء إلى المعيار الأخلاقي العالي، وتضع تركيزها كله على واقع أن تلك السياسة السكانية لا تستطيع أن تعطي الثمار المرجوة منها، بمعنى أنها لا تستند إلى دعم علمي عميق".

مع الفشل المعلن لسياسة "صفر كوفيد" التي انتهجتها الصين في مواجهة جائحة كورونا، تحضر ظلال من تلك الكلمات الواردة أعلاه التي جاءت في ختام تقرير معمق لـ"الكلية الملكية للأطباء النفسيين" عن سياسة السكان في الصين قبيل ختام القرن العشرين.

الأرجح أن مستهل تلك الظلال يلوح بوضوح في صعوبة الحديث عن أوضاع الصين التي تمتلك مجموعة من المواصفات المتفردة المتعلقة بتاريخها وثقافتها والعدد الهائل لسكانها وتجربتها السياسية المعاصرة من جهة، وتشابك تلك المعطيات كلها في علاقاتها مع العالم كله، خصوصاً الغرب.

نعم. لا يسهل الحديث عن الصين، حتى بالنسبة إلى المتخصصين الدوليين في شؤونها. فحتى اللحظة، تتناول مقالات متخصصين في "مجلس العلاقات الخارجية" الأميركي، تنشرها مجلة "فورين أفيرز"، اللسان الناطق عن ذلك المجلس، أوضاع الصين بأنفاس ورؤى تتراوح بين اعتبارها بلداً نامياً يفشل في الوصول إلى مرتبة الدول المتقدمة من جهة، واعتبار الصين ذلك العملاق الصناعي والسياسي والعسكري والاقتصادي الذي يمثل الند الأبرز والخصم الأول للولايات المتحدة التي هي الدول العظمى الوحيدة في الكرة الأرضية.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

لنعد مرة أخرى إلى الكلمات الواردة أعلاه. أليس واضحاً أنها تتحدث وتتحفظ في نفس واحد؟ أليس واضحاً أن المتحدث الغربي، وهو من أبرز مرجعيات اختصاصه، يحذر من تطبيق ميكانيكي مباشر للقيم والرؤى والمبادئ الغربية، على الوضع الصيني؟

في ذلك التقرير نفسه، يبتدء المقطع الذي اقتبس أعلاه بالسطور التالية، "حينما يتحدث المتخصصون الغربيون في الطب النفسي عن اليوجينيا Eugenia، فمن المرجح أن كلماتهم لن تؤثر بشكل إيجابي لأنها تستحضر بصورة فورية شبح الإمبريالية الثقافية الغربية، في عقول نظرائهم الصينيين. لقد حاول هؤلاء جهدهم إفهامنا أن سياسة الطفل الواحد One Child Policy لا تشبه اليوجينيا الهتلرية، بالتالي، فإنهم لا يرون علاقة بين ما يفعلونه في سياسة السكان وما فعله هتلر".

ثمة خيوط كثيرة تربط بين سياسة "الطفل الواحد" في مواجهة التكاثر السكاني الثقيل الوطأة صينياً، واختيار الحزب الشيوعي الصيني سياسة "صفر كوفيد" في مواجهة جائحة كورونا. والأرجح أنه يمكن المجازفة بالقول إن التحكم الكامل بمجمل إرادة الشعب بدل التفاعل مع حرية تنوعاتها خيط مشترك بين سياستي "صفر كوفيد" و"الطفل الواحد".

اليوجينيا والهولوكوست وتقلبات التاريخ

قبل الانتهاء من المقارنة بين سياستي "صفر كوفيد" و"الطفل الواحد" ثمة توضيح واجب، إذ يشير مصطلح يوجينيا إلى مفهوم يفرض التحكم بالتكاثر كي يسلك مسار انتقاء ما ينظر إليه باعتباره الأقوى والأفضل، والتخلص مما يصنف بوصفه أدنى وأضعف. وقد رأت النازية أن العرق الآري الأبيض الصافي القوي البنية، والذي تخلو سجلاته العائلية من أمراض تثقل على المجتمع هو الأصلح للتكاثر، على حساب الآخرين كلهم. ومثل الهولوكوست الذي شمل اليهود والغجر وأقليات أخرى تطبيقاً مباشراً لليوجينيا. وشملت تلك الممارسة النازية المستندة إلى فكرة النقاء العنصري تعقيم 350 ألف ألماني بسبب سجلات عائلية تتضمن أمراضاً نفر منها الرايخ الثالث، وشملت حتى ضعف البصر وعدم القدرة على تمييز الألوان، ووفاة 70 ألف مصاب بأمراض نفسية - عقلية بين عامي 1933 و1941!

لنعد مرة أخيرة إلى الكلمات في بداية المقال. ماذا لو حاولنا تطبيقها، بتحفظ بالطبع، على سياسة مواجهة كورونا، للقول بأن النقد المقبول صينياً لسياسة "صفر كوفيد" يتمثل في التشديد على أن تلك السياسة ليست مجدية؟

إذا بدا ذلك التمرين الذهني مسطحاً وميكانيكياً، وهو كذلك بالفعل، فلنفكر بأن الوقائع أثبتت فشل سياسة "صفر كوفيد" في حماية الشعب الصيني من الجائحة الفيروسية. لقد حدث ذلك بالفعل، حتى لو أنه جاء عبر طرق متعرجة ومواربة وغير مقصودة ومتخبطة، على غرار ما تكونه واقعية الأمور في مسارات التاريخ والاجتماع. لم تنحن الصين أمام النقد الشعبوي الذي طنطن به ترمب بمصطلحات لم تخل من عنصرية، على غرار مصطلح "الطاعون الصيني". في المقابل، غيرت الصين سياسة "صفر كوفيد" أمام ضغط واقع معاودة انتشار كورونا في أراضيها، في وقت يخرج فيه العالم من الجائحة، إضافة إلى ضغوط شعبها ومناداته بحريات متنوعة.

 

وبكلمات أوضح، بدت سياسة "صفر كوفيد" ظافرة طيلة ثلاث سنوات، عانت خلالها البلدان الغربية والمتقدمة أساساً، إضافة إلى الهند وجنوب أفريقيا، من جائحة الفيروس. وحتى زمن قريب تباهت الصين بأن اقتصادها وحده نما بين الاقتصادات العالمية الكبرى أثناء جائحة كوفيد.

لم يكن حبل ذلك الانتصار طويلاً. وبقول لا يخلو من الاجتزاء، استطاعت البلدان الغربية والمتقدمة أن تصنع مناعة وهي تحت نيران القصف الفيروسي، باستخدام مزيج من مراكمة مناعة القطيع باستخدام اللقاحات المختلفة من جهة، والهيمنة على مسارات المجتمع عبر سياسات العزل الاجتماعي والفحوص الواسعة ومنع التجول بين مناطق الوباء وفرض سيطرة الدولة على تنقلات الأفراد والمواصلات وغيرها، من جهة أخرى.

مجدداً، لم يأت ذلك المزيج عبر التوازن والخطط المنضبطة، بل شمل تعرجات وتخبطات وتناقضات شملت رفض اللقاح وتحويل الكمامة إلى صراع سياسي وحزبي وتظاهرات ضد هيمنة الدولة على الحياة اليومية للأفراد. ولعل السقوط الفريد من نوعه في التاريخ الحديث لبوريس جونسون على يد تلك التناقضات، بعد تفجر فضيحة الحفلات "بارتي غيت"، يصلح مثلاً مكثفاً عن ذلك التعرج والتخبط والتناقض.

على النقيض من ذلك، سارت الصين في مسار صعود اقتصادي متفرد أثناء السنوات الثلاث الأولى من الجائحة. وفي عالم مترابط بصرياً، تتدفق صور خروج الدول الغربية وغيرها من قيود الجائحة، فيما تستمر القيود الثقيلة التي فرضها الحزب الشيوعي الصيني في الضغط على الحياة اليومية للناس ومصادرة حرياتهم اليومية البسيطة كالحق في التنقل وحرية التجوية وحق اللقاء مع الآخرين وغيرها.

في المقابل، لا يعني ذلك أن سياسة الوقاية الشاملة المستندة إلى العزل والتباعد لا تملك أسباباً علمية وعملية لتبريرها، إضافة إلى نجاحها غير المكتمل. ويذكر ذلك أيضاً بأن سياسة الطفل الواحد لا تفتقد مبررات علمية وعملية كافية، في البلد الأعلى عدداً في السكان. حتى في مقالات لمتخصصين في الشأن الصيني تنشرها "فورين أفيرز"، تتأرجح الآراء حول العدد الضخم للسكان بين الفائدة المتأتية من استمرار تلك الكثرة الهائلة باعتبارها من محركات النمو الاقتصادي على النمط الصيني، ومن يرى أن الأجدى يتمثل في خفض التكاثر بالترافق مع رفع مستوى الدخل الفردي العام.

مجدداً، لا يسهل الحديث عن الصين وسياساتها وتقلباتها، والأرجح أنها صعوبة تواجه حتى أشد المتمرسين في شؤون بلاد "العم ماو". ولعل تلك الصعوبة تستمر حتى حين يكون واضحاً أن قلة تتحكم بشكل متسلط بقرارات جموع الشعب، من دون إصغاء فعلي لإرادته عبر نقاشات فعلية معمقة تجري في فضاء من الحرية حتى لو كانت نسبية.

 

ترابط بصري وفيديولوجي يلف الكرة الأرضية

استطراداً، هنالك حاجة إلى مساهمة أكثر تخصصاً وتعمقاً لتقصي علاقة سقوط سياسة "صفر كوفيد" مع الترابط البصري للكرة الأرضية عبر الشبكات المتلفزة والسيبرانية، الذي يوصف أيضاً بأنه فيديولوجي، في إشارة إلى الممارسة الشائعة لالتقاط الصور وصنع الأشرطة، سواء على يد الشركات أو الجمهور الواسع.

لعلها مفارقة أن تشكو أميركا والغرب ودول أخرى كثيرة من التأثير البصري لأشرطة الفيديو عبر شركة "تيك توك" الصينية، فيما يذهب الظن إلى التفكير باحتمال أن يكون التدفق الفيديولوجي، والمتلفز أيضاً، قد أسهم في ثني الإرادة السلطوية للحكم في الصين نفسها!

والأرجح أنه لا تصعب ملاحظة أن الدول الغربية التي يحرص شيوعيو الصين على إثارة مقارنات معها خرجت من الجائحة مع انتشار مناعة القطيع بين شعوبها، وإن بتخبط وتعرج وتناقض. في المقابل، لم تحم سياسة التحكم الكلي بجموع الشعب الصين، ولم تستطع القبضة الساطية لإرادة القلة الحاكمة صنع مناعة مجدية تمكن الشعب من التنفس بحرية، ولا حتى بصورة نسبية.

ثمة هامش صغير لعله قد انفتح للتو، مع انحناء إرادة الحكم الصيني أمام ضغط الشعب ووقائع الجائحة. يتمثل ذلك الهامش في اللقاح الذي ربما بدأت السلطات الصينية في الميل إلى الاتكاء عليه في مواجهة الجائحة، إذ أصدرت سلطات بكين قراراً بتسريع تلقيح الأكبر سناً بين سكانها، إضافة إلى إعلانها أن النسخة الحالية من فيروس كورونا أضعف من تلك التي أطلقت الجائحة أو ظهرت في سياقاتها. ويعني ذلك أن شريحة كبار السن في الصين قد تكون مرشحة لاختبار مراكمة مناعة القطيع التي تصنعها اللقاحات الصينية. من جهة أخرى، يعرف عن اللقاحات الصينية أنها صنعت بطريقة تقليدية باتت تبدو بدائية من الناحية العلمية، بالمقارنة مع لقاحات "فايزر بيونتيك" و"أسترازنيكا" و"سبوتنيك في" و"موديرنا" التي صنعت باستخدام تقنيات جينية متطورة، بل إنها استعملت للمرة الأولى في تاريخ صناعة اللقاحات.

هل تفلح اللقاحات الصينية المتأخرة تقنياً في صنع مناعة قطيع، أو في الأقل في دعم تحرر الشعب الصيني من القيود الثقيلة الوطأة لسياسة "صفر كوفيد"؟ هل تفشل تلك اللقاحات في حماية الخروج إلى الحرية، فتضع سلطة بكين في مواجهة أكثر تعقيداً مع الجائحة والشعب التائق إلى الحرية؟ إنها أسئلة قد لا يطول انتظار أجوبتها.

المزيد من تحلیل