Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

متحف "ويتني" للفن الأميركي استقر أخيرا بين يدي الإيطالي رنزو بيانو

كيف ثأرت المليارديرة الأميركية جيرترود من "المتروبوليتان" بعد نحو قرن؟

لوحة زيتية تعود إلى عشرينيات القرن الماضي تمثل جيرترود فاندربلات ويتني (موقع المتحف)

لكثرة ما أنجز المعماري الإيطالي الأصل رنزو بيانو المولود في جنوى، والذي تلقى دراسته في مهد الفنون التشكيلية والعمرانية في فلورنسا، من متاحف في أماكن متفرقة من العالم منذ ارتبط اسمه عند بدايات سبعينيات القرن العشرين بمركز بومبيدو الثقافي وسط العاصمة الفرنسية، لم يتوقف الطلب عليه في هذا المجال، إذ بات واحداً من كبار المتخصصين فيه وصولاً إلى تحقيقه في نيويورك المستقر الأخير، حتى الآن على الأقل، متحف "ويتني" للفنون الأميركية الذي افتتح تجديده الأخير عند بداية عام 2015 ليجتذب في العام التالي وحده ما يزيد على مليون و150 ألف زائر، ما وضعه في مقدمة المتاحف النيويوركية التي يحرص هواة الفنون على زيارتها، ولئن كان من المعروف أن هذا التجديد إنما أحدث تبديلاً جذرياً في متحف نيويوركي قائم بالفعل منذ عام 1930، فإن ما يلفت الانتباه حقاً هو أن متحف ويتني هذا كان منذ تأسيسه واحداً من أكثر المتاحف تشرداً في نيويورك، ناهيك عن كونه واحداً من متاحف قليلة تحمل اسم شخص محدد هو اسم الفنانة الثرية الأميركية هاوية الفنون وجامعتها غرترود فاندربلت ويتني، ولنضف إلى هذا أن ويتني إنما أقامته في الأصل انطلاقاً من نزوة رافقتها سورة غضب مكنتها ثروتها الضخمة من تنفيذها، كما سنرى بعد أسطر.

بين نيويورك وباريس

ولكن قبل هذا قد يكون من الأفضل أن نتعرف إلى هذه السيدة التي عاشت بين مسقط رأسها نيويورك سيتي حيث ولدت في عام 1875 ومانهاتن حيث رحلت في عام 1942 عن 67 سنة، واسمها ملأ السمع والبصر، ليس فقط لكونها سليلة واحدة من أغنى عائلات المدينة، فاندربلت، وزوجة سليل عائلة ويتني التي لا تقل عنها غنى، وليس فقط لكونها مؤسسة ذلك المتحف الذي نتحدث عنه، بل كذلك وبخاصة بالنسبة إليها، لكونها رسامة ونحاتة وجامعة لوحات ومناضلة اجتماعية سخرت قسماً كبيراً من ثروتها لا سيما منذ رحيل زوجها عام 1930 تاركاً لها أموالاً وممتلكات لا تعد ولا تحصى، لرعاية الفنون والفنانين مركزة اهتمامها على الفن الأميركي في القرنين التاسع عشر والعشرين، ومكونة تلك المجموعة الأسطورية التي تضم مئات اللوحات وألوف القطع الأخرى، ولن يكون من المغالاة هنا على أية حال أن كل هذا التوجه قد ولد لدى غرترود عند بدايات القرن العشرين حين عاشت، ثرية أميركية متنورة، بين "مونمارتر" و"مونبارناس" عاصمتي الفنون العالمية وسط باريس، وراحت تتعرف إلى كل ما هو فن حديث وتتساءل بينها وبين نفسها، متى سيكون لنيويورك مكانة فنية مشابهة؟ وبالنسبة إليها شخصياً، من الواضح أن كل ما رأته في باريس وبخاصة من أعمال رودان ومايول قد دفعها في اتجاه النحت الذي سوف تبرع فيه لاحقاً.

أسماء مستعارة

في السنوات التالية ستنصرف غيرترود إلى النحت متنقلة بين "غرينتش فيلدج" في نيويورك، واستديو جعلته لنفسها في منطقة "باسي" الباريسية، وستنجز منحوتات لن تعرضها في نيويورك إلا باسم مستعار خشية أن يعاملها النقد سلباً أو إيجاباً انطلاقاً من مكانتها الاجتماعية وثروتها، وفي الوقت نفسه، وخلال تنقلها، راحت تقتني ما يعرض عليها من لوحات لرسامين أميركيين شبان أو أقل شباباً حتى اجتمع لديها خلال السنوات الـ 25 الأولى من هذا الاهتمام أكثر من 700 لوحة، فرأت أن الوقت قد حان لكي تُعرض هذه اللوحات عروضاً دائماً، وكان أن توجهت إلى "المتروبوليتان ميوزيوم" للفن الحديث في نيويورك عارضة عليهم أن تهبهم تلك المجموعة وأن تبني لها جناحاً بأكمله يضمها تابعاً لذلك المتحف العريق، وكانت المفاجأة المذهلة أن أمانة "المتروبوليتان" رفضت العرض بحجة أن هذا المتحف لا يريد أن يعرض فناً أميركياً خالصاً، وغضبت غرترود لكنها لم تتردد، بل قررت أن تنشئ متحفاً خاصاً لمجموعتها، وكان ذلك في عام 1931، وتمخضت فكرتها الأولى عن العمل لتجديد وتوسيع استديو كان يخصها وعينت جوليانا فورس، التي كانت تعمل معاونة لها منذ عام 1914، مديرة للمتحف الجديد، وكانت تلك البداية التي ستتلوها تنقلات كثيرة للمتحف ومجموعاته التي راحت تتزايد وتتنوع عاماً بعد عام.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

جولات نيويوركية

وهكذا، انطلاقاً من منطقة "وست فيلدج" بالقرب من مانهاتن، ستتنوع مقرات المتحف حتى يستقر بين 1966 و2014 في "ماديسون أفنيو" عند "آبر إيست سايد" مانهاتن في مبنى صممه مارسيل بروير وهاملتون سميث، وبالتوازي من مئات القطع راحت مجموعة المتحف تتضخم في وقت راحت فيه تكبر أسماء أصحاب اللوحات إلى درجة بات معها صاحب أكبر مجموعة من الفن الأميركي بتواقيع تتراوح بين جاكسون بولوك، وآندي وارهول، ولويز بورجوا، وروبيرت ماذرويل، ومان راي، وروبرت راوشنبرغ، ومارك روتكو، وقس على ذلك، بحيث ستصعب تسمية فنان أميركي من أقطاب القرن العشرين لا يملك المتحف لوحة أو أكثر من لوحة  من أعماله ويبلغ عدد المقتنيات اليوم 25000 عمل تحمل تواقيع 3500 فنان، وليس هذا فقط، بل إن المتحف يقيم بين الحين والآخر مناسبات شديدة الغرابة منها مثلاً في عام 1976 معرض فني لـ"بناء الأجسام" شارك فيه الممثل "أبو العضلات" آرنولد شوارزنيغر!

ثأر سيدة

إزاء هذا التطور بات من الواضح منذ بدايات القرن الجديد أن المتحف صار في حاجة إلى أن يتوسع في بنائه توسعاً يتلاءم ليس فقط مع حجم معروضاته وطموحه، بل كذلك مع الأعداد المتزايدة والأنواع المتميزة لزواره، وهكذا استقر الأمر على اختيار موقع جديد لإقامة مستقر نهائي له، كما أشرنا، كانت كلفته الأولية لا تقل عن 422 مليون دولار، وأسند التصميم إلى رنزو بيانو الذي كانت شهرته تعم العالم الفني لكونه قد صمم وأنشأ عدداً من أبرز المتاحف عدا عن "مركز بومبيدو" الباريسي مثل "معرض بول كلي"، و"الجناح المعاصر من معهد الفن في شيكاغو"، و"مركز جان ماري تجيباو" في كاليدونيا الجديدة، و"أوديتوريوم نيكولو باغانيني"، من دون أن ننسى "مورغان لايبريري"، بخاصة المبنى الجديد لصحيفة "نيويورك تايمز" وسط نيويورك، وعدداً من المشاريع المشابهة الأخرى، وفي هذه المرة اتخذ أمناء متحف "ويتني" قرارهم بأن يقوم المبنى الجديد في "وست فيلدج" بـ"لوير مانهاتن" على أرض تبلغ مساحتها 19 ألف متر مربع، على أن يتمحور النشاط كله من حول أكبر قاعة خالية من الأعمدة في المدينة كلها وتحاط بقاعة مسرح ومركز تربوي ومكتبة وغرفة قراءة، إضافة إلى مختبر علمي مهمته ترميم المقتنيات والمحافظة عليها بأحدث الطرق العلمية، ولما كان المشروع قد تجاوز ميزانيته الأولى وبات في حاجة إلى نحو 350 مليون دولار إضافية، جاء "الفرج" هذه المرة من لدن متحف "المتروبوليتان" نفسه في خطوة يمكننا اعتبارها نوعاً من "الاعتذار المتأخر نحو قرن من هذا الصرح الفني النيويوركي العريق" موجه للسيدة ويتني بعد أكثر من 70 عاماً مضت على رحيلها، وبعد كل تلك العقود التي شهدت غضبها على تلك المؤسسة، فقد أعلن "المتروبوليتان" في شهر مايو (أيار) 2011 أنه ارتبط باتفاق تعاقدي مع جماعة "ويتني" ينص على أن يشغل المبنى القديم لمتحف السيدة الراحلة والواقع في "ماديسون سكوير" متاخماً له، لتوسيع نشاطاته الخاصة وعرض ما تراكم لديه من مقتنيات جديدة لمدة ثماني سنوات بدءاً من عام 2015، ولا شك أن غرترود فاندربلت ويتني قد رقصت في قبرها وهي تشهد هذا الاتفاق الذي ربما كان يحق لها أن تعتبره أكبر انتصار حققته في حياتها وبعد مماتها على الضد من "المتروبوليتان" الذي لم يتوان ذات يوم عن رفض هدية منها لا تقدر بثمن!

أما بالنسبة إلى متحف "ويتني" في نسخته الأكثر ديمومة بالتأكيد، فلقد اعتبر منذ افتتاحه في عام 2016 بتأخر عام عن موعده الأول المرتقب، صرحاً فنياً جديداً في المدينة الأميركية العريقة، ولكن كذلك صرحاً عمرانياً بديعاً أضيف إلى منجزات رنزو بيانو التي باتت لا تعد ولا تحصى، لا سيما كما أشرنا في مجال المباني الثقافية ذات النكهة التجديدية، الإنجازات التي منحته في عام 1998 جائزة "بريتزكر" التي تعد عادة جائزة "نوبل" للعمران على المستوى العالمي، وأقيم حفل منح الجائزة في إحدى قاعات البيت الأبيض، علماً أن حفل افتتاح متحف "ويتني" الذي صممه بيانو سيكون بحضور وتحت رعاية السيدة الأولى ميشيل أوباما.

المزيد من ثقافة