Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

أوروبا الملونة

خلال العقود الماضية بات الملونون يرتقون المناصب الحزبية والسياسية وأصبحوا قادة يتصدرون الأخبار وصورها

رئيس وزراء بريطانيا الجديد ريشي سوناك صاحب الأصول الهندية (أ ف ب)

"لقد تغير العالم منذ أيام كونراد وديكنز بطرق فاجأت، وكثيراً ما روعت، الأوروبيين والأميركيين الحواضريين، الذين يواجهون اليوم في عقر دارهم، جماهير كبيرة من المهاجرين غير البيض، ويواجهون قائمة دامغة الأثر من الأصوات التي اكتسبت القوة حديثاً، التي تطالب أن يستمع العالم إلى سردياتها"، هذا مما جاء في كتاب إدوارد سعيد "الثقافة والإمبريالية".

عند الأزمات بالخصوص كثيراً ما رجعت إلى إدوارد سعيد لأتبين الخيط الأسود من الأبيض فيما يخص الغرب، وبالذات الإمبريالي منه، مثل الإمبراطورية التي غربت عنها الشمس، ليس باعتبار إدوارد سعيد فيلسوف ما بعد الاستعمار فحسب، بل لأنه حتى الساعة ليس مثله أحد، عاش في الغرب، وكتب عنه بكثافة وباستقلالية مرجعيتها التنوير الغربي.

لقد رجعت إلى إدوار سعيد حينما تناقلت الأخبار أن المصرفي السابق ووزير المال ريشي سوناك (42 سنة) أصبح أصغر رئيس وزراء في التاريخ المعاصر للمملكة المتحدة، بعد ارتقاء سريع في السياسة، وهو أيضاً أول زعيم بريطاني من أصل هندي ومن مستعمرة بريطانية سابقة.

وقد علق على ذلك كريشنا كومار الموظف الهندي في قطاع تكنولوجيا المعلومات لوكالة الصحافة الفرنسية بالعاصمة نيودلهي "أنا سعيد جداً"، أضاف "المملكة المتحدة حكمت الهند 300 عام، والآن سيحكمها شخص من أصل هندي".

كنت كتبت مقالة في سنة 2009 عقب الفوز الساحق للأميركي الأفريقي باراك حسين أوباما (48 سنة) بانتخابات الرئاسة الأميركية، إن "أوباما أيقونة لن تغير السياسة الأميركية ذات المؤسسات المحافظة، حيث من طبيعة الدول الكبرى المحافظة، كما الإنسان في كبره وجبروته، لكن هذه الأيقونة هي سياسة التغيير ذاتها، لقد فتح الباب على مصراعيه".

وكنت وما زلت أعتقد أن الرأسمالية، كما لا وطن ولا دين لها، فإنها في الأزمات خصوصاً لا لون لها، فلقد جاء فوز أوباما الساحق عقب الأزمة المالية العالمية التي عصفت بالاقتصاد العالمي منذ عام 2007 وتجلت بشكل واضح في عام 2008، ما عد من أعنف الأزمات المالية العالمية منذ أزمة الكساد الكبير 1929-1933.

كان ذاك التغير الأهم والطارئ على العالم وقتها، العالم الذي دخل العصر السيبراني بقوة عاصفة، وفي غربه جماهير كبيرة من المهاجرين غير البيض من الأصوات التي اكتسبت القوة حديثاً، التي تطالب أن يستمع العالم إلى سردياتها.

إن أوروبا، وعلى رأسها بريطانيا العظمى، مقاومة للتلوين، لكن الأزمات كانت دائماً دافعها للاستعانة بما لا تريد ولا ترغب، فمثلاً عقب الحرب الأوروبية الكبرى الثانية اضطرت فرنسا لجلب عمالة من مستعمراتها السابقة، فيما فعلت ألمانيا ذلك بجلبها من تركيا، أما بريطانيا فقد جعلت الباب موارباً لهجرة مكثفة من تاج الإمبراطورية الهند وشرق أفريقيا واليمن.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

وفي إطار مقاومة التلوين دفعت هذه الهجرة الشرعية للسكن في أحياء على أطراف المدن، كما الغيتو اليهودي، وإن قامت أوروبا بنفي مواطنيها اليهود إلى فلسطين، فإنشاء دولة دينية لهم، فإن حاجتها الشديدة للمهاجرين الملونين جعلتهم يعيشون في دولة داخل الدولة، حيث ينقصهم كمواطنين من الدرجة الثانية كثير من الحقوق التي يقرها دستور وقوانين البلاد.

لكن هذا التسوير لم يمنع تسرب بعض الملونين في البدء من خلال ثقوبه ومداميكه الهشة إلى هوامش الدولة ثم عصبها، فكانت الرياضة وألعاب القوى منها، أول ما لونه المهاجرون ثم الثقافة والفنون، وتم ذلك بـ"المفرد بصيغة الجمع"، ما أخذ زمام المبادرة لقيادة نضال الملونين من أجل نيل حقوقهم.

وبالفعل والقوة دكوا حصون أوروبا المضادة للتلوين، مستعينين بالأزمات المطردة للرأسمالية في الغرب، الذي اعتاد على تلوين الملاعب الرياضية، فالمسارح ومن ثم البورصات فالقواعد الحزبية، ومن الشارع الملون بالقوة تلونت القواعد الحزبية بالفعل.

فخلال العقود الماضية بات الملونون يرتقون المناصب الحزبية والسياسية، حتى أصبح منهم قادة في كثير من المجالات فصاروا يتصدرون الأخبار وصورها.

أما التردد الذي شاب حزب المحافظين لتسليم ريشي سوناك زمام القيادة، فيبين خوار عجل القوى اليمينية العنصرية المقاومة للتلوين، بحيث أنها قدمت مسرحية "السيدة ليز تراس" الهزلية، التي كانت أقصر حكومة في تاريخ المملكة المتحدة، لم تستغرق أكثر من ستة أسابيع، إذ علقت عليها فوراً وزارة الخارجية الروسية، بالقول إن بريطانيا لم تشهد مثل هذا العار.

والسيدة ليز تراس أعربت في كتاب استقالتها عن مخاوف حيال سياسة الحكومة التي تتخلى، بحسب رأيها، عن وعودها لا سيما في ملف الهجرة، والمسألة الآن أن خليفتها مهاجر ملون.

بطبيعة الأمر لن يكون خيميائياً، وإذ لم يتمكن خيميائي من تحويل أي معدن إلى ذهب، فإن ريشي سوناك لن يجعل حزب المحافظين غير محافظين، ولا بريطانيا عظمى مرة ثانية، لكنه جعل في التو من بريطانيا اللوحة الملونة الأولى في أوروبا على مستوى المنصب الأول في الدولة، ما ليس بالهين.

المزيد من تحلیل