Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

فيلم "معركة الجزائر" في لقاء بين مخرجه وإدوارد سعيد في روما

حيرة صاحب "الاستشراق" أمام الإيطالي بونتيكورفو الذي ابتعد بفنه عن اهتمامات مواطنيه

إدوارد سعيد (موقع ويكيبيديا)

معروف عن المفكر والكاتب الفلسطيني إدوارد سعيد اهتمامه ببعض الفنون والآداب وكتابته عنها، ولا سيما الموسيقى التي كان ناقداً وشبه مؤرخ لها. ولكن لم يكن معروفاً عنه اهتماماً خاصاً بالسينما، فيما عدا ملاحظات من هنا وأخرى من هناك، ثم بخاصة نصه الجميل عن تحية كاريوكا التي كتب عنها واحداً من أجمل نصوصه الفنية. لكن ثمة مقالاً طويلاً له كرسه لفيلم "معركة الجزائر"، الذي أنتج بعد ثلاث سنوات من نيل الجزائر استقلالها عن فرنسا في عام 1962، وبعد حرب كولونيالية بغيضة على نحو خاص، لكنه لم يعرض في فرنسا حتى عام 1971. ومن الواضح في سياق المقال أن سعيد كتبه انطلاقاً من لقاء جرى بينه وبين مخرجه جيلو بونتيكورفو في شقة هذا الأخير في روما بعد سنوات من عرض الفيلم. كان اللقاء طويلاً وغنياً، ولعل أجمل ما فيه هو أنه كشف عن إلمام الكاتب الفلسطيني بشؤون السينما وشجونها من دون أن يبعده ذلك عن تمسكه بأفكار حول السينما والفن تكاد في نهاية المطاف أن تكون "ديماغوجية" على رغم ما ينم عنه حديثه من استمتاع حقيقي بالحديث عن السينما في بعدها الجمالي المحض. ومن هنا تفرض هذه اللفتة نحو السينما نفسها إلى درجة الرغبة في تقديمها إلى القارئ من خلال مقاطع أساسية من النص كما ترجمه السوري ثائر ديب في سياق كتاب صدر قبل سنوات ويضم عديداً من النصوص المتنوعة.

 

فيلم كبير

ومنذ البداية، يخبرنا سعيد أن "معركة الجزائر" فيلم كبير ويستحق الجوائز التي فاز بها والمكانة التي يحتلها في تاريخ السينما "ليس لأنه صور انتصاراً حديثاً ومثيراً للثورة على واحدة من أقدم الإمبراطوريات وحسب، وإنما أيضاً لأن روحه مفعمة بالتفاؤل الثوري الغني، على رغم وجود العنف في قلب الفيلم. فثوار جبهة التحرير الوطني يهزمون في الفيلم، لكن الشعب الجزائري ينتفض ثانية، بعد ثلاث سنوات من هزيمة الثوار في القصبة عام 1958. وبونتيكورفو يسجل الانتصار اللاحق بروح غنائية وخلاصية، في واحد من أبرز مشاهد الحشود أو المجاميع التي عرفتها السينما، منافساً آيزنشتاين في قدرته على التحكم، والتي تكاد تكون شبيهة بالقدرة التي تبدو في رقص الباليه. وهو يظهر كيف أن الثوار الذين قتلهم الفرنسيون يواصلون الحياة على رغم ذلك بسبب من ذكائهم، والتزامهم، من دون أن يكون أي من ذلك، بالمناسبة، مبتذلاً أو سخيفاً في الفيلم. فحتى الكولونيل المظلي الفرنسي ماتيو، هو رجل لافت وجدي، أما ثوار جبهة التحرير الوطني في الفيلم، حيث آصف سعدي (قائد القصبة الحقيقي) يلعب دوره نفسه، فهم جزائريون غير محترفين "يتأتى حماسهم الصادق ومعاناتهم الصادقة من إحيائهم حوادث قريبة العهد أشد القرب، وهذا ما يعطي للفيلم أسلوبه التسجيلي الوثائقي الشجاع". ولئن كان سعيد يزاوج هنا في لقائه مع بونتيكورفو وحديثه عن ذلك اللقاء بين "معركة الجزائر" وفيلم آخر للمخرج نفسه هو "كويميدا" يرى أنه لا يقل عنه أهمية، سنكتفي هنا بالتوقف عند ما يتعلق في مقال الكاتب بالفيلم الجزائري.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

هنا إذاً، بعد أن يتساءل سعيد عن السبب الذي يجعل محدثه متوقفاً عن العمل منذ سنوات تلت تحقيقه هذين الفيلمين، يذكرنا بأن بونتيكورفو هو بالتحديد من جعل أعمال كوستا غافراس سيد السينما السياسية في ستينيات وسبعينيات القرن العشرين ممكنة "وكثيرون من مخرجي العالم الثالث، من الجزائر إلى الهند إلى أميركا اللاتينية والشرق الأوسط، يسيرون في أفلامهم إلى حد بعيد على هدى (معركة الجزائر) و(احتراق!)، فما الذي يعنيه صمته الحالي؟".

تفاعل موسيقي

"سألته" يقول سعيد، "ما الذي يروق له، بعد عشرين عاماً، في (معركة الجزائر) و(احتراق!)، وما الذي لا يروق له؟ قال إنه البناء السيمفوني، والقوة الأوركسترالية في فيلم (معركة) الذي ينبثق فيه كفاح شعب قمع طويلاً من أجل الحرية (مثل تيار عظيم)، حتمي، وظافر، ولا مرد له". فالتفاعل في لغة بونتيكورفو بين المفاهيم المجردة والموسيقية هو تفاعل عفوي وطبيعي، ومؤكد أن هذه ليست الطريقة التي يتحدث بها مخرجو السينما، كما قلت لنفسي، وسرعان ما نسيت أننا نتحدث عن أفلامه وليس عن زوج من الأفلام التي صادف أن شاهدها كلانا ورحنا نعلق عليها. كان بونتيكورفو يشجع ضمناً على توسيع الشقة التي تفصلنا عن الفيلمين بوصفهما شيئين كان هو نفسه قد صنعهما، وكثيراً ما قال إنه قد نسي جانباً ما من الفيلم، وحتى حين كان يعبر عن استحسانه، فإنه كان يفعل ذلك (وهنا المفارقة) بصورة بعيدة عما هو شخصي. فما صوره فيلم "معركة" في رأيه هو "نوع من الذات الجمعية التي يتصادم فيها المنطق الكولونيالي مع المنطق الوطني، مما يشد الأفراد إلى هذا المجال أو ذاك دونما تمييز وإنما بمنطق لا رحمة فيه. وهو يرى الآن أنه قد أفلح في محاولة تصوير ذلك."

صفر اليدين

لقد كان النقاش بين المبدعين رائعاً لكن سعيد ما يلبث أن يقول إنه خرج منه صفر اليدين. حتى وإن كان يخبرنا أنه تلقى من محدثه معلومات بالغة الأهمية ومنها مثلاً ما يتعلق بما قاله له بونتيكورفو ذات لحظة من أنه سمع "عن الانتحار الجماعي الذي قام به السود الذين أخفقوا في تحقيق حريتهم". وفي المقابل، لفته ما قاله له مخرج "معركة الجزائر" من أنه يشعر أن سلسلة من اللقطات التي تدور بين قائد جبهة التحرير الوطني بن مهيدي وعلي لابوانت في الفيلم كان ينبغي أن تحذف. "فهي وعظية وتعليمية أكثر مما ينبغي"، كما قال كلاماً مهماً عن أهمية المشهد الذي ينظر فيه بن مهيدي حول الكيفية التي تبدأ بها الثورات بالإرهاب ثم تفلح في تحفيز الشعب كله. فالتأثيرات الكبرى والشاملة على بونتيكورفو في كلا الفيلمين مستمدة من فرانز فانون، أولاً من "معذبو الأرض" ثم من "كولونيالية محتضرة".

لماذا الكولونيالية؟

وهنا يعلق سعيد بشيء من الحيرة على السبب الذي يدفع مخرجاً إيطالياً إلى إخراج فيلم عن ثورة كولونيالية في العالم الثالث، في حين أن جميع زملائه الذين يحيطون به لا يعنون سوى بمجتمعهم وحده. وهو يذكر زملاء يثيرون إعجابه لا يقتصرون على روسيليني (المفضل لديه) بل يضمون أيضاً فليني في فيلمه "8.5" و"بروفة الأوركسترا"، وكذلك برتولوتشي ("الممتثل"، بخاصة، ولكن ليس "الإمبراطور الأخير"، الذي يعتقد بونتيكورفو أنه فيلم فاشل) وفيسكونتي. فإذاً، لم الإمبريالية والإمبريالية الجديدة؟ بهذا الصدد بدا بونتيكورفو، كما يؤكد سعيد، واقعياً إلى أقصى الحدود. فقد أوضح قائلاً "كنت عضواً في الحزب الشيوعي الإيطالي حتى عام 1956، حين تركته"، وأضاف أن هنغاريا كانت عاملاً حاسماً في قراره هذا. "لاحقاً، أصبحت يسارياً مستقلاً. ولذا كان من المنطقي أن أتناول الإمبريالية". وهذا هو الشيء الأبعد ما يكون عن الإقناع مما قاله. وتعليقاً على هذا الجانب من حديث الرجلين، يخبرنا إدوارد سعيد قائلاً "لقد قال لي صديقي إقبال أحمد لاحقاً، في نيويورك، إنه كان قد التقى بونتيكورفو حين كان كلاهما، إضافة إلى كوستا غافراس، يساندان جبهة التحرير الوطني الجزائرية أواخر الخمسينيات. وما كان التزاماً سياسياً عميقاً طوال 30 عاماً مضت بدا الآن أشبه بأمر أكاديمي".

موقعان للاختلاف

مهما يكن، فإن سعيد يفهمنا أنه لم يختلف مع بونتيكورفو "اختلافاً شديداً إلا في أمرين اثنين أثناء نقاشنا. أولهما يتعلق بمسائل تقنية في مجال استخدام الموسيقى في السينما، أما الثاني وهو الأهم، فكان لدى مناقشة، ما اعتبرته تصويره "المفتون" بالشريرين الإمبرياليين، اللذين صدف أن كان كلاهما أوروبياً، الكولونيل ماتيو في "معركة"، ووليم ووكر في "احتراق!"، قال بونتيكورفو إنه كان عليه أن يعاملهما على نحو جدي وليس بوصفهما صورتين نمطيتين كاريكاتوريتين. فمنطق موقعيهما كان يقتضي الوضوح، وكيف كان له أن يفعل ذلك إن لم يصورهما على أنهما نمطان عقلانيان، وجديان؟ غير أن ذلك لم يمنعه كمخرج وكاتب من أن يكون "ضدهما". وألححت أكثر: ماذا عن الملاطفات المعجبة التي تبذلها الكاميرا بسخاء على ماتيو الزاحف إلى الجزائر؟ ماذا عن ووكر بوصفه مثقفاً؟ ألا يروق مثل هؤلاء الأشخاص لبونتيكورفو في حقيقة الأمر؟ ألا يشعر بشيء من اللذة المترددة حيال الطريقة التي يعملون بها؟ قال "لماذا تحاول أن تجعلني أوافقك الرأي؟ أنا لا أوافقك الرأي". مختتماً بنوع من السخط ذلك الجانب الخاص من المقابلة.

المزيد من ثقافة