Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

لست بقارئ بروست!

ما الذي جعل الرواية سفر الأسفار ونثر العالم؟

أحدث مارسيل بروست نقلة نوعية في السرد والبنية الروائية في العالم (ويكيبيديا)

"رحلة الاستكشاف الحقيقية لا تستلزم الذهاب إلى أراض جديدة بل تستلزم الرؤية بعيون جديدة"/ مارسيل بروست

"تاجر البندقية" كتاب كامل الكيلاني للأطفال، إعادة صياغة لمسرحية وليم شكسبير الشهيرة، فاجأني حين اطلعت عليه، وبث الشكوك في نفسي الطفولية بأن جدتي ليست أمية وأنها مطالعة للكتب، لكنها تخفي الأمر عني لدواع لا أعرفها. حين واجهتها بمكر الطفولة أنني كشفت سرها، أخذت في التأكيد بقوة أنها ليست بقارئة، مستغربة شكوكي ومسبباتها. ولما أوضحت لها أن قصة التاجر اليهودي، التي حكتها لي غير مرة وفي صيغ عدة، قرأتها في كتاب في المركز الثقافي الليبي المحاذي لبيتها.

هذه القصة جعلتني في ما بعد أكتشف أن مبتدأ الثقافة المشافهة، وأن التدوين لاحق، بل إن المشافهة ظلت من أسس تناقل المعارف. واليوم، عبر الندوات والمحاضرات وأجهزة الميديا التي سيدها التلفزيون، ما كان أخيراً مصدراً رئيساً، إلى جانب السينما، في نقل الروايات والقصص مثلاً، وفي هذا أخذ دور جدتي. جدتي كانت بطلة روايتي الأولى، وعن انتهاء دورها في تثقيف النشء، بل وعن انتهاء الطفولة وثقافة المشافهة التقليدية. روايتي "سريب" بطلها طفل وجدته التي يتلقى عنها الحكي، خلال عقد الستينيات من القرن الماضي.

خلال الأسابيع الماضية، غرقت في مشاهدة أفلام مهرجان القاهرة الدولي للسينما، في دورته الـ44. ومن ذلك غصت في متابعة كأس العالم لكرة القدم الدورة الـ22، لكن هذا لم يمنع أن أحظى بمشاهدة حلقة خاصة مترجمة، من برنامج "المكتبة الكبيرة"، على القناة الفرنسية الخامسة "TV5"، في مناسبة مئوية الفرنسي مارسيل بروست (1871- 1922)، الروائي المميز والمثير الذي أحدث نقلة نوعية في السرد والبنية الروائية في العالم، من خلال ملحمته الروائية ذات المجلدات السبعة "البحث عن الزمن المفقود"، وقد ترجمها إلى العربية جمال شهبند، ونشرتها "شرقيات" المصرية، وكتب عن هذه المناسبة كثير في لغات العالم ومنها العربية.

الحقيقة أن احتفال فرنسا الباهر بمئوية هذا المبدع يلفت النظر إلى أن أمثال بروست يصبحون أعلاماً في كثير من دول العالم، والغريب قبل أن تعرف أعمالهم، وأحياناً بوقت ليس بقصير، كما هو حاصل مع بروست خصوصاً عند العرب، فقد تأخرت ترجمته لأسباب عدة على رأسها صعوبة ذلك، إذ عرف بروست بأنه كاتب صعب المراس كصنوه الإيرلندي جيمس جويس، لكن هذا من لم تعرف أعماله، يلم القارئ المهتم والحصيف بنتاجه بطرق معرفية أخرى، على رأسها النقد والنقد المقارن، ثم من خلال تأثيره في نصوص كتاب آخرين، من خلال التناص وما يحدثه من نقلة نوعية في البنية السردية. ومن هذا قد يرجع نقاد نص كاتب ما إلى تأثير بروست الذي اطلع الكاتب على نصوصه من خلال لغته الفرنسية. وهكذا دواليك تتناقل التأثيرات والمفاعيل من خلال مقاربات متنوعة ونوعية.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

يعيدنا بروست إلى مسألة التثاقف غير المباشر، ما يحصل من خلال المشافهة التي أشرنا إليها ومن غيرها، فالثقافة والإبداع فيها لا يعرفان حدوداً، ونحن نعرف أن هناك لغات اندثرت، لكن نتاجها تناقلته لغات أخرى، بل إن سقراط مثلاً لا كتب له بين أيدينا، لكن عرفنا أطروحاته الفلسفية من خلال محاورات أفلاطون وغيره من تلاميذه، وقد عرفنا له وغيره مفاهيم وآراء من خلال خصومهم. وهذا ما تزخر به الثقافة العربية. فإننا عرفنا أو قرأنا في كتب الخصوم نصوصاً لكتاب لم يعرفوا إلا من خلال ذلك، فتنشر أفكار وآراء من خلال الخصوم، وتشيع في أحيان كثيرة بفضل هذه الخصومة، كما هو حاصل مع كتب حرقت وصودرت واندثرت كجسم مادي، لكن روحها تشع على الرغم من هذا.

وهناك منحى آخر مهم في الثقافة، أن صعوبة نص ما لا تحول دون شيوعه، إذ ينبري الشراح لذلك بل وشراح الشراح. وهذا المنحى تغص به الثقافات الكلاسيكية مثل العربية.

لكن، قد يعترض قارئ نبيه على أن بروست روائي وليس مفكراً، وإن هكذا اعتراض يذكرني بمسألة الانتحال التي أثيرت كثيراً في الثقافة الإنسانية. والانتحال يعني بشكل ما نسب نصوص إلى شاعر. ويعالج مسألة الانتحال كتاب طه حسين "الشعر الجاهلي"، الذي وجه بعاصفة ونفخ فيها كثيراً منذ صدوره أوائل القرن الـ20، فقد أكد طه حسين ما هو معروف من انتحال قصائد الشعر الجاهلي في العصر العباسي، مما يعني أنه حتى في الإبداع يمكن أن تشيع بدعة ما، من خلال نصوص نسجت على المنوال نفسه.

بالنسبة إليّ لست بقارئ لبروست، لكن أشعر أنني مشبع بما كتب منذ عقود، حين قرأت ما ترجم من نقد لنصوصه أو من خلال كتاب نسبوا إليه، فما أحدثته في البنية السردية في "البحث عن الزمن الضائع" تجاوز هذه الرواية، ليمسي طريقة في السردية الحديثة وفي المفاهيم النقدية التي تولدت عنها. فبروست مثل جيمس جويس، هما النسج الحديث لـ"ألف ليلة وليلة"، ومنهما ستنبثق التوليدية السردية والنقدية الحديثة، فيكون التداعي صيغة السرد الحديث وغير ذلك. ومن "البحث عن الزمن المفقود" و"رحلة يوليسيس" ستنبثق "ألف ليلة وليلة" ماركيز وبورخيس، وما أحدثته الرواية الأميركية اللاتينية في الثقافة الإنسانية، ما جعل الرواية سفر الأسفار ونثر العالم.

المزيد من تحلیل