منذ عام 2007، تعاني المستشفيات والمراكز الصحية التابعة لوزارة الصحة في غزة أزمات متتالية ومركبة، لكن أخطر تلك المشاكل تتمثل في نقص الأطباء المتخصصين. ما ينعكس سلبياً على حياة المرضى في ظل تزايد أعدادهم.
وفي غزة التي تعد أكثر المناطق عرضة للصراع الدموي وفي أي لحظة يمكن أن يندلع فيها قتال يُخلّف قتلى وإصابات، يخدم 1500 طبيب فقط جميع سكان القطاع الذين يزيد عددهم عن 2.3 مليون نسمة.
هجرة عالية
وبحسب معايير منظمة الصحة العالمية، فإنه يجب أن يخدم كل ألف نسمة أربعة أطباء متخصصين، لكن في غزة يعد ذلك الأمر مستحيلاً، فالمدينة تعاني من الأساس من نقص حاد في الكوادر الطبية، نتيجة تزايد هجرة العاملين الصحيين من القطاع بعدما ضاقت بهم المستشفيات، فضلاً عن ارتفاع رغبة خريجي كليات الطب العمل في خارج القطاع الذي لا يوفر لهم أدنى المتطلبات.
في الواقع، هجرة الكوادر الطبية من غزة ليست بالأزمة الحديثة، إذ بدأت عام 2007، عقب سيطرة حركة "حماس" على سدة الحكم، لكنها شهدت ارتفاعاً حاداً خلال السنوات الخمس الماضية، ما أدى إلى وجود نقص حاد في أعداد الأطباء داخل القطاع، وبحسب المعلومات المتوافرة، فإنه خلال عام 2019 غادر غزة ما يزيد عن 100 طبيب، وفي عام 2018 غادر القطاع 120 طبيباً من أمهر العاملين الصحيين، وشهد عام 2017 هجرة 93 طبيباً.
وتوقفت مغادرة الأطباء من غزة خلال عامي 2020 و2021 نتيجة تفشي فيروس كورونا، وفرض كثير من الدول قيوداً مشددة على حركة المسافرين، لكن حركة سفر الأطباء من القطاع عادت للظهور خلال العام الحالي.
أسباب الهجرة
يقول الطبيب فؤاد خراز المتخصص في التخدير، والذي هاجر من غزة نحو السويد قبل ثلاثة أعوام، إن مغادرته القطاع كانت الخطوة الأهم في حياته العملية، وجاءت بحثاً عن تقدير لمكانته العلمية التي وصل إليها، وعن فرص عمل أفضل. وأسهمت في نقله إلى حياة جديدة يصفها بالمثالية.
يضيف "في غزة لا يوجد اهتمام بالكوادر الطبية، ولا توجد عدالة داخل المشافي، ولا أمان وظيفياً، ولا يوجد حقوق عمل لساعات العمل الإضافية والمناوبة، وكنت لا أمنح إجازات، فضلاً عن ضعف الرواتب، وكثرة الالتزامات".
وبحسب خراز، فإن مشكلة هجرة الأطباء في غزة مقسمة لسببين، الأولى ضعف الرواتب، فالعامل الصحي الذي يتعامل يومياً مع حالات مصابة بأسلحة إسرائيلية لا يجد من يؤمن حياته الأساسية، وبات يتقاضى فتات الراتب، لذلك يبحث عن فرص أفضل خارحج المدينة المنهكة.
ويكمن السبب الثاني وفق خراز، في ضعف إمكانية البحث العلمي والتطور في ظل الحصار الذي يمنعهم من التواصل مع العالم الخارجي، إذ لا يمكنهم السفر للمشاركة في المؤتمرات العلمية التي يحتاجون إليها كي يتماشوا مع التطور الطبي.
انعكاسات الهجرة
يتقاضى العاملون الصحيون في مؤسسات السلطة الفلسطينية في غزة نحو 80 في المئة من رواتبهم الأساسية، ولا يحصلون على حقوق مالية ولا علاوات ولا بدل مخاطرة، فيما تحصل الكوادر الصحية التي وظفتها حكومة غزة على 60 في المئة من قيمة رواتبهم، ويعملون بلا أيّ حقوق مالية.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وخلال السنوات الماضية، هجر مستشفيات غزة أطباء من أهم التخصصات في العظام والمخ والقلب والجراحة والتخدير. ما عقد المشهد الطبي المتهالك وأصابه بأزمة حقيقية، إذ تهدد هذه الأزمة بإغلاق كثير من الأقسام الطبية الحساسة في المستشفيات. ولتفادي ذلك اتبعت وزارة الصحة في القطاع نظام جدولة مواعيد العمليات وبعضها محجوز له حتى ثلاث سنوات مقبلة.
يقول الطبيب بكر أبو صفية إن "هجرة كفاءات صحية من القطاع يقرع جرس الإنذار، والمريض ضحية النظام الصحي المتهالك، لذلك نرى أنه خلال السنوات الماضية تزايدت أعداد التحويلات الطبية، وهذا نتيجة نقص الكوادر نتيجة هجرة الأطباء، كما أنه ضمن الآثار المترتبة على هذه المشكلة بات المريض ينتظر أشهراً أو سنوات حتى تجرى له عملية جراحية، في غزة أزمة كوادر صحية والجميع يتحدث عنها من دون أي حلول".
السفر للخارج لأسباب ضرورية ليس هجرة
وعلى رغم هذه المشكلة فإنّ عميد كلية الطب في الجامعة الإسلامية فضل نعيم يقلل منها، ويقول "هجرة الأطباء حدث مضخم، لأن الجامعات في غزة تعمل على تخريج 100 طالب من كليات الطب سنوياً، لكن لا يجدون فرص عمل أمامهم، وهذا يدفعهم إلى مغادرة البلاد بحثاُ عن فرص عمل، علماً أنهم لو وجدوا فرصاً لخدموا في القطاع".
في المقابل، ينفي المدير العام للمستشفيات في وزارة الصحة في غزة محمد زقوت وجود هجرة أطباء مختصين بشكل لافت، ويقول إن لم يمر علينا سوى حالتين أو ثلاث، وهو أمر طبيعي جداً، لكن بعض الزملاء ممن وصلت أعمارهم فوق الـ 50، قرروا بسبب ارتباطات خارجية وعائلية أن يخرجوا من البلاد. وهذا أمر لا يعني أن الأطباء المميزين الكبار برمجوا أنفسهم الآن للهجرة".
وبحسب المعلومات، فإن وزارة الصحة في غزة أصدرت تعليمات تمنع فيها الأطباء من السفر لخارج غزة إلا في حالات الضرورة القصوى، حول ذلك يوضح زقوت أن السبب في ذلك خوف الوزارة من تطور الأحداث السياسية وصولاً إلى تصعيدات أو حروب دون وجود أولئك الأطباء.