Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

العالم الذي يسعى بوتين إلى بنائه

كيف تغذي تشوّهات مفاهيم الماضي أوهام المستقبل

الصورة: الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في عشق آباد تركمنستان يونيو 2022 (غيتي)

يصر فلاديمير بوتين على رسم المستقبل على شاكلة الماضي كما يراه في منظوره. غزا الرئيس الروسي أوكرانيا ليس لأنه شعر بالتهديد من توسع الناتو أو "الاستفزازات" الغربية. لقد أمر بـ "عمليته العسكرية الخاصة" لأنه يعتقد أن لدى روسيا الحقّ الإلهي بأن تحكم أوكرانيا، وأن تمحو الهوية الوطنية للبلاد، وأن تدمج شعبها في "روسيا الكبرى".

لقد عبر عن رؤيته في مقالة مؤلفة من 5000 كلمة، نُشر في يوليو (تمّوز) 2021، بعنوان "حول الوحدة التاريخية للروس والأوكرانيين". فيها، أصر بوتين على أن شعوب بيلاروس وروسيا وأوكرانيا جميعهم من نسل "الروس" [تسمية لشعب سلافي قديم ومنه اقتبست روسيا اسمها]، وهم شعب قديم استقر في الأراضي الواقعة بين البحر الأسود وبحر البلطيق. وأكد أنهما مرتبطان ببعضهما بعضاً من خلال منطقة مشتركة ولغة والإيمان المسيحي الأرثدوكسية.

في سرديته الخاصة للتاريخ، لم تكن أوكرانيا يوما دولة ذات سيادة، باستثناء فترات تاريخية قليلة عندما حاولت - وفشلت - أن تصبح دولة مستقلة. كتب بوتين أن البلاشفة عندما أنشأوا الاتحاد السوفياتي وأسسوا جمهورية أوكرانيا الاشتراكية السوفياتية "سلبوا روسيا" نواة أراضيها. وبحسب روايته، منذ انهيار الاتحاد السوفياتي، استخدم الغرب أوكرانيا كمنصة لتهديد روسيا، ودعم صعود "النازيين الجدد" هناك. تنتهي مقالة بوتين، التي من المفترض أن يحملها كل جندي يُرسل إلى أوكرانيا، بالتأكيد على أن أوكرانيا لا يمكن أن تكون ذات سيادة إلا بالشراكة مع روسيا. أعلن بوتين "نحن شعب واحد".

توضح هذه المقالة والبيانات العامة المماثلة أن بوتين يريد عالماً تترأس فيه روسيا اتحاداً سلافياً جديداً يتألف من بيلاروس وروسيا وأوكرانيا، وربما الجزء الشمالي من كازاخستان (معظمه من السلاف) – وتعترف فيه كل الجمهوريات السوفياتية السابقة بسيادة روسيا. كما يريد من الغرب ودول الجنوب قبول الدور الإقليمي المهيمن لروسيا في أوراسيا. هذا أكثر من مجرد دائرة نفوذ. إنه مجال سيطرة، مع مزيج من إعادة ضم صريحة لبعض الأقاليم والهيمنة في المجالات الأمنية والسياسية والاقتصادية للآخرين.

بوتين جاد في تحقيق هذه الأهداف بالوسائل العسكرية وغير العسكرية. لقد كان في حال حرب في أوكرانيا منذ أوائل عام 2014، عندما سيطرت القوات الروسية، التي كانت ترتدي زياً قتالياً أخضر مجرداً من أية علامات مميزة، على شبه جزيرة القرم في عملية تسلل. وأعقب هذا الهجوم بسرعة عمليات سرية لإثارة الاضطرابات المدنية في المناطق الشرقية والجنوبية لأوكرانيا بالقرب من الحدود الروسية.

نجحت روسيا في إثارة التمرد في منطقة دونباس وإثارة نزاع مسلح أدى إلى مقتل 14000 شخص على مدى السنوات الثماني المقبلة. تم استهداف جميع هذه المناطق بالهجوم وغزوها منذ فبراير (شباط) 2022. وبالمثل، في بيلاروس، استغل بوتين الأزمات الداخلية والاحتجاجات واسعة النطاق في عامي 2020 و2021 لتقييد مساحة زعيمها للمناورة. ثم استُخدمت بيلاروس، التي ترتبط مع روسيا بما يسمى اتفاقات اتحادية، كنقطة انطلاق لـ "العملية العسكرية الخاصة" ضد أوكرانيا.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

لقد أوضح الرئيس الروسي أن بلاده دولة تعديلية [تسعى إلى تغير النظام العالمي الحالي]. في خطاب ألقاه في مارس (آذار) 2014 بمناسبة ضم شبه جزيرة القرم، أعطى بوتين إشعاراً للغرب بأن روسيا في وضعية الهجوم في مسعاها للدفاع عن مطالبها الإقليمية. لتسهيل هذه المهمة، اتخذ بوتين لاحقاً خطوات كان يعتقد أنها ستحمي الاقتصاد الروسي من العقوبات من خلال تقليل انكشافه على الولايات المتحدة وأوروبا، بما في ذلك الضغط من أجل الإنتاج المحلي للسلع الحيوية. لقد كثف من حملات القمع وأمر بالاغتيالات وسجن المعارضين. نفذ عمليات تضليل وانخرط في جهود رشوة وابتزاز السياسيين في الخارج. لقد عمد بوتين باستمرار إلى تكييف تكتيكاته للتخفيف من ردود الفعل الغربية - لدرجة أنه عشية غزوه، مع احتشاد القوات الروسية على حدود أوكرانيا، تفاخر أمام بعض المحاورين الأوروبيين بأنه "اشترى الغرب". كان يعتقد أنه لا يوجد شيء يمكن أن تفعله الولايات المتحدة أو أوروبا لتقييده.

من يتحكم بالماضي؟

في عقل فلاديمير بوتين، التاريخ مهم - أيْ التاريخ كما يراه. قد يكون مفهوم بوتين للماضي مختلفا تماماً عما هو المقبول عموماً، لكن رواياته هي سلاح سياسي قوي، وتعمل على دعم شرعيته. قبل وقت طويل من الغزو الكامل لأوكرانيا في 24 فبراير 2022، كان بوتين يقوم بتعليقات فكرية لفترات غامضة من الماضي ويتلاعب بالأحداث الرئيسة لخلق تبرير محلي ودولي لحربه. في عام 2010، في الاجتماع السنوي لنادي فالداي الدولي الذي يرعاه الكرملين، قال المتحدث الرسمي لبوتين للجمهور إن الرئيس الروسي "يداوم" على قراءة كتبٍ عن التاريخ الروسي. يُدلي بتصريحات متكررة حول التاريخ الروسي، بما في ذلك عن مكانه فيه. لقد وضع بوتين كييف في قلب سعيه إلى "تصحيح" ما يقول إنه ظلم تاريخي: انفصال أوكرانيا عن روسيا أثناء تشكيل الاتحاد السوفياتي عام 1922.

إن هوس الرئيس بالماضي الإمبراطوري لروسيا عميق. في غرفته في الكرملين، وضع بوتين بشكل استراتيجي تماثيل القياصرة الروس، بطرس الأكبر وكاترين العظيمة، اللذين غزا ما يُعرف اليوم بالأراضي الأوكرانية في حروب مع الإمبراطوريتين السويدية والعثمانية. كما أنه اغتصب تاريخ أوكرانيا واستولى على بعض أبرز شخصياتها.

في تشرين الثاني (نوفمبر) 2016، على سبيل المثال، نصب بوتين، خارج بوابات الكرملين مباشرة، تمثالاً لفلاديمير العظيم، أمير كييف في القرن الـ 10. في سرديته الخاصة للتاريخ، تحول الأمير الكبير فلاديمير إلى المسيحية نيابة عن جميع " السلاف الروس" القدامى في عام 988، مما جعله القديس المقدس للمسيحية الأرثوذكسية وشخصية روسية وليست أوكرانية. العمادة هذه تعني أنه لا توجد دولة أوكرانية منفصلة عن روسيا. الأمير الكبير ينتمي إلى موسكو وليس إلى كييف.

منذ الحرب، ضاعف بوتين من حججه التاريخية. فقد انتدب في مطلع الحرب وزير الثقافة السابق ومساعده المقرب فلاديمير ميدينسكي لقيادة الوفد الروسي في محادثات مع أوكرانيا. وفقا لأكاديمي روسي مطلع، كان ميدينسكي أحد الكتّاب الفعليين لسلسلة من المقالات التي كتبها بوتين عن أوكرانيا وانصهارها المفترض مع روسيا. وسرعان ما أصبح واضحاً، كان دور ميدينسكي الوجيز يتمثل في التأكيد على مطالبات روسيا التاريخية من أوكرانيا والدفاع عن روايات بوتين المشوهة، وليس فقط للتفاوض على حلّ دبلوماسي.

 

إن تأكيدات بوتين، بطبيعة الحال، عبارة عن خرافات تاريخية مليئة بمجموعة من التناقضات الزمنية والواقعية. ادعاءاته تتجاهل، على سبيل المثال، حقيقة أنه في عام 988، كانت فكرة دولة وإمبراطورية روسية موحدة بعيدة لقرون في المستقبل. في الواقع، فإنّ أول إشارة إلى موسكو كمكان ذي أهمية لم يحصل حتى عام 1147.

إلقاء اللوم على البلاشفة

عشية الغزو، ألقى بوتين خطاباً اتهم فيه الزعيم البلشفي فلاديمير لينين بتدمير الإمبراطورية الروسية من خلال إطلاق ثورة خلال الحرب العالمية الأولى ثم "فصل وقطع ما يُعد تاريخياً أرضاً روسيّة". على حد تعبير بوتين، أنشأت "روسيا البلشفية الشيوعية" "بلداً لم يكن موجوداً من قبل" - أوكرانيا - من خلال حصر الأراضي الروسية مثل منطقة دونباس، مركز الصناعات الثقيلة، في جمهورية أوكرانيّة اشتراكيّة جديدة.

في الواقع، أعاد لينين والبلاشفة إنشاء الإمبراطورية الروسية وأطلقوا عليها اسماً آخر. لقد أسسوا جمهوريات اشتراكية سوفياتية منفصلة لأوكرانيا ومناطق أخرى لتمييز أنفسهم عن القياصرة الإمبرياليين، الذين حكموا دولة موحَّدة تسود فيها اللغة الروسية واضطهدوا الأقليات العرقية. لكن بالنسبة إلى بوتين، كان قرار البلاشفة غير شرعي، إذ سلب روسيا إرثها وأثار "القوميين المتحمسين" في أوكرانيا، الذين طوروا بعد ذلك أفكاراً خطرة عن الاستقلال. يزعم بوتين أنه يعكس هذه "الأخطاء الاستراتيجية" التي تعود لقرن من الزمان.

لعبت الروايات حول الناتو أيضاً دوراً خاصاً في السرد التاريخي لبوتين. يجادل بوتين بأن الناتو هو أداة للإمبريالية الأميركية ووسيلة للولايات المتحدة لمواصلة احتلالها وهيمنتها المزعومين لأوروبا والعائد إلى الحرب الباردة. وهو يدعي أن الناتو أجبر الدول الأعضاء في أوروبا الشرقية على الانضمام إلى المنظمة ويتهمها بالتوسع من جانب واحد في مجال نفوذ روسيا. في الواقع، كانت تلك الدول، التي لا تزال خائفة بعد عقود من الهيمنة السوفياتية، تطالب بأن تصبح أعضاءً في الحلف.

لكن وفقاً لبوتين، فإن هذه التصرفات المزعومة من قبل الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي أجبرت روسيا على الدفاع عن نفسها ضد التعدي العسكري. ويزعم أن موسكو لم يكن لديها "خيار آخر"، سوى غزو أوكرانيا لمنعها من الانضمام إلى حلف الناتو، على رغم أن الناتو لم يكن في وارد قبولها عضواً. في السابع من يوليو (تموز) 2022، أخبر بوتين قادة الأحزاب في البرلماني الروسي أن الحرب في أوكرانيا أطلقها "الغرب الجماعي"، الذي كان يحاول احتواء روسيا و"فرض نظامه العالمي الجديد على بقية العالم".

ويستحضر بوتين أيضاً الدور الإمبريالي لروسيا. في التاسع من يونيو (حزيران) 2022، في مؤتمر بموسكو، أخبر بوتين رجال الأعمال الروس الشباب أن أوكرانيا "مستعمرة" وليست دولة ذات سيادة. وشبه نفسه ببطرس الأكبر، الذي شن "حرب الشمال الكبرى" لمدة 21 عاماً ضد السويد - "معيداً ومعززاً" السيطرة على الأراضي التي كانت سابقاً جزءاً من روسيا. يعكس هذا التفسير أيضاً ما قاله بوتين للرئيس الأميركي جورج بوش في قمة الناتو في أبريل (نيسان) 2008 في بوخارست: "أوكرانيا ليست دولة حقيقية".

كانت الولايات المتحدة، بالطبع، ذات يوم مستعمرة لبريطانيا العظمى. وكذلك كانت أستراليا وكندا والهند وإيرلندا والعديد من الدول الأخرى التي كانت مستقلة وذات سيادة لعقود. هذا لا يجعلهم بريطانيين أو يعطي المملكة المتحدة مطالبة معاصرة لممارسة السيطرة على مصائرهم، على رغم أن العديد من هذه البلدان لديها اللغة الإنجليزية كلغة أولى أو ثانية. ومع ذلك، يصر بوتين على أن المتحدثين باللغة الروسية في أوكرانيا هم جميعهم من رعايا موسكو، وأن جميع المتحدثين بالروسية على مستوى العالم هم جزء من "العالم الروسي"، ولهم روابط خاصة مع الوطن الأم.

 

لكن في أوكرانيا، أدت مساعيه إلى نتائج عكسية. منذ 24 فبراير 2022، ساعد إصرار بوتين على أن الأوكرانيين الذين يتحدثون الروسية هم روس، على العكس من ذلك، في تشكيل هوية وطنية جديدة في أوكرانيا تتمحور حول اللغة الأوكرانية. كلما حاول بوتين محو الهوية الوطنية الأوكرانية بالقنابل وقذائف المدفعية، كلما أصبحت أقوى.

ملاحقة النازيين

أوكرانيا والأوكرانيون لهم تاريخ معقد. لقد جاءت الإمبراطوريات وذهبت، وتغيرت الحدود لعدة قرون، لذلك فإن الأشخاص الذين يعيشون على الأراضي الأوكرانية الحديثة لديهم هويات مركبة ومتغيرة. لكن أوكرانيا كانت دولة مستقلة منذ عام 1991، وبوتين منزعج حقاً لأن الأوكرانيين يصرون على دولتهم وهويتهم المدنية.

خذ على سبيل المثال إشارات بوتين المتكررة إلى الحرب العالمية الثانية. منذ عام 2011، كرّس بوتين "حرب الوطنية العظمى" باعتبارها الحدث الأساس لروسيا الحديثة. لقد فرض بصرامة السردية الرسمية للصراع. كما صور عمليته الحالية استكمالاً لها؛ على حد قول بوتين، فإن غزو أوكرانيا يهدف إلى تحرير البلاد من النازيين. لكن بالنسبة إلى بوتين، فإن الأوكرانيين هم نازيون ليس لأنهم يتبعون تعاليم أدولف هتلر أو يعتنقون الاشتراكية الوطنية. إنهم نازيون لأنهم "قوميون متحمسون" - شبيهون بالمناضل (البارتيزان) المثير للجدل في حقبة الحرب العالمية الثانية الأوكراني ستيبان بانديرا، الذي قاتل مع الألمان ضد القوات السوفياتية. إنهم نازيون لأنهم يرفضون الاعتراف بأنهم روس.

روايات بوتين الخيالية حول النازيين الأوكرانيين اكتسبت زخماً محلياً أكثر من أي مكان آخر. ومع ذلك، على الصعيد الدولي، وَجَدَت ادعاءات بوتين في شأن الناتو والحروب بالوكالة مع الولايات المتحدة والغرب الجماعي أذاناً صاغية لدى مجموعة متنوعة من الأطراف، من أكاديميين بارزين إلى البابا فرانسيس، الذي قال في يونيو 2022 إن حرب أوكرانيا "ربما نشبت بسبب استفزاز ما". يواصل السياسيون والمحللون الغربيون مناقشة ما إذا كان الناتو هو المسؤول عن الحرب. تستمر هذه الحجج على رغم أن ضم بوتين لشبه جزيرة القرم عام 2014 جاء رداً على جهود أوكرانيا للانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، وليس حلف شمال الأطلسي. واستمر الجدل، على رغم أنه عندما تقدمت فنلندا والسويد للانضمام إلى التحالف في يونيو 2022، وعلى رغم تهديدات روسيا على مدى شهور، أخبر بوتين المراسلين أن المسؤولين في الكرملين "ليست لديهم مشكلات مع السويد وفنلندا كتلك التي مع أوكرانيا". إذن، لم تكن مشكلة بوتين هي مشكلة الناتو على وجه الخصوص، بل رغبة أوكرانيا في الارتباط بكيان أو دولة أخرى غير روسيا. وسواء أرادت أوكرانيا الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي أو الناتو أو إقامة علاقات ثنائية مع الولايات المتحدة - فإن أياً من هذه الجهود كان سيشكل إهانة لتاريخ روسيا وكرامتها.

لكن بوتين يعلم أنه سيكون من الصعب التفاوض على تسوية في أوكرانيا بناءً على سرديته للتاريخ والتوفيق بين قصص متناقضة جذرياً والتي تتحدث عن الماضي.

نشأت معظم الدول الأوروبية الحديثة من أنقاض الإمبراطوريات وتفكك دول أكبر متعددة الأعراق. يمكن أن تؤدي الحرب في أوكرانيا إلى مزيد من التدخل الروسي لتأجيج الصراعات المحتدمة في الدول الضعيفة مثل البوسنة والهرسك ودول البلقان الأخرى، حيث يوجد خلاف أيضاً حول التاريخ والمطالبات الإقليمية.

ومع ذلك، وبغض النظر عن الكلفة المحتملة، فإن بوتين يريد أن تسود سرديته للماضي في الحاضر السياسي لأوروبا. وللتأكد من حدوث ذلك، فإن الجيش الروسي في الميدان، بكامل قوته، يقاتل الجيش الأوكراني النظامي. على عكس الوضع في دونباس من 2014 إلى 2022، عندما أنكرت روسيا زوراً تورطها، فإن هذه الحرب هي صراع مباشر بين الدولتين. كما قال بوتين للبرلمانيين الروس في 7 يوليو، إنه مصمم على القتال حتى النهاية. وقال: "إلى حد كبير، لم نبدأ بعد المرحلة الجدية"، على رغم أنه يرى الأوكرانيين على أنهم "إخوة".

بأيَّ ثمن

يكره بوتين بشدة حقيقة أنّ الولايات المتحدة والدول الأوروبية تدعمان أوكرانيا عسكرياً. رداً على ذلك، فإنّه شنّ حرباً اقتصادية وإعلامية ضد الغرب، مما يشير بوضوح إلى أن هذا ليس مجرد صراعٍ عسكري ومعركة حول من "سيكتب التاريخ". لقد قامت روسيا بتحويل الطاقة والحبوب والسلع الأخرى إلى سلاح. لقد نشرت معلومات مضللة، بما في ذلك من خلال اتهام أوكرانيا بارتكاب الفظائع التي ارتكبتها روسيا في ساحة المعركة، وإلقاء اللوم على العقوبات الغربية في تفاقم المجاعات في إفريقيا عندما كانت روسيا هي التي منعت شحنات الحبوب الأوكرانية إلى القارة من البحر الأسود. وفي أجزاء كثيرة من العالم، تكسب روسيا الحرب الإعلامية. حتى الآن، لم يكن الغرب قادراً على أن يكون فعالاً بشكل كامل في الفضاء الإعلامي.

ومع ذلك، كان الدعم الغربي لأوكرانيا كبيراً. يحتوي هذا الدعم على عنصرين رئيسين: الأسلحة والعقوبات، بما في ذلك أنظمة الصواريخ عالية الحركة (هيمارس) HIMARS من الولايات المتحدة، والتي زادت بشكل كبير من قدرة أوكرانيا على ضرب الأهداف الروسية. كما قدم أعضاء آخرون في الناتو أسلحة ومساعدات إنسانية. لكن حاجة أوكرانيا المستمرة إلى تجديد أسلحتها بدأت بالفعل في استنفاد ترسانات الدول المانحة.

العقوبات الغربية التي فرضت على قطاعات الطاقة والمال والحظر على الصادرات كانت شاملة وواسعة النطاق، وهي تؤثر في الاقتصاد الروسي. لكن العقوبات لا يمكن أن تغير وجهة نظر بوتين للتاريخ أو تصميمه على إخضاع أوكرانيا، لذا فهي لم تغير حساباته أو أهدافه الحربية. في الواقع، يقول المراقبون المقربون إنّ بوتين نادراً ما استشار مستشاريه الاقتصاديين خلال هذه الحرب، باستثناء إلفيرا نابيولينا، حاكمة البنك المركزي، التي أدارت بذكاء قيمة الروبل. هذا انفصال صارخ عن الماضي، عندما كان بوتين دائماً مهتماً للغاية بالاقتصاد الروسي ومتشوقاً لمناقشة الإحصاءات ومعدلات النمو بتفصيل كبير. ولم يعد يكترث في شأن المخاوف من تأثير الحرب على الاقتصاد في المدى طويل.

وحتى الآن، تحمّل الاقتصاد الروسي العقوبات، على رغم أنه من المتوقع أن تنخفض معدلات النمو هذا العام. ستظهر الضائقة الحقيقية من ضوابط التصدير الغربية في عام 2023، عندما تفتقر روسيا إلى أشباه الموصلات وقطع الغيار لقطاعها التصنيعي، وستضطر مصانعها الصناعية إلى الإغلاق. ستعاني صناعة النفط في البلاد بشكل خاص لأنها تخسر التكنولوجيا والبرمجيات من صناعة النفط الدولية.

فرضت أوروبا والولايات المتحدة عقوبات واسعة النطاق على روسيا في مجال الطاقة، مع التزام الاتحاد الأوروبي بالتخلّص التدريجي من واردات النفط من روسيا بحلول نهاية عام 2022. لكن الحدّ من واردات الغاز يمثل تحدياً أكبر بكثير، إذ إن عدداً من البلدان، بما في ذلك ألمانيا، لديها بدائل قليلة لتحل محل الغاز الروسي على المدى القصير، وقد استخدم بوتين الطاقة كسلاح من خلال الحدّ بشدة من إمدادات الغاز إلى أوروبا. لمدة 50 عاماً قدّم الاتحاد السوفياتي وروسيا نفسيهما كموردين موثوقين للغاز الطبيعي لأوروبا الغربية في علاقة تبعية متبادلة: كانت أوروبا بحاجة إلى الغاز وموسكو بحاجة إلى عائدات الغاز. لكن هذه العلاقة انتهت.

 

يعتقد بوتين أن بإمكان روسيا التخلي عن هذه الإيرادات لأن الدول التي لا تزال تشتري النفط والغاز الروسي تدفع أسعاراً أعلى مقابل ذلك – والذي أسهم في ارتفاع الأسعار هو تقليص الصادرات الروسية إلى أوروبا. وحتى إذا خسرت روسيا في النهاية عائدات الطاقة، يبدو أن بوتين مستعد لدفع هذا الثمن. ما يهتم به في النهاية هو تقويض الدعم الأوروبي لأوكرانيا.

تمتد الحرب الاقتصادية وحرب الطاقة الروسية إلى عسكرة الطاقة النووية. استولت روسيا على مفاعل تشيرنوبيل في أوكرانيا في بداية الحرب، بعد إرسال الجنود الروس بتهور إلى "منطقة الخطر" شديدة الإشعاع وإجبار الموظفين الأوكرانيين في المصنع على العمل في ظروف خطرة. ثم تخلت عن المعمل بعد أن عرّضت الجنود للإشعاع السام. وفي وقت لاحق قصفت روسيا واستولت على محطة زابوروجيا للطاقة النووية في أوكرانيا، وهي الأكبر في أوروبا، وحولتها إلى قاعدة عسكرية. من خلال مهاجمة محطة الطاقة وتحويلها إلى حامية عسكرية، خلقت روسيا أزمة سلامة لآلاف العمال هناك. حملة بوتين واسعة النطاق لا تتوقف عند الطاقة النووية.

كما قامت روسيا بتحويل الإمدادات الغذائية إلى سلاح، وحاصرت أوكرانيا ومنعتها من تصدير مخزونها الوافر من الحبوب والأسمدة. في يوليو (تمّوز) 2022، توسطت تركيا والأمم المتحدة لاتفاق يسمح لأوكرانيا وروسيا بتصدير الحبوب والأسمدة، لكن تنفيذ هذه الصفقة واجه عقبات عدة، نظراً إلى الحرب الدائرة في منطقة البحر الأسود. في الواقع، فور التوقيع الرسمي على الاتفاق، قصفت روسيا بعض البنية التحتية في ميناء أوديسا في أوكرانيا.

لقد عاد بوتين إلى تكتيك عسكري روسي تاريخي آخر – إبطاء العدو وانتظار الشتاء. مثلما خطط أسلافه لمحاصرة جيوش نابليون في الثلوج بالقرب من موسكو وتجميد الجنود النازيين حتى الموت خارج ستالينغراد، يخطط بوتين لجعل المواطنين الفرنسيين والألمان يرتجفون في منازلهم. في خطابه في منتدى سانت بطرسبرغ الاقتصادي الدولي في يونيو 2022، توقع بوتين أنه في الوقت الذي يواجه فيه الأوروبيون شتاءً بارداً ويعانون العواقب الاقتصادية للعقوبات التي فرضتها حكوماتهم على روسيا وعلى صادرات الغاز الروسية، ستبرز الأحزاب الشعبوية، ونخب جديدة ستصل إلى السلطة. عززت الانتخابات البرلمانية في فرنسا في يونيو 2022 قناعات بوتين، عندما زاد حزب مارين لوبان اليميني المتطرف من تمثيله البرلماني بمقدار 11 ضعفاً وهو أمر إلى حد كبير حصل بسبب عدم رضا الناخبين عن وضعهم الاقتصادي. وهذا الاستياء من الوضع الاقتصادي، أرجع إلى كونه السبب في انهيار حكومة رئيس الوزراء الإيطالي ماريو دراغي في يوليو 2022 والعودة المحتملة لرئيس وزراء شعبوي موالي لروسيا في الخريف. يهدف الكرملين إلى كسر الوحدة الغربية ضد روسيا تحت ضغط نقص الطاقة وارتفاع الأسعار والصعوبات الاقتصادية.

في غضون ذلك، يبدو بوتين واثقاً من قدرته على الانتصار. سطحياً، يبدو الدعم الشعبي للحرب داخل روسيا قوياً إلى حد معقول. أظهر استطلاع أجراه مركز ليفادا المستقل أن نسبة تأييد بوتين ارتفعت بعد بدء الغزو. ومع ذلك، هناك سبب وجيه للشك في قوة الدعم الصريح له. وغادر البلاد مئات الآلاف من المعارضين للحرب. كثير منهم، من خلال القيام بذلك، قالوا صراحة إنهم يريدون أن يكونوا جزءاً من مستقبل روسيا ولكن ليس ذاك الذي يحاول فلاديمير بوتين نسخه من الماضي. الروس الذين بقوا وانتقدوا الحرب علنا ​​تعرضوا للمضايقة أو السجن. بعضهم الآخر غير مبال، أو يؤيد الحرب بشكل غير فعّال. في الواقع، تستمر الحياة بالنسبة إلى معظم الناس في موسكو وغيرها من المدن الروسية الكبرى كالمعتاد. حتى الآن، المجندون الذين تم إرسالهم للقتال والموت ليسوا أبناء النخب الروسية أو الطبقة الوسطى الحضرية. إنهم من مناطق ريفية فقيرة، وكثير منهم ليسوا من أصل روسي. الشائعات المنتشرة بعد خمسة أشهر من القتال بأنّ مجموعة المرتزقة فاغنر المرتبطة بالسلطات تقوم بتجنيد سجناء للقتال، تشير إلى أن روسيا تواجه نقصاً حاداً في القوى العاملة. لكن يتم حث القوات من خلال الدعاية التي تجرد الأوكرانيين من إنسانيتهم ​​وتجعل القتال يبدو أكثر استساغة.

فرّق تسد

على رغم دعوات بعضهم إلى تسوية تفاوضية تتضمن تنازلات أوكرانيّة عن أراضيها، يبدو أن بوتين غير مهتم بالتسوية التي من شأنها أن تترك أوكرانيا كدولة مستقلة ذات سيادة - بغض النظر عن حدودها. وفقاً للعديد من كبار المسؤولين الأميركيين السابقين الذين تحدثنا إليهم، في أبريل 2022، بدا أن المفاوضين الروس والأوكرانيين قد اتفقوا مبدئياً على الخطوط العريضة لتسوية موقتة تفاوضية: ستنسحب روسيا إلى مواقعها في 23 فبراير، حين كانت تسيطر على جزء من منطقة دونباس، وكامل شبه جزيرة القرم، وفي المقابل، تتعهد أوكرانيا بعدم السعي إلى نيل عضوية الناتو وبدلاً من ذلك تتلقى ضماناتٍ أمنية من عددٍ من البلدان. لكن كما صرح وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف في مقابلة في يوليو مع وسائل الإعلام الحكومية في بلاده، فإن هذا الحلّ الوسط لم يعد خياراً. حتّى منح روسيا كل دول دونباس لا يكفي. وأكّد لافروف في وصفه للأهداف العسكرية قصيرة المدى لروسيا: "اختلفت الجغرافيا الآن. إنها أيضاً مناطق خيرسون وزابوروجيا وعدد من المناطق الأخرى". من الواضح أنّ الهدف ليس التفاوض بل الاستسلام الأوكراني.

بكل الأحوال، فإن المفاوضات مع روسيا - إذا لم يتم التعامل معها بعناية مع استمرار الدعم الغربي القوي لدفاع أوكرانيا وأمنها – لن تعدو أكثر من كونها استراحة من العمليات لموسكو. بعد فترة، ستواصل روسيا محاولة تقويض الحكومة الأوكرانية. من المرجح أن تحاول موسكو أولاً الاستيلاء على أوديسا وموانئ أخرى على البحر الأسود بهدف جعل أوكرانيا دولة حبيسة وغير قادرة اقتصادياً. إذا نجحت في ذلك، سيشن بوتين هجوماً جديداً على كييف أيضاً، بهدف الإطاحة بالحكومة الحالية وتنصيب حكومة تابعة وموالية لموسكو. إذن، من المرجح أن تستمر حرب بوتين في أوكرانيا لفترة طويلة. سيكون التحدي الرئيس للغرب هو الحفاظ على العزيمة والوحدة، فضلاً عن توسيع الدعم الدولي لأوكرانيا ومنع التهرب من العقوبات.

هذا لن يكون سهلاً. كلما طالت مدّة الحرب، زاد تأثير السياسة الداخلية على مسارها. ستشهد كل من روسيا وأوكرانيا والولايات المتحدة انتخابات رئاسية في عام 2024. وعادة ما تجري انتخابات روسيا وأوكرانيا في مارس (آذار). نتيجتها في روسيا مقررة سلفاً: إما أن يعود بوتين إلى السلطة، أو يرثه خليفته، شخصية تدعم الحرب وتعادي الغرب وعلى الأرجح من الأجهزة الأمنية. لا يزال زيلينسكي يتمتع بشعبية في أوكرانيا كرئيس في زمن الحرب، لكنه سيكون أقل احتمالاً للفوز في الانتخابات إذا قدّم تنازلات في الأراضي. وإذا أصبح دونالد ترمب أو جمهوري له وجهات نظر مماثلة رئيساً للولايات المتحدة في عام 2025، فسوف يتضاءل دعم الولايات المتحدة لأوكرانيا.

 

ستلعب السياسة الداخلية أيضاً دوراً خارج هذه البلدان الثلاثة - وفي الواقع، خارج الغرب تماماً. قد ترغب الولايات المتحدة وحلفاؤها في عزل روسيا، لكن عدداً كبيراً من دول الجنوب، بقيادة الصين، تعتبر الحرب الروسية - الأوكرانية صراعاً أوروبياً محلياً لا يؤثر فيها. حتى أن الصين تبنّت خطاباً داعماً لروسيا، ورفضت فرض عقوبات عليها، ودعمتها في الأمم المتحدة. (لا ينبغي التقليل من أهمية استدامة تحالف روسيا مع الصين وأهميته). لخص وزير الخارجية الهندي سوبراهمانيام جايشانكار موقف العديد من الدول النامية عندما قال إنّ روسيا "شريك مهم للغاية في عدد من المجالات". بالنسبة إلى كثير من دول الجنوب، تتركز الاهتمامات على الوقود والغذاء والأسمدة وأيضاً الأسلحة. يبدو أن هذه الدول ليست قلقة من أنّ روسيا قد انتهكت ميثاق الأمم المتحدة والقانون الدولي من خلال شن هجوم غير مبرر على أراضي دولة مجاورة.

هناك سبب لعدم انضمام هذه الدول إلى الولايات المتحدة وأوروبا في عزل موسكو. منذ عام 2014، دأب بوتين على التودد إلى "بقية الدول" - العالم النامي - حتى مع تردّي علاقات روسيا مع الغرب. في عام 2015، على سبيل المثال، أرسلت روسيا جيشها إلى الشرق الأوسط لدعم الرئيس السوري بشار الأسد في الحرب الأهلية في بلاده. منذ ذلك الحين، أقامت روسيا علاقات مع القادة على جميع أطراف النزاعات الدائرة في تلك المنطقة، لتصبح واحدة من القوى الكبرى الوحيدة القادرة على التحدث إلى جميع الأطراف. تتمتع روسيا بعلاقات قوية مع إيران، ولكن أيضاً مع أعداء إيران: لا سيما مصر وإسرائيل والسعودية ودول الخليج الأخرى. في أفريقيا، تقدم الجماعات شبه العسكرية الروسية الدعم لعدد من القادة. وفي أميركا اللاتينية، ازداد النفوذ الروسي مع وصول مزيد من الحكومات اليسارية إلى السلطة. هناك وفي أماكن أخرى، لا يزال يُنظر إلى روسيا على أنها نصيرة للمضطهدين ضد الصورة النمطية للإمبريالية الأميركية. ينظر كثير من الناس في دول الجنوب إلى روسيا على أنها وريث الاتحاد السوفياتي، الذي دعم حركات التحرر الوطني بعد الاستعمار، وليس نسخة حديثة من الإمبراطورية الروسية.

لا ترفض كثير من دول العالم انتقاد أو معاقبة روسيا وحسب؛ دول كبرى ببساطة لا تقبل وجهة نظر الغرب في شأن سبب الحرب أو مدى خطورة الصراع. وبدلاً من ذلك، ينتقدون الولايات المتحدة ويجادلون بأن ما تفعله روسيا في أوكرانيا لا يختلف عما فعلته الولايات المتحدة في العراق أو فيتنام. إنهم، مثل موسكو، يبررون الغزو الروسي على أنه ردّ على تهديد الناتو. ويرجع الفضل في ذلك جزئياً إلى دعاية الكرملين، التي تضخم سرديات بوتين حول الناتو والحروب بالوكالة والأعمال الشائنة للغرب.

ولم تكن المؤسسات الدوليّة في مكانٍ أفضل من الدول النامية. أثبتت الأمم المتحدة ومنظمة الأمن والتعاون في أوروبا عدم قدرتهما على منع أو وقف هذه الحرب. إنهم يبدون بشكل متزايد ضحايا نظرة بوتين المشوهة للماضي، فضلاً عن أنهم منظمون بشكل سيئ لمواجهة تحديات الحاضر.

أوهام العظمة

توحي تلاعبات بوتين بالتاريخ بأن مزاعمه تتجاوز حدود أوكرانيا، لتطاول أوروبا وأوراسيا. قد تكون دول البلطيق على جدول أعماله الاستعماري، وكذلك بولندا، التي حكمت روسيا جزءاً منها من 1772 إلى 1918. كان جزء كبير من مولدوفا الحالية جزءاً من الإمبراطورية الروسية، واقترح المسؤولون الروس أن هذه الدولة يمكن أن تكون التالية في مسارهم. كانت فنلندا أيضاً جزءاً من الإمبراطورية الروسية بين عامي 1809 و1918. قد لا يكون بوتين قادراً على غزو هذه البلدان، لكن تصريحاته المبالغ فيها حول استعادة المستعمرات الروسية تهدف إلى ترهيب جيرانه وإخلال توازنهم. في عالم بوتين المثالي، سيكتسب النفوذ والسيطرة على سياساتهم من خلال تهديدهم إلى أن يسمحوا لروسيا بإملاء سياساتهم الخارجية والداخلية.

في رؤية بوتين، ستبقى دول الجنوب، على الأقل، محايدة في المواجهة بين روسيا والغرب. ستدعم الدول النامية موسكو بنشاط. مع سعي منظمة "بريكس" - البرازيل وروسيا والهند والصين وجنوب إفريقيا – إلى التوسع لتشمل الأرجنتين وإيران وربما مصر والسعودية وتركيا، قد تكتسب روسيا مزيداً من الشركاء، الذين يمثلون معاً نسبة كبيرة من الناتج المحلي الإجمالي العالمي ونسبة كبيرة من سكان العالم. ستظهر روسيا بعد ذلك كزعيمة للعالم النامي، كما كان الحال مع الاتحاد السوفياتي خلال الحرب الباردة.

كل هذا يؤكد سبب ضرورة قيام الغرب (أستراليا وكندا واليابان ونيوزيلندا وسنغافورة وكوريا الجنوبية والولايات المتحدة وأوروبا) بمضاعفة جهوده للبقاء موحداً في دعم أوكرانيا ومواجهة روسيا. على المدى القريب، يعني ذلك العمل معاً على التصدي للتضليل الروسي في شأن الحرب والروايات التاريخية الزائفة، فضلاً عن جهود الكرملين الأخرى لتخويف أوروبا - بما في ذلك من خلال التهديد النووي المتعمد وقطع الطاقة. أمّا على المدى المتوسط إلى الطويل، يجب على الولايات المتحدة وحلفائها وشركائها مناقشة كيفية إعادة هيكلة الهيكل الأمني الدولي والأوروبي لمنع روسيا من مهاجمة الجيران الآخرين الذين تعتبرهم ضمن مجالها الحيوي. لكن في الوقت الحالي، يعد الناتو المؤسسة الوحيدة التي يمكنها ضمان أمن أوروبا. والواقع أن قرار فنلندا والسويد بالانضمام كان مدفوعاً جزئياً بهذا الإدراك.

بينما يتطلع بوتين إلى تربعه لنحو ربع قرن في السلطة، يسعى إلى بناء نسخته من الإمبراطورية الروسية. إنه "يلملم الأراضي" كما فعلت أيقوناته الشخصية - القياصرة الروس العظماء - ويقلب إرث لينين والبلاشفة ونظام ما بعد الحرب الباردة. وبهذه الطريقة، يريد بوتين أن تكون روسيا الاستثناء الوحيد للصعود والسقوط الذي لا يرحم الدول الإمبريالية. في القرن العشرين، انهارت الإمبراطورية النمساوية - المجرية والإمبراطورية العثمانية بعد الحرب العالمية الأولى. تخلت بريطانيا وفرنسا على مضض عن إمبراطورياتهما بعد الحرب العالمية الثانية. لكن بوتين يصر على إعادة روسيا القيصرية. وبغض النظر عما إذا كان سينتصر في أوكرانيا، فإن مهمة بوتين أدّت بالفعل إلى تأثير واضح ومثير للسخرية، سواء على أوروبا أو على التقدم الاقتصادي لروسيا على مدى 22 عاماً. من خلال محاولة إعادة الوضع الإمبراطوري لروسيا عبر السعي إلى إعادة احتلال أوكرانيا، يقلب بوتين رأساً على عقب أحد أعظم إنجازات بطله المُعلن. خلال فترة حكمه، فتح بطرس الأكبر "نافذة على الغرب" بالسفر إلى أوروبا، ودعوة الأوروبيين إلى المجيء إلى روسيا والمساعدة في تطوير اقتصادها، واعتماد مهارات الحرفيين الأوروبيين وتكييفها. أغلقت غزوات فلاديمير بوتين وتوسعاته الإقليمية تلك النافذة. لقد أعادوا الأوروبيين وشركاتهم إلى أوطانهم ودفعوا جيلاً من الروس الموهوبين إلى الفرار إلى المنفى. أخذ بطرس روسيا إلى المستقبل. والآن يعيدها بوتين إلى الماضي.

فيونا هيل هي زميلة كبرى في مركز الولايات المتحدة وأوروبا في برنامج السياسة الخارجية في معهد بروكينغز. وشغلت من عام 2017 إلى عام 2019، منصب المدير الأول لأوروبا وروسيا في مجلس الأمن القومي الأميركي. وهي مؤلفة كتاب "لا يوجد شيء لك هنا: البحث عن فرصة في القرن الحادي والعشرين" There Is Nothing for You Here: Finding Opportunity in the Twenty-first Century.

أنجيلا ستينت زميل كبير غير مقيم في معهد بروكينغز وأستاذ فخري بجامعة جورجتاون. وهي مؤلفة كتاب "عالم بوتين: روسيا ضد الغرب ومع البقية" Putin’s World: Russia Against the West and With the Rest.

مترجم عن فورين أفيرز عدد سبتمبر/أكتوبر 2022

المزيد من تحلیل