Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

المزود... من "نشيد للسجون" إلى الفن الشعبي الأول في تونس

أُقصي من البرامج الإذاعية والتلفزيونية بسبب نسبه إلى المجرمين

تونسي يعزف على المزود وآخر يدق على الطبل (اندبندنت عربية)

بعد إقصائه من التلفزيون والإذاعات والمهرجانات لعقود إثر قرار سياسي نظراً إلى جذوره الضاربة في السجون ومواضيعه المتعلّقة بآلام الطبقات الفقيرة والمهمشة بأحياء تونس، يعيش "المزود" وهو الفن الشعبي الأول في تونس فترة من الانتعاشة غير مسبوقة فبات مادةً تجلب النجاح في الأعمال الدرامية والبرامج التلفزيونية وفي المهرجانات الكبرى وحتى الأفلام الوثائقية والبحوث الموسيقية، بل أصبح "المزود" من الفنون المرغوبة بشدة نظراً إلى تطوره من ناحية الكلمة والصورة والعروض. وغنى أشهر الفنانون التونسيون والعرب أغاني مزود على غرار الفنان لطفي بوشناق وأمينة فاخت، كما أدى الثنائي راشد الماجد وأسماء لمنور أغنية "خاينة" وهي في الأصل أغنية مزود تونسية.
ويقول بعض المهتمين بالساحة الفنية في تونس إن الرئيس التونسي السابق الحبيب بورقيبة منع دخول "المزود" إلى وسائل الإعلام الرسمية من إذاعة وتلفزيون، فطيلة فترة حكمه بين عامي 1956 و1987 لم يكن ممكناً برمجة أغنية شعبية من نوع "المزود" ضمن البرامج الإذاعية والتلفزيونية.

"ارضى علينا يا بورقيبة"

وبحسب رواية الفنان الشعبي صالح الفرزيط، فإن أغنيته "ارضى علينا يا لمّيمة" التي تحوّلت إلى نشيد للمظلومين داخل السجون التونسية أزعج الرئيس الحبيب بورقيبة وتسببت بمنع هذا الفن نهائياً في كل الفضاءات الإعلامية وفي المهرجانات الرسمية.
وأبصرت أغنية "أرضى علينا يا لمّيمة" والتي هي في الأصل "ارضى علينا يا بورقيبة" النور في السجن عام 1976، وعبّرت عن ألم مؤلفها بعدما حُبس ظلماً لمجرّد أنه اعترض على ظلم أحد الضباط.
ويرى الصحافي المختص بالشأن الثقافي عبد الجليل الصمراني أن بورقيبة منع المزود لسببين، أولهما لأنه فن الطبقة المهمشة والمنبوذة اجتماعياً والمساجين أي" البانديّة" كما يُقال باللهجة العامية التونسية أو "الفتوّات" في المشرق العربي.
ويشرح الصمراني "إذ نجد في كلمات المزود إيحاءات على الغضب وعدم الرضا". ومُنع هذا الفن نظراً إلى جذوره التي يقول الصمراني إنها "أنغلوساكسونية"، موضحاً أن آلة المزود هي آلة من أصول اسكتلندية وأن بورقيبة بثقافته الفرنسية يمنع أي شيء يأتي من ثقافة مغايرة، إلا أن الفنان الشعبي الأول في تونس الهادي حبوبة يقول، إنه "كان يسمع بأن المزود ممنوع بأمر من إدارة الإذاعة التونسية، لسبب غير مفهوم".
واستبعد حبوبة أن يكون بورقيبة وراء ذلك المنع، بخاصة أنه كان يُستدعى من قبل الأخير إلى قصر قرطاج الرئاسي وإلى منزله الخاص، إلى جانب أشهر راقصتين شعبيتين "زينة وعزيزة"، لإحياء حفلات "مزود" على شرف الضيوف والوفود الأجانب". ويقول حبوبة في إحدى تصريحاته الإعلامية، إن النظرة الاجتماعية لـ "المزود" كانت سيئة في أواخر الخمسينيات، وأن "الزندالي" الذي يعني الفن الشعبي الصادر عن السجون زاد الطين بلة، وأصبح المزود مكروهاً اجتماعياً لأنه نُسب إلى المجرمين.

النوبة

و"الزندالي" هو تعبير موسيقي سجني ينتجه "البانديّة" (الفتوّات) داخل السجون. وكان هذا الفن مقصياً من الحياة الثقافية في تونس سابقاً لأسباب سياسيّة واجتماعية، باعتباره فناً رديئاً أو لأنه يثير أشجان الطبقة الفقيرة، كما أن فن الزندالي الذي هو في الأصل يعتمد على "المزود" يُغنى في الجلسات الخمرية، ما زاد من ازدرائه اجتماعياً. إلا أن النظرة السيئة للفن الشعبي الأول في تونس تغيرت بعض الشيء، على الرغم من رفضه اجتماعياً في بعض الأوساط.

ويقول الطالب في الثانوية بهاء الوسلاتي (17 سنة)، إن عائلته رفضت في البداية ممارسته للمزود اعتقاداً منها أن هذا الفن يرتبط بالجلسات الخمرية وبفتوّات الحي، إلا أن بعد احترافه لهذا الفن لدرجة أصبح معها عملاً يمارسه في العطل المدرسية اقتنعت عائلة بهاء بحب ابنها لهذه الموسيقى الشعبية.
كما عرف فن المزود انتشاراً من نوع آخر، إذ شكّل موضوعاً لأشهر مسلسل رمضاني هذه السنة في تونس، وهو مسلسل "النوبة" لعبد الحميد بوشناق، الذي عرض فيها أحداث تحضير أكبر عرض للنوبة برؤية درامية. وتُعتبر النوبة التي قُدمت في صيف عام 1991 على مسرح قرطاج، حدثاً فنياً إبداعياً استثنائياً، إذ إنها المرة الأولى التي يتم فيها تجميع أقطاب الأغنية البدوية والشعبية في سهرة برؤية جديدة.

 

 
 
"المزوج"
 
ظهرت آلة المزود في تونس بعدما أحضرها البدو الرحل الذين قدموا في بدايات القرن الـ20 من الجزائر ومن ليبيا، فكانت هذه الآلة مرافقة للكادحين في محافلهم وسهراتهم لتنسيهم همومهم وتساعدهم على التعبير عن غضبهم وحزنهم وفرحهم. ثم تطور هذا الفن عبر الوقت وأصبح الفن الشعبي الأول في تونس، ليستهوي كل التونسيين مهما اختلفت أعمارهم أو طبقاتهم الاجتماعية وحتى الثقافية والفكرية.  واكتسب هذا الفن اسمه من آلة "المزود" وفي الأصل مزوج (أي ثنائي)، وذلك نسبةً إلى القرنين في أعلى الآلة التي تصنع من جلد الماعز مع قصبة في الأسفل فيها خمس أو ست فتحات.
كما تضم آلة المزود كيساً مصنوعاً من الجلد، وهي آلة هوائية ينفخ فيها العازف بواسطة مزمار، كما تحتوي الآلة على مزامير أخرى تأخذ الهواء لإخراج صوت بعد الضغط على الكيس أو "القربة" كما تُسمى في تونس.

 

 
 الربوخ

السهرات التي تقدمها فرق "المزود" في تونس يطلق عليها شعبياً تسمية "الرّبوخ". أما المواضيع التي تتطرق إليها هذه الفرق في أغانيها، فهي الشعور بالحرمان والإقصاء والاغتراب في فضاء المدينة، إلى جانب بُعد الحبيبة والتغني بصورة الأم الحنون ومواضيع الهجرة وغيرها. وتمتاز أغاني المزاودية ببنية لحنية تتكرر مرات عدة وبإيقاعات شعبية سريعة وراقصة من أهمها "الغيطة" و"الفزاني" بأنواعه و"البونوارة" و"المربع تونسي" و"البوزيكا" على الطريقة الشعبية. هذا وتتضمن حفلات المزاودية في بعض الأحيان نوبات زيارات الأولياء الصالحين كالسيدة المنوبية وسيدي محرز وسيدي بلحسن وغيرهم. ومن أشهر المغنين في تونس في هذا النمط الموسيقي الشعبي، نذكر خصوصاً الهادي حبوبة، الذي هو أول من سجّل شريطاً وصالح الفرزيط ونور الدين الكحلاوي وسمير الوصيف وغيرهم من الجيل الجديد.

يتكون تخت فرق "المزاودية" من مجموعة آلات إيقاعية شعبية، كالدف والطبلة والدربوكة إلى جانب آلة المزود وهي الأساس. يتم تعلم العزف على هذه الآلات بصفة تلقائية وعن طريق المشافهة والسماع والعيش في الإطار الاجتماعي الذي تمارَس فيه هذه الآلة بخاصة في الأحياء الشعبية المتاخمة للمدن.
اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة