Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

عبده خال يحول الحبل السري إلى سجن رمزي

في رواية "وشائج ماء" يروي حكايات عن بشر ومعتقدات وصراعات

لوحة للرسامة السعودية زهور المنديل (صفحة الرسامة - فيسبوك)

"وشائج ماء" رواية الكاتب السعودي عبده خال الجديدة (دار الساقي، 2022) كانت تحمل في الأصل عنواناً آخر هو "حبل سري"، ثم تمّ تغييره نظراً إلى وجود أعمال روائية عربية أخرى تحمل العنوان نفسه. ويكتشف قارئ هذه الرواية أن العنوانين ملائمان كلاهما تمام الملاءمة، للحبكة ولتطور الأحداث، فالمصائب كلها تبدأ من الحبل السري، من النطفة، من نقطة الماء التي تجلب المرء إلى هذه الحياة "الكارثية".

بعيداً من مسألة أسباب تغيير العنوان، يبدو العنوان الجديد على شيء من الغموض والتعقيد، مقارنة بالعنوان الأول، لتضيف إليه لوحة الغلاف العائدة للفنان الأميركي دان ماكاو لمسة ضبابية. وقد اختار عبده خال أن يطرق في روايته هذه مسائل متعددة منها، ديناميات عائلية وعلاقات حب وأخوة وبنوة، تربط ما بين الشخصيات، ضمن جو من التصوف النقشبندي والإيمان بمعتقدات وروحانيات خاصة بالعائلة التي يتابعها السرد.

يفتتح الكاتب سرده بوفاة أحد أولياء الله الصالحين أو "الرجل المبارك" محمد الخضر مؤسس حضرة صوفية، لترداد الأوراد والأذكار والأناشيد في حب الله، بحسب الطريقة النقشبندية. فتتسلسل الأحداث في سرد يمتد على ما يربو على الـ260 صفحة يكتشف القارئ فيها، أن شخصية الولي الخضر الذي تفتتح لحظة موته السرد، ما هو إلا نقطة انطلاق لأحداث ويتعداه السرد ليرافق سلالته من دون التوقف عند حياته بتفاصيلها.

تعدد الأصوات الروائية

معظم فصول الرواية، يرويها أمين. وأمين هو الراوي الأساسي للنص وهو الذي يكتشف القارئ عبر عينيه، صلات القرابة بين الشخصيات، كما يكتشف خصالها وتاريخها وطباعها. أما أمين في شجرة عائلة الولي المتوفى محمد الخضر، فهو ابن أروى بنت حليمة بنت ولي الله. أي إن أمين هو حفيد حليمة ابنة الرجل المبارك والمرأة التي تحرك السرد وتحافظ على العائلة وتنظم شؤونها وتحرص على حماية إرث الولي واسمه وقبره.

لكن الجديد في هذه الفصول هو أنها ليست متتابعة بل متداخلة وكأنها علبة تحوي علباً سردية داخلها، يفتحها القارئ بشكل لولبي ويتعمق فيها ضمن إطار الرواية الأولى التي يرويها أمين، في ما شاءه الكاتب ربما لعبة سردية غير متوقعة. فبعد الفصل الـ51 ينتقل السرد إلى شخصية امرأة هي طاهرة، التي تصبح هي الساردة والممسكة بزمام الأحداث. فيرافقها القارئ على مدار خمسة فصول ليعود من بعدها ليكمل الرواية الأولى التي يسردها أمين. يكمل هذا الأخير السرد في الفصل الـ52 ليعود فيتوقف لـ14 فصلاً ويسلم السرد لشخصية جديدة هي عمته سمية. 14 فصلاً قصيراً موجزاً يكتشف فيها القارئ شخصية سمية عمة أمين، قبل أن تنتهي الرواية بالفصلين 53 و54 اللذين يعيدان مهمة السرد إلى أمين. تصبح المعادلة كالآتي: أمين يروي الفصول 1-51، من بعده طاهرة تروي خمسة فصول، يعود أمين ويروي الفصل 52، سمية تروي 14  فصلاً لينهي أمين السرد ويروي الفصلين الأخيرين: الفصل 53 والفصل 54. فيكون مجمل الفصول التي رواها أمين 54 وهي أغلبية الفصول وتلك المؤطرة للسرد، تأتي من بعده سمية التي تروي 14 فصلاً داخل السرد ثم طاهرة التي تروي خمسة فصول فقط.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

قد يكون لهذا التركيب مغزى مبرر يؤوله القارئ ويفهمه بحسب معرفته ورؤيته الشخصية للسرد، لكن الغريب هو أن الفصول 25 و27 و28 هي فصول لا يرويها أمين بضمير المتكلم بل يختار الكاتب أن يروي أحداثها من خارج هذه الشخصية موظفاً ضمير الغائب. فأمين الذي يتحدث طيلة السرد مستعملاً ضمير "أنا"، يصبح في هذه الفصول الثلاثة فقط مجرد شخصية يتناولها السرد من بعيد، من دون سبب واضح أو منطقي. فلماذا هذا الاختلاف في الصوت الروائي؟ وهل هذا الاختلاف في توظيف الضمائر حدث عن هفوة أو عن رغبة نجهلها؟

عنصر الماء

منذ العنوان يتوقع القارئ أن يقع على حضور بارز لعنصر الماء ضمن السرد وهو ما يحصل تماماً، فيوظف عبده خال بوضوح وبكثرة، عنصر الماء الذي كرس له الفيلسوف والناقد الفرنسي غاستون باشلار كتاباً  هو "الماء والاحلام" إضافة الى نصوص اخرى، شارحاً فيها رمزيته وتأويلاته. وتتأرجح رمزية الماء على صفحات هذه الرواية بين الخير والشر، فتارة يكون الماء رمز الرزق والحياة والشفاء، وطوراً رمز الشر والشقاء والأذى.

 تكثر الرجعات إلى عنصر الماء بشكل باهر وبارز منذ بداية النص، فولي الله الصالح الذي يكون على فراش الموت تناديه ابنته حليمة قائلة "لماذا الإصرار على الرحيل يا ماء الدنيا" (ص: 12). أما مشهد ولادة الراوي أمين في بداية الرواية فهو مشهد قائم بأكمله على عنصر الماء وعلى المرادفات الخاصة بالبحر والسفن والإبحار (ص27). ويبقى أن الأب يرمي بسرة ابنته في البحر ليستجلب لها حياة رغيدة: "أخبرتها أن أباها قذف بسرتها في مياه البحر. ولطالما قال لها إن من يستأمن المياه على وليده يمنحه الرزق الوفير علماً ومالاً". (ص: 54).

لكن الماء من ناحية أخرى هو مصدر الشر. الماء أو النطفة التي تكون أساس البشر والأسر هي نفسها أساس الشر: "نطف ماء تغدو وحوشاً كاسرة" (ص: 44) وهو ما يبدو جلياً في النهاية التي تبلغها الراويتان، طاهرة وسمية، والدتان تنالان نهايتين حزينتين بسبب ولديهما.

المرأة الأم والمعشوقة

اللافت في هذه الرواية أن الكاتب يقدم نماذج مختلفة للمرأة تشترك في أنها تجسد صورة امرأة قوية حرة حاسمة، قادرة على اتخاذ القرارات المناسبة لها ولعائلتها. فيقدم عبده خال أولاً حليمة ابنة الولي القوية الحازمة المتمسكة بمعتقداتها وطقوسها التي تحرك السرد بأكمله. أما النموذج الثاني للمرأة، فتمثله لمياء الحبيبة المعشوقة المتمنعة المترفعة الفنانة، التي تحدد حجم العلاقة بأمين وآفاقها. أما النموذج الثالث للمرأة فتمثله سمية، عمة أمين، المرأة الجميلة الحرة المزواج التي تتحكم بحياتها وبرجالها وبقلبها بحسب ما تراه مناسباً. واللافت في هذه الرواية هو أنه بقدر ما يقع القارئ على قوة وعزيمة في النساء، يجد أنهن يبقين أسيرات الرجل. فحليمة سجينة قبر والدها الولي ومعتقداته التي تؤطر حياتها وتوجهها. لمياء هي سجينة زوجها الذي يتحكم بها ويحرضها ضد والدتها. أما سمية فهي ضحية المجتمع المتزمت والذكورية المتعنتة. وكأن عبده خال الذي يقدم نماذج نساء قويات محركات للأحداث يترك زمام الأمور في نهاية المطاف بأيدي الرجال وإن كانوا غائبين (هجروا نساءهم أو غادروا الحياة).

وشائج وحبال

"الحبل السري هو دمغة الحياة، وهبنا إياه، وبقي أثراً لا يمحى، بقي جاسوساً يتربص بنا، وربما كانت به معادلتنا الرياضية المشفرة". (ص: 31). تتجلى مأساة الراوي في هذا النص في أنه حفيد ولي من أولياء الله الصالحين، وبالتالي يصبح محكوماً بهذا الرابط العائلي الذي ولد معه، يصبح محكوماً بالحبل السري الذي يشد العائلة في اتجاه إجباري معين، ويسيّر حياته من دون أن يستطيع شيئاً، فيقول الراوي لنفسه: "لا تستهن بمعتقدات الناس، فهي حبل يلتف حول عنقك وإن لم تدرك. أيقنت هذا حين وجدت أن الحبل السري المقدس يطوق حياتي من المبتدأ". (ص: 30).

"وشائج ماء" هي رواية حبل سري، هي رواية شخصيات عالقة في سجونها. وتتعدد السجون والأسر واحد: سجن العائلة، سجن الحبل السري، سجن الماضي، سجن الرجل، سجن المجتمع، سجن المعتقدات، سجن الأم، سجن الآخرين، وأخيراً سجن الحياة القاسي.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة