الفلسفة العربية
في كتابه "تاريخ الفلسفة الغربية" تطرَّق راسل إلى الفلسفة العربية والدور العربي الإسلامي، وخصص فصلاً صغيراً عنوّنه بـ"الثقافة المحمديَّة والفلسفة"، استعرض فيه بإيجاز شديد تاريخ حضارة العرب الإسلامية.
ورغم الغبن الواضح في هذا السرد المختصر، فإن علينا أن نتفهّم أن أصل الموضوع يبحث في الفلسفة الغربية عبر تاريخها، كما أن راسل كتب بكل شفافية، قائلاً "الحضارة المحمديَّة في أعظم أيامها كانت رائعة"، وكذلك أشار راسل إلى الإيجابيات الفكريَّة والعلميَّة في الدور العربي الإسلامي بتلك الحقبة من الزمن، لكنه يرى أيضاً أنها "لم تظهر المقدرة على التفكير المستقل للمسائل النظرية". (الطبعة الإنجليزية، 1984).
وإذا كان راسل غالباً ما يكرر كلمة "المحمديَّة"، بدلاً من كلمة "الإسلام"، فإنه شتان بين مفهوم ومعنى الرسالة السماوية المُنزّلة، وتعميم اسم النبي محمد (صل الله عليه وسلم)، على الدين الإسلامي نفسه. خصوصاً أن راسل يؤرّخ لـ"الفلسفة الكاثوليكية" ومدارسها، و"المسيحية" ومراحلها، من دون أن يحصرها بكلمة "العيسوية".
على أي حال، في الجانب الفلسفي يقف راسل مع الفريق الذي يستخدم تعبير "الفلاسفة العرب"، وذلك استناداً إلى اللغة والثقافة والتفكير التي كانت عربيَّة، ومن خلالها تحدّثَ وكتبَ وفكّرَ العلماء والفلاسفة المسلمون من غير العرب، وربما من هذا المنطلق جعل راسل الفصل موسوماً بـ"الثقافة المحمديَّة والفلسفة".
ويذهب راسل، على منوال النهج العام، إلى أن الفلسفة العربيّة بدأت معارفها الأولية من الفلسفة اليونانية، وذلك من خلال التراجم، التي قام بها النسطوريون في سوريا. وبما أن النسطوريين يفضلون أفلاطون "الفيلسوف المُستحَسن لدى الكاثوليك"، بينما عموم السوريين يفضلون أرسطو، لهذا اعتقد العرب أن أرسطو أكثر أهمية من أفلاطون، حتى ظنوا أن الأفلاطونية المُحدثة هي أرسطية. ولذلك فإن يعقوب بن إسحق الكندي (805-873)، هو أول مَنْ كتب الفلسفة باللغة العربية، وهو نفسه الفيلسوف العربي الوحيد المُترجِم، فإنه ترجم أجزاء من كتاب "التاسوعات" لأفلوطين، وعنونه بكتاب "الربوبية" لأرسطو. وأدى ذلك إلى حدوث تشويش كبير في فهم أفكار أرسطو باللغة العربيّة، التي استغرقت مئات السنين لاستعادة عافيتها.
ومن خلال الكتابات السنسكريتية في الهند، اكتسب العرب معارفهم في علم الفلك، وكان محمد بن موسى الخوارزمي (781-847) ترجم الكُتب الرياضية والفلكية من اللغة السنسكريتية، التي تُرجمت فيما بعد إلى اللغة اللاتينية في القرن الثاني عشر الميلادي تحت عنوان "الخوارزمية"، ومن هذا الكتاب كانت أولى معارف الغرب عن "الأرقام العربية". وكذلك كان كتاب الخوارزمي في "الجبر"، اعتمده الغرب كتاباً تعليمياً بالجامعات حتى القرن السادس عشر الميلادي.
هذا، ويرى راسل أن "الفلاسفة العرب، بشكل عام، هم موسوعيون، إذ إنهم مهتمون بالكيمياء والتنجيم وعلم الفلك وعلم الحيوان، بقدر ما نسميها الفلسفة. كان يُنظر إليهم بعين الريبة من قِبل الأهالي، الذين كانوا متطرفين ومتعصبين، وكان الفلاسفة مدينين بسلامتهم (عندما كانوا آمنين) تحت حماية الأمراء ذوي التفكير الحرّ نسبياً". (ص 417).
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وفي مقطع طويل، يعكس فيه راسل المفهوم الغربي الخاطئ تجاه الفلسفة العربية، وذلك بسبب عدم الاطلاع على المؤلفات والنتاجات العربية الخاصة والمستقلة عن الفلسفة اليونانية أو غيرها، لكنه لا يغبن الدور التاريخي العام لأهمية "الحضارة المحمديَّة" على الغرب، إذ يقول: "الفلسفة العربية ليست مهمة كفكر أصلي، والرجال مثل ابن سينا وابن رشد هم شُرّاح بشكل أساسي. عموماً، تأتي أكثر الآراء العلمية للفلاسفة العرب من أرسطو والأفلاطونيين في المنطق والماورائيات، ومن جالينوس في الطب، ومن المصادر اليونانية والهندية في الرياضيات وعلم الفلك، ومن الصوّفيين الفلسفة الدينية، التي لديها أيضاً مزيج من المعتقدات الفارسية القديمة. لقد أظهر العلماء الذين استعملوا اللغة العربية، بعض الأصالة في الرياضيات والكيمياء في حالة لاحقة، كنتيجة عرضية لبحوثٍ كيميائية. كانت الحضارة المحمدية في أيامها العظيمة مثيرة للإعجاب في الفنون، وفي عديد من الطُرق الفنية، لكنها لم تظهر أي قدرة على المضاربة المستقلة في المسائل النظرية. إن أهميتها، التي يجب أن لا تكون ناقصة التصنيف، هي بمثابة جهاز إرسال ما بين الحضارة الأوروبية القديمة والحديثة، عندما رزحت في عصور مظلمة. ولقد افتقر المحمديون والبيزنطيون لاقتضاء المثقفين من أجل الابتكار، إلا أنهم حافظوا على هيكلية التعليم والحضارة والكُتب والترفيه، وكلاهما حفّز الغرب عندما خرج من الحالة البربرية. المحمديون بشكل خاص في القرن الثالث عشر، والبيزنطيون خصوصاً في القرن الخامس عشر. وفي كل حالة، كان الحافز ينتج فكراً جديداً أفضل من أي منتج يصدر عن أجهزة الإرسال، في حالة واحدة مع الفلسفة المدرسيَّة، والأخرى في عصر النهضة، التي كانت لها أسباب أخرى أيضاً". (ص 420).
وعند تقييم راسل الفلاسفة العرب، يقول: "اثنان من الفلاسفة المحمديين يتطلبان اهتماماً خاصاً"، وهما ابن سينا (980-1037)، وابن رشد (1126-1198). ومع ذلك، يرى أن ابن سينا كان مشهوراً بالطب أكثر من الفلسفة، ولم يضف إلى جالينوس إلا الشيء القليل، لكن مؤلفاته الطبية اعتمدت عليها أوروبا من القرن الثاني عشر إلى القرن السابع عشر. وبينما ختم ابن سينا سنواته الأخيرة بالتصوف والعبادة، فإن راسل يَذكُرهُ بأنه "كان مُحباً للنساء والخمرة".
ويذهب راسل على النحو التقليدي في قراءته، إذ إن فلسفة ابن سينا تقترب من أرسطو أكثر من الأفلاطونية المحدثة، وهذا مّا سارت عليه لاحقاً الفلسفة المدرسيَّة المسيحيَّة. لقد أوجد ابن سيناء صيغة كررها ابن رشد وألبيرتوس ماغنوس (1200-1280)، وهي: "الفكرة تسبّب العموميات في الصوّر".
وعلى هذا النمط التقليدي، يأتي تقييم راسل لفلسفة ابن رشد، الذي كان مهتماً كثيراً بتحسين التفسير العربي لأرسطو، الذي تأثر بشكل غير ملائم بالأفلاطونية المحدثة. وما قاله ابن رشد: إن وجود الله يمكن إثباته بشكل مستقل عن الوحي، فقد أيَّده توما الأكويني (1225-1274). وكان ابن رشد، مثل أغلب الفلاسفة المحمديين المتأخرين، رغم أنه مؤمن، لكنه لم يكن ضمن المعتقدات الدينية الجامدة.
لذلك كان ابن رشد مجابهاً الغزالي (1058-1111)، فالأخير كان من بين اللاهوتيين الذين اعترضوا على الفلسفة كونها تضر بالإيمان. ومن هذا المنطلق، كتب مؤلفه "تهافت الفلاسفة"، مشيراً إلى أنه بما أن كل الحقيقة الضرورية موجودة في القرآن، فلا حاجة إلى المضاربة بشكل مستقل عن الوحي. ولقد ردَّ ابن رشد في كتاب سمَّاه "تهافت التهافت"، قائلاً: "كانت العقائد الدينية التي أيَّدها الغزالي ضد الفلاسفة، خصوصاً في مسائل: خلق العالم من العدم، وحقيقة الصفات الإلهية، وبعث الأجساد يوم القيامة". فبالنسبة إلى ابن رشد، يعتبر الدين أنه يحتوي على الحقيقة الفلسفية في شكل استعاري، وهذا ينطبق بشكل خاص على قضية الخلق، الذي يفسره بعقليته الفلسفية، لكن وفق طريقة أرسطيّة.
ويرى راسل أن "ابن رشد أكثر أهمية في المسيحيَّة من الفلسفة المحمديَّة". ولقد ترجم مايكل سكوت (1175-1232) أعمال ابن رشد إلى اللاتينية، في بداية القرن الثالث عشر الميلادي، وكانت أعماله ذات نفوذ وتأثير كبير في أوروبا، ليس فقط على اللاهوتيين المَدّرَسيين، بل كذلك على المفكرين الحرّيين الناكرين الخلود، الذين سمّوا "الرشديون".
إن ردّنا وتقييمنا لما طرحه راسل عن الفلسفة العربية، وبقية الموضوعات، سيكون لاحقاً.
الاشتراكية حل للاقتصاد والسياسة
مَّا إن وضعت الحرب العالمية الأولى أوزارها (1914-1918)، حتى بدأ راسل بنقد ومهاجمة رجال السياسة بلا هوادة، إذ إنهم يضحون بأرواح الشباب من أجل الحفاظ على مصالح الإمبراطورية البريطانية. وهذا الموقف المفاجئ والصارم أدى إلى طرد راسل من مقعد الأساتذة في الجامعة، حتى إن البعض اتهمه بالخيانة الوطنية. ولم يكترث راسل، ولم يأبه، بل ركَّز على ما يجب فعله للوصول إلى حل تجاه هذا الأمر. وبما أن أصل النزاعات ناجم بسبب الملكية الخاصة، وما يترتب عليها من علّل اقتصادية وسياسية واجتماعية، وبعدما بحث راسل في هذه المسألة وجد أن "الاشتراكية" هي الحل لكل هذه المعضلات والمشكلات التصاعدية.
وأخذ راسل يدرس الاشتراكية بإمعان، ويحللها بإسهاب ودقّة، ومن بين كتاباته في هذا الأمر "قضية للاشتراكية" في كتابه الموسوم بـ"في تقريظ التكاسل". فالاشتراكية، حسب تصوّره، يمكن تعريفها بأنها تتألف من جزأين: اقتصادي وسياسي. الأول، يعتمد على الدولة في الملكية الخاصة لكي يحقق قمة القوة الاقتصادية. والثاني، يتطلب أقصى القوة السياسية في الديموقراطية.
ومن هنا، فإن "الحكومة الاشتراكية التي نفذت الجزء الاقتصادي من الاشتراكية، فإنها ما أنجزت وحدها مهمتها، بل حصلت على دعم شعبي كافٍ لجعل الحكومة الديموقراطية ممكنة. إن ضرورة الديموقراطية واضحة، إذا أخذناها حالة شاذّة ونادرة". (الطبعة الإنجليزية، 1935، ص 123).
وفق رأي راسل، إن الميزة المتوقعة من إقامة الاشتراكية، ومن أجل أن يكون إدراك ذلك ممكناً، وبلا حرب ثورية مدمرة، وأنواعها المختلفة، فهي بأي حال لا تقتصر على الطبقة العاملة فقط، سواء في قضايا كسب الأجور أو في ساعات العمل... إلخ. وتجاه هذه المعضلة المتداخلة بالسياسة والاقتصاد والمجتمع، يقرّ راسل معترفاً: "أنا لست على يقين من أن كل هذه المزايا، أو أي منها سينتج عن انتصار حزب اشتراكي بعينه في صراع طبقي طويل وصعب، مما سيؤدي إلى تفاقم الغضب في عموم الشعب. وبذلك يبرز في المقدمة صنف عسكري لا يرحم، وما يصاحب ذلك من فقدان بالموت أو النفي إلى البعض، أو السجن لمواهب كثير من الخبراء المهمين، وإعطاء الحكومة المنتصرة قاعدة متشددة".
وفي كتابه "مبادئ إعادة البناء الاجتماعي" (الطبعة الإنجليزية، 1921)، وكذلك في كتابه "السلطة والفرد" (الطبعة الإنجليزية، 1949)، يتطرق راسل إلى كثير من التفاصيل في شروط نجاح الاشتراكية، ومن دون الاتجاه نحو "حروب ثورية مدمرة"، مما تؤدي إلى تسلّط طبقة معينة تُحوّل الحكومة الاشتراكية إلى "ثكنة" عسكرية قاسية. إذ إن ترسيخ الاشتراكية لا يأتي عبر استخدام القوة لكي يتم "انتصار الحزب الاشتراكي"، فإن هذه القوة ناتجة عن ضعف التطابق، بينما الاستحقاقات التي تتطلبها الاشتراكية تقتضي ضمناً القدرة على الإقناع بالحاجة إلى التنظيم الاقتصادي. وهكذا، كلما كان هناك نجاح معين في هذا الخصوص، كان الإقناع أسهل وأيسر.
وبما أن الاشتراكية، حسب مفهوم راسل، هي العلاج الشافي لقضية الملكية الخاصة، لذلك فإنه ينقد الدولة بضراوة، إذ إنها تصون السرقات التي ترتكبها الملكية الخاصة، وذلك بسّن التشريعات القانونية. كما أن الدولة تحمي الملكية الخاصة وتدافع عنها بالأسلحة والحروب. ومن هنا، يعتبر راسل، الدولة ما هي إلا شر عظيم، وعلى الشعب أن يجردها من أغلب وظائفها، التي تتمركز فيها، أو يُحوّل الدولة إلى قطاع المنتجين والنقابات التعاونية.
إن النقابات أو المذهب الثوري في النقابيَّة، ودورها في النظام الاقتصادي للمجتمع، يجعلها راسل، ليس فقط كونها الميدان الصحيح الذي تذاب فيه سلطة الدولة، بل ويراها أيضاً، تكون أكثر صحة من الاشتراكية نفسها في التطبيق العملي للاقتصاد وللسياسة لكل من الدولة والملكية الخاصة.
ولكن إذا جعل راسل الخلاص السياسي والاقتصادي يكون في الاشتراكية، ونصَّ على أن "النقابيَّة" هي الأصوب تجاه الدولة والملكية الخاصة، فإنه يشير كذلك إلى أن المجتمع هو العامل القوي في هدم "الشخصيَّة الفرديَّة"، وذلك عن طريق "الحريَّة"، التي هي الخير الأسمى والسبيل الوحيد في حفظ الشخصيَّة. فالجدل والنقاش مهمان بين الناس، لأنهما يؤديان إلى الرأي الناضج، الذي يجعل الإنسان متبصراً، فلا يتعجّل الحرب والقتال، التي هي ناتجة عن أطماع خاصة، أو عقائد موروثة بالية.
بمعنى آخر، إن راسل عندما يؤكد أن الاشتراكية هي العلاج الحقيقي للملكية الخاصة في المجتمع، وأن الحريَّة هي الخير الأسمى، وتحمي شخصيَّة الفرد في المجموع، وهذه بدورها تتطلب قضية العدالة بين الناس، فهذه كلها هي من مميزات المجتمع الاشتراكي الصحيح. ومثلما يُركّز راسل على أهمية العدالة والحريَّة، فإنه يؤكد الجانب التربوي، إذ إن "قوة التربية" مهمة، فمن خلالها يمكن جذب انتباه الناس إلى الروائع الفنية أكثر من إعجابهم بالمال. وبذلك فإن التربية والعدالة والحريَّة هي "من متطلبات إعادة تنظيم المجتمع". وذلك هو المجتمع الاشتراكي الذي يسمو إليه راسل.