Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

إعصار إيان غير وجه مدينة فينيس فتغيرت معتقداتي السياسية

انقطع التيار الكهربائي ما إن بدأت الرياح تقذف الأمواج إلى شارعنا. وبينما تواصل هدير العاصفة الذي يصم الآذان، كانت تُسمع بين الفينة والأخرى أصوات أقوى ومخيفة أكثر - يُحدثها تطاير أجزاء من سطح منزل أو اقتلاع أشجار عمرها مئات السنين من الأرض وصفقها بقوة

تلقى السكان تحذيرات من وجود تماسيح داخل المياه التي تفيض بها الشوارع خوفاً من تحول الناجين من العاصفة إلى وجبة غداء لتلك الزواحف (غيتي / أ ف ب)

انتقلت من نيويورك إلى فينيس في فلوريدا، في وقت سابق من العام الجاري، لكي ألازم والدتي بعد وفاة والدي. اختار والداي السكن في فينيس بعد تقاعدهما منذ 10 سنوات لكون المنطقة جميلة ومعقولة من الناحية المادية بالنسبة إليهما. والحي الذي يقطنان فيه مصمم على النمط التقليدي لأحياء ساحل الخليج: فهو حي سكني صغير ومغلق، تتشابه منازله التي تكسوها طبقة من الجص، ويسكنها أزواج متقدمون في السن اتخذوا خيار التقاعد نفسه كأمي وأبي.

آرائي السياسية واضحة بالنسبة إلى جيراني الجدد. فهم يضعون صور ترمب وملصقات "هيا يا براندون" [كلمة على وزن شتيمة موجهة لجو بايدن] على سياراتهم، فيما أزرع أنا الشمندر العضوي في ظل أشجار النخيل وأستمع إلى الإذاعة الوطنية العامة طوال اليوم. في الأوقات العادية، يضحكون بسخرية عندما أشحن أجهزتي الإلكترونية بواسطة ألواح شمسية قابلة للطي، فيما أضحك في سري عندما أسمع أصداء سباقات ناسكار التي تصدح من أجهزة تلفازهم.

نتعامل بمودة مع بعضنا بعضاً. نتوقف لنتبادل الحديث حول الطقس عندما يلتقي كلابنا في شوارع خالية إلا منا. ونتعامل بتهذيب مع بعض. وبين الفينة والأخرى، يرمي لي أحدهم جملة مشاكسة عن "جو بايدن الناعس" أو هيلاري [كلينتون] "المنحرفة". ثم أشاركهم الضحك. أفضل أن أكون سعيدة وأن أنعم بالسلام مع جيراني على أن أكون "على حق".  

لكن كل هذا تغير الآن.

مع انعطاف إعصار إيان في اللحظة الأخيرة باتجاه فينيس الأربعاء الماضي، وصلنا تحذير بأن حيّنا يقع خارج حدود منطقة الإجلاء الإلزامية تماماً. وبين هذه المعلومة من جهة وطبيعة مسارات الأعاصير المتقلبة بطبيعتها من جهة أخرى، قرر كل سكان منطقتنا تقريباً ملازمة منازلهم.

في اليوم الذي سبق وصول الإعصار إلى اليابسة، دب النشاط فجأة في الحي الساكن بالعادة. اتصل من يسمونهم طيور الثلج (أي المتقاعدين الذين يقسمون وقتهم بين ولايات الشمال في الصيف وفلوريدا في الشتاء)، الذين لم يأتوا إلى الجنوب بعد، لكي يطلبوا من جيرانهم في فلوريدا أن يساعدوهم في وضع مصاريع العاصفة [على النوافذ]، ووضع أكياس الرمل على الأبواب، وقص الشبك الخارجي للنوافذ والأبواب من أجل الحد من الأضرار- وهو ما فعلناه. ثم تفقد الأشخاص الذين ينوون الذهاب في رحلة سريعة في اللحظة الأخيرة لشراء الطعام أو الوقود أو المياه جيرانهم ليسألوهم إن كانوا يحتاجون أي مؤن وأحضروا معهم ما يكفي لسد حاجة الذين ينقصهم أي شيء. قسمنا المهمة الجبارة التي يتطلبها التحضير للإعصار، وأنجزناها بنجاح. وأثناء عملنا، تعرفنا أكثر على بعضنا وضحكنا وعبرنا عن مخاوفنا من العاصفة المقبلة. 

 

ثم حل علينا [الإعصار] إيان. كنا أوفر حظاً في فينيس من جيراننا في فورت مايرز جنوباً، لكن ليس إلى حد بعيد. طيلة فترة الإعصار، اختبأت مع أمي بين فراشين داخل خزانة مع لوازم الطوارئ وقطتي، فيلفيس. وحضنا بعضنا بعضاً فيما ترقبنا. ترقبنا اقتلاع سطح المنزل، وترقبنا بدء المياه بالتسرب من تحت الباب، وترقبنا نهاية العاصفة.        

انقطع التيار الكهربائي ما إن بدأت الرياح تقذف الأمواج إلى شارعنا. وبينما تواصل هدير العاصفة الذي يصم الآذان، كانت تُسمع بين الفينة والأخرى أصوات أقوى ومخيفة أكثر - يُحدثها مثلاً تطاير أجزاء من سطح المنزل، أو اقتلاع أشجار عمرها مئات السنين من الأرض وصفقها بقوة على جانب المنزل. ليس قضاء 16 ساعة من الرعب في عين الإعصار تجربة أرغب بتكرارها. 

ومهما كانت العاصفة مخيفة، كنت أعلم بأن المشقة الحقيقية ستكون في الأيام والأسابيع التي تليها. فخلال هذه الفترة، يجري تقييم الأضرار والتنظيم والتصليحات، غالباً في ظروف سيئة للغاية. خرجت مع أمي من تلك الخزانة، لندخل عالماً غير مألوف من الدمار التام.  

ما زال التيار الكهربائي مقطوعاً عنا، ولا نعلم متى يعود. لكن نظراً إلى خطوط الكهرباء المقطوعة التي تملأ الشوارع، والأشجار الضخمة المعلقة على الخطوط التي لم تنقطع، لا أعتقد بأن التيار سيعود في وقت قريب.

أما الطرقات، التي أصبح من الممكن القيادة عبرها نوعاً ما، فكان يتعذر المرور فيها كلياً طيلة أيام كاملة. إذ أغرقت المياه عدداً كبيراً منها، لدرجة أن الأسماك كانت تسبح فيها، وتلقى السكان "تحذيرات من وجود تماسيح" لكي يبتعدوا من المياه، خوفاً من تحول الناجين من العاصفة إلى وجبة غداء لتلك الزواحف.  

انقطعت كل خدمات الهواتف الخلوية حتى يوم السبت الماضي، لذلك لم يملك أحد منا أية أنباء أو معلومات من أي نوع، خلا ما نسمعه من الآخرين. وقد تناهى الخبر إلى مسامع هؤلاء الآخرين من أحد غامرَ بالخروج إلى المجهول. كل ما عرفناه كان حرفياً "كلام الشارع". عادت الخدمة الخلوية الآن، لكن الاتصال لا يكفي لتصفح الإنترنت أو فتح أي تطبيق. إنما يمكننا إرسال رسالة نصية وإجراء اتصال هاتفي أحياناً. لكن خط الهاتف الأرضي لا يعمل.  

طلبت من صديقة في نيويورك أن تدخل إلى المواقع الحكومية وتخبرني عن آخر ما نُشر عن وضعنا لكي أشاركه مع الجيران. حتى عطلة نهاية الأسبوع التي مرت كنا لا نزال "في حال الخطر". وهو ما يعني ضرورة الابتعاد من الطرقات، وعدم توفر أي خدمات طوارئ أو أخبار جديدة أو أي شيء. لم أطلب من أي أحد تفقد التقرير اليوم لكنني لا أتوقع أي تغيير.    

لم يكن لدينا مياه طيلة أيام، ما خلا خيطاً رفيعاً متقطعاً. اليوم أصبح لدينا ضغط مياه كاف. وأخيراً أستطيع أن أدفق الماء في المرحاض دون الحاجة إلى نقل دلاء كثيرة من المياه إلى الحمام المعتم تماماً، وقد أتمكن حتى من غسل شعري المتسخ. ما زال التحذير من استخدام المياه من دون غليها يطبق علينا، ولكن بما أن غليها غير متاح بأي وسيلة، علي أن أبقي المياه بعيدة من فمي إن لم أرغب بالتقاط أي مرض. ولا شك في أن تسخين المياه غير ممكن لذلك عندما يتسنى لي الاستحمام، سآخذ حماماً بارداً، ولكن في هذا الجو الحار الخالي من أي مكيفات، لن يزعجني ذلك.  

على الرغم من ازدحام المنطقة بالأشجار المقطوعة والركام وأجزاء بعض المنازل، إلا أنها كانت مليئة كذلك بأشخاص يبذلون قصارى جهدهم. فالجميع يتفقد الآخرين، ويقدم يد العون حيثما يستطيع، ويتشارك الأدوات التي يملكها مع الآخرين. تسلق أحد جيراننا، وهو رجل رشيق في أواخر السبعينيات من عمره، سطح منزلنا الزلق وشديد الانحدار، معي، وأصلح خلال 30 دقيقة عدداً أكبر من الثقوب من تلك التي أصلحتها أنا خلال ساعتين من الزمن. كان ذلك مذهلاً. وفي المقابل، تغطي الأغطية الإضافية التي نملكها سطح منزل جار آخر بعد أن انهار خلال العاصفة. وتنتقل الأدوات من مجارف ومعاول ومناشير من يد إلى أخرى، ومن منزل إلى آخر. ويمتد حبل غسيل جماعي عبر كل الحدائق الخلفية لكي نتمكن من تجفيف الأغراض المتنوعة التي استخدمناها لتجفيف منازلنا من مياه الفيضان. 

لكن الآن، بعد مرور وقت طويل على انتهاء العاصفة وانقطاع الموارد، قد يتدهور الوضع. بدأ الوقود ينفد من أصحاب المولدات الكهربائية. ولا يتوفر أي وقود لأميال وبكل الاتجاهات. حتى الذين وجدوا محطة وقود تعمل ولديها مخزون من الوقود، انتظروا في الطابور لمدة وصلت في بعض الأحيان إلى ثماني ساعات ليحصلوا على ما هو ممكن. غالباً ما يمتلك الأشخاص هنا مولدات كهربائية من أجل تشغيل أجهزة طبية ضرورية جداً لصحتهم، أو تبريد أدوية حيوية. معظم جيراني من أتباع "فلنجعل أميركا عظيمة مجدداً" [في إشارة إلى مناصري دونالد ترمب] يمتلكون هذه المولدات. ولكنهم على وشك أن يفقدوا كل وسائل الاستمرار بتشغيلها.     

والطعام يتعفن داخل الثلاجات والبرادات الدافئة، وأسراب البعوض تتكاثر في المياه الراكدة في كل مكان. 

على الرغم من تضاؤل الموارد، لا يتراجع اهتمام الناس ببعضهم بعضاً ولا رعايتهم لبعضهم بعضاً. تصورت قبلاً بأنه مع تدهور الأحوال، سيزيد مستوى الحماية والأنانية عند الناس. لكنني أخطأت كثيراً. يوم أمس، قاد ابن زوجين من الجيران خمس ساعات على الطرقات الفرعية (بسبب إغلاق الطرق السريع آي-75) لكي يجلب لهما مولداً كهربائياً وكمية إضافية من الوقود. ساعدناه على تفريغ حمولة شاحنته الكبيرة التي تغطيها ملصقات ترمب/بنس، محاولين عدم سكب قطرة واحدة من السائل الثمين. أعطى الزوجان فوراً صفيحتين أو ثلاث من الوقود لآخرين نفد ما لديهم من مخزون. واستخدم هؤلاء الجيران بعض الوقود، ثم مرروا العلب الحمراء المألوفة إلى المنزل الآخر الذي يحتاجها، واستمرت الحال على هذا المنوال حتى نفدت الكمية.

كما أحضر الابن معه ثلجاً. الكثير من الثلج. ومن دون أي تردد أو سؤال، أعطانا الزوجان نصف الكمية. إن تناول شراب بارد أو حفظ الطعام أو الحصول على مزيد من مياه الشرب في ظل هذا الحر أشبه بنعمة إلهية. وزيادةً في الكرم، طلب الزوجان من ابنهما أن يحضر عشاء إضافياً لنا. شطائر سترومبولي. بعد مرور أسبوع تقريباً على تناولنا طعام "مؤن الطوارئ"، كان ألذ طعام نأكله على الإطلاق. 

وهذه أقل مساعدة تلقيناها، وأقل عون ومشاركة خرجت من هذا الوضع الرهيب. فالابتسامات والأحاديث والاهتمام مستمر في هذا الجزء الصغير المحطم من عالمنا.

لا شك في أن الأيام الصعبة التي تنتظرنا كثيرة، لا سيما فيما نكافح في غياب حاجاتنا الأساسية. لكن حظنا وفير- وقلوبنا تتألم لمن فقدوا أكثر من ممتلكاتهم المادية. بالطبع، ستتوجب محاسبة بعض السياسيين على قراراتهم التي أسهمت في الفوضى التي أحدثتها الطبيعة، ولا أشك في أن جميع من في هذا الحي سيختلفون على هوية الجهات التي تتحمل هذه المسؤولية. ولكن هذا نقاش ليوم آخر.

كنت أحكم على الأشخاص من خلال اتجاهاتهم السياسية. وهذا يخجلني. ذكرتني هذه الكارثة بتقييم الناس حسب تصرفاتهم وليس خياراتهم الانتخابية. وآمل أن يبادلني جيراني بالمثل، وألا يعتبروني الآن "ليبرالية ثرية" انتقلت للعيش مع والدتها، بل صديقة. وكما الأصدقاء الحقيقيون، سنعمل على اجتياز هذه المحنة معاً.

© The Independent

المزيد من آراء