Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

الارتباك البريطاني من زوايا متعددة

ليس من الموضوعية التقليل من دلالات التغيرات الحكومية المتوالية لكن هذا لا ينفي الخلل في صفوف "المحافظين"

يتحدث رئيس الوزراء البريطاني ريشي سوناك رداً على أول أسئلة له في مجلس العموم  (أ ف ب)

 اختار حزب المحافظين البريطاني ريشي سوناك ذا الأصول الهندية رئيساً للوزراء، وفي خطوة لا يمكن تجاهل كونها تعبيراً عن تحولات إيجابية في المجتمع والسياسة البريطانية، وغير مسبوقة في أي مجتمع أوروبي حتى الآن، وليس من الموضوعية التقليل من دلالاتها، والمؤشرات حتى الآن قد تكون إيجابية، لكن المشكلة أيضاً أنه ليس من الموضوعية التقليل من مظاهر ارتباك حزب المحافظين، الذي انعكس على بريطانيا قبل ذلك، فلا يمكن تجاهل ما تمثله استقالة رئيسة الوزراء ليز تراس من دلالات، التي سجلت رقماً قياسياً كواحدة من أقصر الحكومات في تاريخ المملكة المتحدة إن لم تكن أقصرها.

وفي الحقيقة تتجاوز دلالاتها مجرد أزمة عابرة يمكن أن تحدث في كثير من النظم السياسية عبر العالم وعبر مراحل زمنية مختلفة، فمن الطبيعي أنه ما من دولة ولا نظام سياسي لا يمر بأزمات أو صعوبات من وقت لآخر، مع فوارق تتباين في حجمها ما بين دولة وأخرى، على أن الحالة البريطانية الراهنة تحتاج إلى أكثر من التفسيرات التقليدية لفهمها وتقدير أبعادها.

مصادر متعددة للأزمة

يمكن القول، إن هناك عدة أبعاد لتفسير التحديات البريطانية الراهنة، أولها التخبط في السياسات الاقتصادية ومأزق السياسات اليمينية المحافظة عند التطبيق، وثانيها أزمة حزب المحافظين العريق، وثالثها أزمة القيادات وغياب الشخصيات المؤثرة في بريطانيا وكذا عبر أغلب دول العالم، فضلاً عن سياق تاريخي يستحق التوقف عنده وطرح الأمور في إطار سياق أكثر شمولاً.

أما تخبط السياسات الاقتصادية اليمينية الذي نتركه للمتخصصين أكثر فهو لا ينفصل عن ارتباك اقتصادي عالمي، ولكننا نكتفي بتناول جانبه الاجتماعي الناتج عن التحولات التي يعرفها العالم في العقود الأخيرة ما بين سياسات الرفاهة الاجتماعية بخاصة في مجال الخدمات الأساسية من تعليم وصحة ووصول الوعي البشري إلى مراحل ومستويات لا يستطيع التنازل عنها مهما تغيرت الحكومات، وما بين سياسات يمينية تقليدية تعتبر التحيز للأغنياء خصوصاً في مجال الضرائب السبيل الوحيد لدفع عجلة الاستثمار والاقتصاد، ومن دونها يحجم رأس المال عن الدفع باستثماراته ودفع الاقتصاد إلى الأمام، وعند حكماء هذه الرؤية ارتياح لفكرة التغيير ما بين السياسات الليبرالية الاجتماعية والمحافظة اليمينية، بحيث تتيح المراحل القصيرة أو الطويلة نسبياً بحسب كل نظام سياسي التحرك ما بين الاعتبارين للتنفيس واحتواء الاتجاهين وحدوث التوازن النسبي للمجتمع، كما قد تقوم بعض الحكومات اليمينية في الغرب ببعض السياسات الاجتماعية لاحتواء التيارات الأخرى أو فئات المجتمع الأقل.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

والواقع أنه عندما تؤدي اعتبارات أخرى أو أمزجة تسود المجتمع عنصرية أو ضد سياسات الهجرة والأجانب إلى امتداد زمني أطول للحكومات المحافظة يؤدي هذا إلى ارتباك في أوضاع المجتمع ودوراته التقليدية بما يضع السياسات اليمينية في تحديات عميقة. ويضاعف من كل هذه الملابسات ظروف دولية معقدة نعود إليها مرة أخرى.

ومن ناحية أخرى لا يمكن تجاهل أن حزب المحافظين يمر بأزمة عميقة في السنوات أو العقد الأخير، جزء منها فكري حول عدد من القضايا والأطروحات الرئيسة كالأبعاد الاجتماعية سابقة الذكر، خصوصاً مع تصاعد الاتجاهات العنصرية واليمينية في الدول الغربية بسبب موضوعات المهاجرين، فضلاً عن إشكالية العلاقة بأوروبا تاريخياً في حزب المحافظين بشكل خاص.

 أدى التسرع في إجراء استفتاء الخروج من الاتحاد الأوروبي إلى تداعيات اجتماعية واسعة وليس فقط سياسية أو اقتصادية، ولعب فيها الحزب الدور الرئيس عبر قياداته المتعاقبة التي أكملها بوريس جونسون الذي لم يكن بتركيبته الشخصية وقدراته بوزن القيادات السابقة للحزب، وحمل خطاباً شعبوياً عبر عن تدهور ملحوظ في القيادات البريطانية، وجاءت استقالته لتلفت الأنظار مجدداً لضعف قياداته ما سمح بتعدد المرشحين لخلافته وعدم وجود شخصيات بارزة يشار إليها مسبقاً وفقاً للتقاليد السابقة للحزب والحياة السياسية البريطانية تعبيراً عن الارتباك الذي يعانيه الحزب في السنوات الأخيرة، ولعل طرح عودة شخص جونسون لرئاسة الوزراء والرجل لا يزال تحت التحقيقات في شأن مسألة كورونا تحيط به كثير من التساؤلات. صحيح أنه لم يحدث ولكن مجرد إثارته على الرغم من كل الخلفية السابقة أمر يعكس في ذاته ضعف وغياب الشخصيات المؤثرة.

أما البعد الثالث الذي تشارك فيه المملكة المتحدة العالم، فهو ظاهرة غياب القيادات الكاريزمية القادرة على تملك شعبية سياسية حقيقية وذات رؤية قد تصيب أو تخطئ ولكنها تتحرك وتقود وفقاً لهذه الرؤية، فعبر سنوات القرن الحالي كان من الواضح أن القيادات البريطانية المتعاقبة لا تمتلك المكانة التي كان يتمتع بها كثير من رؤساء الوزراء البريطانيين في العقود السابقة، وهي ظاهرة يمكن رصدها في دول عديدة كبرى كالولايات المتحدة وفرنسا التي يقارن كثيرون قياداتها الراهنة بقيادات تاريخية كديغول وميتران وشيراك.

 وحقيقة الأمر أن طبيعة العالم المعاصر أسهمت بدرجة كبيرة في تبلور هذه الظاهرة، فلم تعد هناك هالة من السرية النسبية التي كانت تحيط بهذه القيادات وتخفي عيوبها، وقد يستغرق الأمر سنوات حتى تتكشف سواء خلال حكمها أو بعد رحيلها بالموت أو التقاعد، كما كانت في معظمها أكثر قدرة على إخفاء هذه العيوب البشرية وإضفاء هالات العظمة الوهمية، وهو ما أصبح نادراً في عالمنا المعاصر الذي تسبق فيه وسائل التواصل الاجتماعي وسائل الاتصال الجماهيري الأخرى وكشفت كل شيء، بل أحياناً بقدر من المبالغة، فضلاً عن الشعوب ذاتها على الرغم من ارتفاع قاعدة التعليم أصبحت تلهث بسبب طبيعة الحياة المعاصرة.

أي دلالات وسياق تاريخي؟

تجمعت كل هذه الأبعاد وغيرها في ظل وضع عالمي صعب ومعقد بل وغير مسبوق وأوضاع اقتصادية عالمية صعبة، ضاعفتها مسألة "كوفيد-19" وما خلفته على الصعيد العالمي، ثم جاءت الحرب الروسية- الأوكرانية لتأتي بأوضاع اقتصادية صعبة من المنتظر أن تتفاقم إذا استمرت الحرب لتقود القارة الأوروبية إلى نتائج غير مسبوقة مع تفاقم أزمة الطاقة والتضخم، مع مخاطر أكبر نتاج التصعيد العسكري الذي ما زال خطره قائماً.

كما يأتي كل هذا في ظل خلفية أخرى يتواصل تبلورها في العقود الأخيرة، فالمملكة المتحدة التي تحولت بعد الحرب العالمية الثانية وحرب السويس 1956 إلى قوة كبرى وليست إمبراطورية مهيمنة واصلت التراجع البطيء من دون أن تفقد مكانتها المهمة خلال العقود الأخيرة من القرن الماضي بفضل قوة اقتصادها ونظامها السياسي ونجاحها في أن تضمن علاقة خاصة بواشنطن لم يتمتع بها حليف آخر، ولكنها مع علاقاتها المذبذبة بالاتحاد الأوروبي واستجابتها لإغراءات تيارات أميركية وبريطانية بالانسحاب من الاتحاد والاكتفاء ربما بمزيد من الاستغراق في لعب دور الحليف المساير دوماً لتوجهات واشنطن، التي كان من أبرز محطاتها السابقة دور حكومتها برئاسة توني بلير في تبرير غزو العراق الذي كان في ذاته أحد مقدمات تدهور الأوضاع بالمنطقة العربية والشرق الأوسط لصالح أطراف أخرى، وأيضاً خطوة أخرى في سياق تراجع مكانة الإمبراطورية لواشنطن ذاتها.

المهم أن مشهد الخروج البريطاني من الاتحاد الأوروبي، الذي لا يمثل قوة لبريطانيا المستقلة عن أوروبا بقدر ما قد يكون خصماً لمكانتها الدولية في ضوء تراجعها الاقتصادي جراء هذا الخروج، إضافة لكل الأبعاد التي ذكرناها قبل ذلك مضافاً إليها الصعود المتواصل لأطراف غير أوروبية، يأتي كله في هذا السياق الذي أفرز هذا الارتباك الأخير غير المسبوق، وإذا  كان من الصعب حتى الآن في ظل الصعوبات والسيولة الدولية والبريطانية الراهنة التيقن من قدرة رئيس الوزراء الجديد على انتشال بلاده من هذا الارتباك غير المسبوق، يظل التساؤل معلقاً عن تناقضات المشهد الراهن في المملكة المتحدة ما بين ما هو إيجابي وما هو سلبي وما إذا كان كله يصب في سياق مزيد من تآكل المكانة البريطانية.

المزيد من تحلیل