Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

هيمن الذكاء الاصطناعي على الشطرنج وحان وقت تطبيق اللعبة عليه

هيمنته مطلقة على الرقعة السوداء والبيضاء لكن حوسبة السحاب قد تفرض أن ينقلب السحر على الساحر

النقاشات عن منازلة ماغنوس كارلسن وهانز نيمان جرت ضمن التسليم بتفوق الذكاء الاصطناعي على البشر في الشطرنج (تشيس 24.كوم)

"أُفضّل عدم الكلام. إذا تكلمت فسأقع في ورطة كبيرة". فضّل بطل الشطرنج الأميركي ماغنوس كارلسن اللجوء إلى التورية والرسائل المشفرة حينما غرّد بالكلمات السابقة التي نطقها مدرب كرة القدم العالمي جوزيه مورينيو حينما سُئل عن الغش في مباريات الساحرة المستديرة. وقد غرد كارلسن بتلك الكلمات تعليقاً على هزيمته في مطلع سبتمبر (أيلول) 2022، أمام الأميركي هانز نيمان، اللاعب الأميركي غير المعروف نسبيّاً في تلك اللعبة. وقد زعم كارلسن أن ذلك الشاب لجأ إلى حيلة تقنية أوصلت إليه النقلات التي فكر فيها الذكاء الاصطناعي، فهزم من اعتُبِر أحد أفضل أبطال الشطرنج في التاريخ.

من المستطاع غض النظر عن تفاصيل ما اعتُبِر على نطاق واسع كأضخم فضيحة غش في تاريخ الشطرنج، وكذلك التجاوز على اعتراف نيمان بسوابق له في الغش الشطرنجي أثناء مباريات افتراضية خاضها على موقع "تشيس.كوم"  Chess.com، إضافة إلى تناسي ذلك الارتفاع الحاد والمفاجئ بمقدار 500 نقطة في ترتيب نيمان ضمن تصنيف "إيلو" لأداء أبطال الشطرنج وأنه ارتفاع غير مسبوق أيضاً.

من المستطاع نسيان كل المعطيات السابقة وإغفالها والتجاوز عنها، أو بالأحرى انتظار التطوّرات كي تُنبئ المهتمين بالرأي الحاسم في شأن تلك الإشكالية الشطرنجية. في المقابل، قد يصعب عدم ملاحظة أن كل تلك النقاشات والصراعات جرت ضمن التسليم بتفوق الذكاء الاصطناعي على البشر في الشطرنج. ينحصر الخلاف في تلك الفضيحة في حدوث الغش أو عدم حصوله، لكن لم يرتفع أي صوت ليقول إن البطل البشري يستطيع هزيمة الذكاء الاصطناعي على رغم الاتفاق الواسع أيضاً على علو كعب الأميركي كارلسن في تلك اللعبة.

لقد صار مسلماً بصورة شبه بديهية أن البشر فقدوا نهائيّاً القدرة على التفوق في لعبة ذكاء فكرية ابتكروها بأنفسهم وعملوا على تطويرها بأيديهم وعقولهم وراكموا خبرات هائلة فيها، بل أن الهزيمة والفوز فيها يرتبط بصور عن عمق التفكير والدهاء في انتقاء المناورات والاستراتيجيات للفوز. ويرتبط الشطرنج بمناحٍ لا حصر لها من تعريف العقل والذكاء لدى البشر، لكن يبدو أنهم رفعوا الراية البيضاء استسلاماً وتسليماً بتفوق الذكاء الاصطناعي عليهم فيها. والمفارقة أن الشطرنج والذكاء الاصطناعي كلاهما من صنع عقل الإنسان وذكاء البشر!

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

هل هناك وجه آخر مغاير، بل مناقض تماماً، لصورة الهزيمة القاسية للإنسان أمام صنيعته الذكاء الاصطناعي؟ هل هناك مساحات يمكن فيها للبشر أن يعيدوا الذكاء الاصطناعي إلى المربع الأول، كي يتشرب من ذكاء البشر في لعبة الشطرنج؟

الأرجح أن ثمة منحيين في الأقل يجدر تناولها في ذلك السياق الذي يضم، تذكيراً، ما لا يحصى من الأسئلة والإشكاليات. يتمثل المنحى الأول في نظرة البشر إلى الذكاء الاصطناعي، بالأحرى تفنيد خطأ النظر إلى الذكاء الاصطناعي كأنه "عصا سحرية" تقدر بضربة منها على اجتراح حلول للمشكلات كلها. واستباقاً، لا يشبه الذكاء الاصطناعي تلك العصا السحرية في قصة السندريلا التي تقلب اليقطينة عربة خيل فاخرة وتجعل الفأر فرساً مطهماً، وتقلب رثَّ الثياب إلى أثواب حرير مهفهفة.

لنفكر نقديّاً في ظاهرة حضارية

يشكل الذكاء الاصطناعي ظاهرة تقنية متقدمة وعلاقتها معقدة مع ذكاء البشر. ومع الأنباء عن فضيحة الشطرنج في التباري بين البطلين كارلسن ونيمان، يصعب على كثيرين عدم استرجاع الذكريات المؤلمة عن الهزيمة الأولى للعقل البشري أمام ذكاء الآلات، حينما فاز الكمبيوتر "ديب بلو" على أسطورة الشطرنج غاري كاسباروف، وهو أحد أعظم أساطين تلك اللعبة الفكرية تاريخياً، في عام 1997. وبعد ذلك، كرت سبحة تفوق الذكاء الاصطناعي على صُنّاعه كهيمنته على لعبة "غو" الصينية التي تتضمن مخادعات كثيرة ظن مفكرون كُثُر أنها تستعصي على آلات لا تجيد سوى اتّباع ما تمليه عليها المعادلات الرياضية الصارمة المستقيمة. وفي الفضاء، يجول الروبوت على المريخ، ليكون ممثل حضارة البشر في السير للمرة الأولى في تاريخها، على سطح كوكب سيّار غير الأرض، عبر روبوتات كـ"أوبورتشونيتي" و"بيرسيفرنس"، بل التحليق في أجوائه بمروحية مؤتمتة. وكذلك تولى الذكاء الاصطناعي تمثيل التقدم الحضاري للإنسانية في تحقيق هبوط أول على سطح مذنب فضائي.

ربما يكون الأكثر أهمية من تلك القائمة غير الحصرية عن الذكاء الاصطناعي وتغلغله في حضارة البشر، هو حضوره الكثيف والمتزايد في الحياة اليومية للإنسان. من لا يعرف أنه حاضر في الخليوي والكمبيوتر [وهو مهد ولادته] وأدوات التكنولوجيا القابلة للارتداء Wearable Technology وغيرها؟ من يجرؤ على إغفال الدور المحوري للذكاء الاصطناعي في الإنترنت ومسارها المتصاعد، خصوصاً مع التمدد في انتشار حوسبة السحاب عالمياً، والتوسع المطَّرد في استخدامها اليومي، في مجالات تتكاثر باستمرار؟ من لم يسمع بأن الذكاء الاصطناعي يشكّل فعلياً قلب الثورة الصناعية الرابعة Fourth Industrial Revolution التي تعيش البشرية التحولات الكبرى المُمَهّدَة لها.  

 

وفي المقابل، من المستطاع التفكير نقدياً في نقاشات الذكاء الاصطناعي، مع ملاحظة أن مصطلح نقد، في هذا السياق، يعني فهم الأمر وإدراكه واستيعابه. مثلاً، لنطرح أسئلة عن مدى وصول تطوّر العمل في ذكاء الآلات إلى نقطة يمكن القول بوجود ذكاء اصطناعي فعلياً، بمعنى أن تقدر الآلات على التفكير باستقلالية وابتكار على طريقة ما يفعله ذكاء العقل الإنساني؟

 يعرف المهتمون بالذكاء الاصطناعي أن قدرة الآلات على التفكير باستقلالية شكّلت الحلم الأول للعالم الشهير آلان تورينغ، أحد مؤسسي الذكاء الاصطناعي، بل إنه بلور ذلك المصطلح. ولقد ترددت أصداء ذلك الحلم، وكذلك استحالة تحقيقه حتى الآن، في أعمال البروفيسور الراحل مارفن مينسكي (1928- 2016) الذي يعتبر من المرجعيات العلمية فيه، بل ينسب إليه صنع الكمبيوتر "ديب بلو" الذي هزم البشر في الشطرنج، والروبوت "واطسون" الذي وصل ذكاؤه إلى حد أنه يحاول دراسة الطب في إحدى جامعات بريطانيا.

بعد وفاة مينسكي بسنتين، ترددت أصداء ذلك التفكير النقدي على لسان متخصص أميركي آخر في الذكاء الاصطناعي. ولم يتردد ذلك المتخصص في وصف البحوث المعاصرة عن الذكاء التي تجري في قلب "وادي السيليكون"، بأنها أقرب إلى نسخة معاصرة من مزاعم السحر، في الإشارة إلى كثافة الأوهام بشأنه؟ وصدرت تلك الكلمات عن خبير يعمل في شركة "غوغل" التي يتصدر الذكاء الاصطناعي اهتماماتها، وتضخ مليارات الدولارات فيه، وتوظف أعداداً من أفضل العقول في صناعته. في 2018، ظهر ذلك النقد للصورة السحرية عن الذكاء الاصطناعي في ورقة بحث قدمها علي رحيمي، وهو باحث في الذكاء الاصطناعي في "غوغل".

وقبل ذلك بسنة أيضاً، شارك رحيمي في مؤتمر مكرّس للذكاء الاصطناعي، وانتقد رحيمي خوارزميات تعلّم الآلات Machine Learning [التي تعتبر النواة الصلبة في حقل الذكاء الاصطناعي] بأنها صارت أقرب إلى المراهنة على السحر، مشيراً إلى أنها تستند بكثافة إلى التعلّم تجريبيّاً عن طريق الخطأ و/أو الصواب.

وفي مؤتمر علمي عقد عام 2018 في "وادي السيليكون"، عمد خبير الذكاء الاصطناعي فرانسوا شوليّه الذي يعمل في "غوغل" أيضاً، إلى تشبيه ممارسات بعض الاختصاصيين في الذكاء الاصطناعي بالمعتقدات الخرافية عن تعويذات السحر واستحضار الأرواح.

وضرب شوليّه مثلاً على ذلك بميل تلك الحفنة من المتخصصين إلى تبني تقنيات تحسّن معدل "تعلّم الآلات" لكنها تتشابه مع طرق تدريب الحيوانات المنزلية الأليفة. وقصد شوليه بذلك أنها تعتمد نسبة تصحيح برنامج ما نفسه بعد ارتكاب خطأ معين، من دون تفهم فعلي للسبب الذي يجعل أحد البرامج أقل ارتكاباً للأخطاء من آخر.

الأرجح أن تلك الملاحظات ليست سوى جزء يسير من نقد واسع للمسارات الراهنة في الذكاء الاصطناعي. ولعلها تندفع إلى المقدمة حين تحصل أشياء مثل فشل تجربة قيادة سيارة مؤتمتة حينما توضع في طرقات فعلية بين مركبات يقودها بشر، أو حينما تُخطئ الروبوت الأنثى "صوفيا" فتعلن أنها قد تقدم على الفتك بالبشر، على رغم أن القواعد الأولى لبرمجة الروبوتات تجزم بألّا تُقدم آلة ذكية على قتل كائن بشري!

لنتعامل مع التقنية كأنها قطع شطرنج

فلنعد إلى المربعات البيضاء والسوداء على رقعة الـ64 خانة. ما الذي يحسم مسار الفوز في مبارياتها؟ الأرجح إن ذلك يتمثّل أساساً في الاستراتيجية والرؤية المسبقة والتعديل المستمر للخطط بحسب النتائج التي تتولد عنها. بقول آخر، يعرف كل اللاعبين القطع وقوتها وخطوط سيرها والمناطق الحاسمة في السيطرة على الرقعة وقواعد اللعب التي تتحكم في التحركات وتحسم نتائج المباريات. لا يصنع ذلك كله فارقاً بين لاعب وآخر، في الأقل ليس بين المتمرسين والمحترفين. يأتي الفارق كله في الرؤية الاستراتيجية والخطة الكبرى التي تتفرع منها التكتيكات وتحركات القطع ومواجهاتها. ويعرف هواة الشطرنج جيداً أنه في غياب تلك الرؤية، لا أمل للاعب بالفوز إن لم يمتلك رؤية واستراتيجية تربط مختلف التحركات والقطع.

الأرجح أن تلك الخلاصة ترسم خيطاً آخر في علاقة الشطرنج مع الذكاء الاصطناعي، وتحديداً إنها تصلح مدخلاً لتفكير نقدي وجدي في كيفية التعامل مع التقنيات المتطورة كتقنية "حوسبة السحاب".

إذا استسلم أحد ما للنظرة السحرية للذكاء الاصطناعي، فقد يفكر أن أفضل ما يفعله هو صنع [أو تبني] مجموعة من التطبيقات كي تعمل على منصة عمله المستندة إلى "سحابة" معلوماتية، ثم يسند إلى الذكاء الاصطناعي إدارتها.

ثمة خبراء غربيون كثر عبّروا عن نظرة نقدية حيال هذا التسطيح. وشددوا على أن المقاربة الأفضل تتمثّل في النظرة "الشطرنجية" إلى المنصات الرقمية العاملة على سُحُب المعلوماتية. ويعني ذلك ضرورة النظر إلى التطبيقات كأنها قطع شطرنج، وتحريكها ضمن رؤية واسعة، بمعنى أنها تتخطى المدى الذي تتحرك فيه تلك التطبيقات بحد ذاتها. ومثلاً، تعتبر المنصات السحابية الهجينة  Hybrid Cloud، من الخيارات التي تعطي تفوقاً تقنياً مهماً. وتمزج المنصات الهجينة بين التطبيقات المفتوحة المصدر والتطبيقات الخاصة التي يملك طرف معين ملكيتها الفكرية ويتحكم فيها. ويترافق ذلك بالضرورة مع الاستناد إلى قواعد معلومات هجينة أيضاً. ويؤدي ذلك إلى وضع يكون فيه التركيز على التحكم في تقاطع التطبيقات المختلفة من جهة، وبين واجهة الاستخدام، بالتالي، يتمثل العمل الرئيس في تطوير عمليات برمجة ذلك التقاطع، أو ما يعرف تقنياً باسم "برمجة واجهة التطبيقات" Application Programming Interface .

واستكمالاً، يأتي النجاح بطريقة "شطرنجية" تماماً، تتضمن تحريك التطبيقات كأنها قطع، مع الالتزام بمعطياتها التقنية التي تشبه قواعد اللعب على رقعة الشطرنج. بالتالي، يأتي النجاح لمن يملك الرؤية الأفضل والملاحظة الاستراتيجية الأدق لمتابعة مسار التفاعلات بين القطع والسوق [والجمهور بالطبع]، وتعديل مسار اللعب بالتجاوب مع تلك التفاعلات.

المزيد من علوم