Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

موسيقى "الريغي"... أهازيج ألم لسعادة العالم

وثقت معاناة المجتمع الجامايكي الاستعمار وألهمت شباب الستينيات القتال من أجل الحقوق

سيطر أسطورة الريغي "بوب مارلي"  على مخيلة الناس للدرجة التي جعلتهم يقلدونه في لباسه الملون الشهير وطريقة تدخينه (أ ف ب)

برزت موسيقى "الريغي" داخل المشهد الموسيقي العالمي خلال ستينيات القرن العشرين. فهي مزيج من الشكل الغربي مع إيقاعات وأهازيج الموسيقى الأفريقية، ذلك أن شكلها الموسيقي يوحي بأنها أفريقية الطابع، وتتميز بالعراقة والإيقاع البطيء غير المندفع كما هي الحال مع موسيقى "الهاوس" أو "التيكنو"، كونها موسيقى شعبية طورها المجتمع الجامايكي لتتحول خلال الستينيات إلى وسيلة من وسائل المقاومة الأيديولوجية، حيث غدا الثوار يستخدمونها في المنطقة الكاريبية الأفريقية من أجل الدفاع عن حقوق الإنسان والحرية والسلم والعدالة والكرامة.

على رغم ظهور هذا اللون الموسيقي في جامايكا فإن تأثره بنماذج الموسيقى الشعبية الأميركية لا يخفى، حيث غدا الفنانون الجامايكيون يدمجونها مع أنواع موسيقية أخرى مثل الجاز والبلوز، كما يبدو تأثرها واضحاً بموسيقى "السكا" (Ska) التي نشأت هي الأخرى في جامايكا منذ خمسينيات القرن الماضي، لكن مع بعض الفوارق الصغيرة على مستوى الآلات الموسيقية وإيقاعاتها وميكانيزمات استخدامها من مقطع موسيقي إلى آخر.

نغم الأحياء الفقيرة

تعتبر موسيقي "الريغي" شكلاً من أشكال التعبير عن الذات والثورات الاجتماعية والأحداث السياسية التي تمثل منطلقاً أساسياً لتفجرها خلال الستينيات، وقد قادها هذا الملمح الثوري إلى غزو العالم عبر المذياع لتصبح الموسيقى الشعبية الأكثر استماعاً ورواجاً في أميركا وخارجها. وتعد مرحلة السبعينيات بمثابة مرحلة ذهبية لها، حيث لجأ عديد من الفرق الغنائية إلى السير على منوالها نظراً إلى السحر الذي مارسه أسطورتها المغني والعازف الجامايكي روبرت نيستا مارلي الملقب بـ"بوب مارلي" (1945-1981) على مخيلة الناس، للدرجة التي جعلتهم يقلدونه في لباسه الملون الشهير وطريقة تدخينه "الماريجوانا" التي تعتبر بمثابة طقس ضروري للوصول إلى مرحلة الإبداع في الديانة الراستافارية، هذا الأمر دفع الناشط الحقوقي الأميركي إلى القول "حيثما ذهبت، وجدت بوب مارلي رمزاً للحرية".

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

لقد شكلت موسيقي "السكا" الشعبية الجامايكية منطلقاً كبيراً لتأسيس "الريغي". فهي تعتمد في إيقاعها الموسيقي على الأرغنات والطبول والغيتارات الكهربائية، لكن بشكل بطيء وثقيل يختلف بشكل كلي عن الموسيقي الأفريقية. لهذا يعتبر نقاد الفن أن موسيقى "الريغي" لا يكاد المرء يعثر على نموذجها داخل الموسيقى الآسيوية. والحقيقة أنه لم يكن لهذه الموسيقى أن تظهر لولا السياق التاريخي للستينيات، الذي كان يفرض مشاركة عديد من الموسيقيين الجامايكيين في عملية إنتاج موسيقى تساند الحركات الثورية والاجتماعية في العالم. لا سيما أن انطلاق "الريغي" تزامن مع طرد المستعمر البريطاني وحصول جامايكا على استقلالها عام 1962.

هكذا حاربت الموسيقى العبودية ووثقت آلام المجتمع الجامايكي في سبيل تحقيق الحرية والقضاء على الفقر والظلم، بعد أن انطلقت موسيقى "الريغي" من أحياء ومدن جامايكا الفقيرة واكتسحت العالم بأكمله من أجل مكافحة الرق والعنصرية بخاصة داخل بعض المدن الأميركية التي تأثرت بهذه الموسيقى، وغدت في مرحلة لاحقة نموذجاً مصغراً لكثير من الموسيقيين الجامايكيين من أجل تحقيق الشهرة في العالم.

تقول الحقوقية الجامايكية كارول سمسون "بطريقة ما كانت موسيقى الريغي الموسيقى التي نتجت عن هذا النضال مثل حركة تمرد. وكانت الصوت الوحيد الذي يمتلكه الناس بحكم أن عديداً من الأشخاص عانوا الحرمان والتهميش والتمييز. وقد مثلت هذه الموسيقى رسالة مشتركة بأن ننعم جميعاً بالسلام والحب، لكن في الوقت نفسه تذكرنا هذه الموسيقى بأن الصراع مستمر وأن علينا أن نقاتل من أجل حقوقنا الإنسانية".

ثورة الشكل الموسيقي

تعتبر موسيقى "السكا" النقيض الإيقاعي لموسيقى "الريغي"، على رغم أن هذه الأخيرة مشتقة منها فإن عملية التطور الموسيقي، كما أراد لها بعض المنتجين الموسيقيين الجامايكيين، قادت "الريغي" صوب إنتاج إيقاع ثقيل يحاكي في سلاسته الموسيقية النظام الاجتماعي البطيء الذي يميز جامايكا، وتعد "الريغي" من الأنماط الموسيقية العالمية التي تمزج بين الموسيقى والغناء والرقص كونها تعبيراً فنياً شعبياً يجعل المستمع يتماهى مع الكلمات والأنغام.

لقد كانت "الريغي" في بداية الأمر تعبر عن الفراغ المهول والتصدع الاجتماعي الذي عاناه البلد بعد خروج بريطانيا. وهو ما ظلت تعبر عنه أغاني بيتر توش وجيمي كليف وبوب مارلي في علاقتها بالاحتقار والمذلة والظلم والاستبداد، لكنها انطلقت صوب موضوعات تتعلق بالسلام والحب والصداقة والمقاومة.

يقول الخبير الموسيقي جيرمي كروبو داجين في هذا السياق "مع مرور الوقت بدأ مواطنو جامايكا في الشعور بخيبة الأمل لأنه لم يتغير شيء: الفقر والظلم لم يتغيرا، هذا الشعور أدى إلى مولد موسيقى (الريغي) في أواخر ستينيات القرن العشرين (الريغي) هي مرآة للثقافة والتاريخ في جامايكا لأنها تعكس بوضوح هذه الثقافة والتاريخ. فعندما تسمع أغانيها تتعلم أموراً في شأن العبودية والاستعمار والظلم الاجتماعي والعنف والتقسيم العرقي وحركة الراستافارية".

ونظراً إلى هذه المكانة المرموقة التي تنزلتها موسيقى "الريغي" في نفوس الناس فقد تم تصنيفها عام 1985 وبشكل خاص ضمن جوائز "الغرامي" العريقة، حيث أدرج أفضل ألبوم لموسيقى "الريغي"، كما حصلت هذه الموسيقى على اعتراف دولي ومؤسساتي رسمي بعد أن تم إدراجها ضمن قائمة التراث الثقافي غير المادي لمنظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة (اليونيسكو) عام 2018.

بوب مارلي سفيراً

يعتبر بوب مارلي ملك موسيقى "الريغي" لما حققه هذا الموسيقي الاستثنائي في مدة قصيرة من حياته بعد هجرته صوب أميركا، حيث تعرف إلى مجموعة من المنتجين الموسيقيين الذين أحبوا شخصيته البسيطة وتطلعه الدائم صوب قيم العدالة والحرية والمساواة.

هكذا تم التعاقد معه في بداية الأمر للتعريف بموسيقي "الريغي" وإيقاعاتها الموسيقية المختلفة بالنسبة إلى المواطن الأميركي. يقول المؤرخ الفني والعارف بموسيقى "الريغي" مارك إسماعيل "بوب مارلي ولد بعد النهاية الرسمية للعبودية، لكن بالنسبة إليه العبودية لم تنته، أي إننا لم نعد نرى سلاسل معدنية ولكنها لا تزال موجودة بأشكال مختلفة في الفكر وطريقة التعبير. وهذا أسوأ أشكال العبودية، بالتالي فهي قد تكون موجودة في كل واحد فينا".

على رغم تعرضه لكثير من الانتقادات من طرف العنصريين البيض خلال عديد من السهرات التي أقامها في أميركا والسويد ولندن، فإن إيمانه الشديد بضرورة تحقيق حلمه الموسيقى من خلال "الريغي" بعيداً من جامايكا الفقيرة، جعله يكافح لتحقيق ذلك، إذ سرعان ما وجد نفسه يبزغ هنا وهناك بسبب نشاطه الموسيقي المكثف ومواقفه السياسية القوية، بخاصة حين يتعلق الأمر بالوحدة الأفريقية.

وفي الوقت الذي غدا فيه صاحب "الحب واحد" سفيراً للموسيقى الأفريقية وملكاً لموسيقى "الريغي" في العالم تلقى الفنان كثيراً من الانتقادات من بعض المتطرفين داخل المدن الجامايكية بدعوى أنه قد تخلى عن وطنه وجذوره وثقافته، نظراً إلى المكانة التي حظيت بها "الريغي" في العالم، حيث بدأت تتوهج وتستخدم داخل أنماط موسيقية غربية في سياق البحث عن حداثة موسيقية كونية بدأت منذ منتصف سبعينيات القرن الـ20.

"الريغي" عربياً

إذا استثنينا بعض النماذج الغنائية العربية القليلة التي دمجت "الريغي" في أغانيها. يكاد المرء لا يعثر إلا على نماذج قليلة من الإنتاج العربي حولها. ويقول بعض المتخصصين في الموسيقى إنه ينبغي التمييز بين نمطين في الاستخدام: الأول له علاقة أساساً بفرق غنائية عربية تحاكي في أعمالها الفنية موسيقى "الريغي" كما هي الحال مع فرقة "نشاز" التونسية التي ظهرت من أواخر التسعينيات، وتعنى بمزج بعض أنماط الموسيقى الأفريقية مع شكل تأليف يأخذ طابعاً تونسياً، كنوع من التجريب الموسيقي. وهي الحال نفسها أيضاً مع فرقة "توت أرض" من الجولان السوري.

اعتمدت هذه الفرق الغنائية على استلهام "الريغي" وجعلها أسلوباً موسيقياً يظلل سيرتها في خيال المستمع. أي إن هذه الموسيقى تحضر كأسلوب يميز الفرقة ويصنفها ضمن هذا اللون الموسيقي عن الآخر، ثم نعثر أيضاً على فرقة "راستا بيروت" اللبنانية التي أسست منذ عام 2008 وبرز اهتمامها بهذا اللون الموسيقي باللغة الإنجليزية، حيث تعرف إليها المستمع انطلاقاً من مشاركتها بخليج "السان جورج" الذي يعرف كملتقى ضخم لهذا اللون الموسيقي في لبنان.

أما النمط الثاني فيتعلق في نظر المتخصصين بأغان عربية استلهمت نماذج صغيرة من "الريغي" وأعادت توظيفها موسيقياً، حيث جاء ذلك في مرحلة التجريب الموسيقي التي عرفها العالم العربي خلال جولات بعض المغنين في العالم وتفكيرهم في استحداث أغانيهم عبر الانفتاح على حداثة الآلة الغربية. ونعثر على هذه النماذج مع فرقة "ترابيت" من لبنان، والمغني محمد منير من مصر، وفرقة "أوتوستراد" من الأردن التي تشكلت عام 2007، ثم مع المغنية الجزائرية سعاد ماسي التي مزجت في بعض أغانيها موسيقى "الريغي" بـ"الفولك" و"الجاز" بـ"الكاونتري" مع الاحتفاظ بكلمات عربية مستمدة من اللغة المحكية في الجزائر.

المزيد من ثقافة