Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

حكاية أسير قضى 8 سنوات في العزل الانفرادي بسجون إسرائيل

كانت الذكريات العلاج الوحيد وأنيسة وحدته خلف الجدران الرطبة والأبواب الحديدية الموصدة

15 أسيراً فلسطينياً في العزل الانفرادي داخل سجون إسرائيل (اندبندنت عربية - مريم أبو دقة)

"سننقلك إلى زنزانة خمس نجوم، أعتقد أنه لم يدخلها قبلك أي سجين، فيها جميع أشكال الرفاهية، وعندما تعيش داخلها ستدرك أنه يتوجب عليك عدم القيام بأي أعمال شغب داخل السجن أو خارجه. لا تقلق سوف تنعم بحياة جيدة فيها"، هذه العبارة سمعها الأسير مصطفى رمضان مرة واحدة في حياته من جندي إسرائيلي كان يكبل يديه وقدميه بالأصفاد، قبل نقله إلى العزل الانفرادي، لكنه لم ينسها طوال حياته.

كان وقع هذه الجملة كبيراً على نفسية وحياة مصطفى، فبعدما سمعها عاش داخل زنزانة العزل الانفرادي نحو ثماني سنوات متواصلة، ولم يخرج منها إلا في صفقة تبادل الأسرى بين إسرائيل و"حركة حماس" التي جرت عام 2011.

اعتقل مصطفى رمضان عام 1992 على خلفية مشاركته في عمليات عسكرية ضد جنود إسرائيليين واتهم بقتل عدد منهم، وعلى إثر ذلك حكم بالسجن مدى الحياة لكنه قضى داخل الزنازين 19 عاماً، عوقب خلالها مرتين بالعزل الانفرادي، الأولى كانت عام 1995 واستمرت لنحو تسعة أشهر، والثانية عام 2003 واستمرت لنحو ثماني سنوات.

الطريق إلى الزنزانة

في مارس (آذار) 2003 حصل خلاف داخل سجن النقب الصحراوي بين مصطفى وأحد الحراس المناوبين وتطور إلى الضرب المتبادل، وسبب ذلك حكم مدير السجن عليه بالعزل الانفرادي من دون تحديد مدة سجنه.

يستذكر مصطفى ذلك قائلاً "بعدما كبل الجندي يداي وقدماي مشينا 120 متراً تقريباً، ونزلنا على درج حتى وصلنا إلى زنزانة العزل الانفرادي التي وصفها بأنها خمس نجوم وفيها حياة رغيدة"، وفي طريقه نحو الزنزانة عد الأسير الأمتار التي مشاها.

وفقاً للقانون الإسرائيلي فإن للمحاكم صلاحية إصدار قرار يقضي بحجز أي معتقل في العزل لمدة ستة أشهر في غرفة لوحده، و12 شهراً في غرفة مع معتقل آخر، كما أن المحكمة مخولة بحسب القانون بتمديد فترة عزل المعتقل لفترات إضافية ولمدة لا نهاية لها.

داخل الزنزانة

وأمام بوابة الزنزانة وقف مصطفى لثوان حتى فتح السجان بابها، يضيف "أصدر سحاب الباب صريراً مزعجاً حينها كدت أن أفقد سمعي، أعتقد أن جميع السجناء سمعوه، وما أن تحرك الباب حتى انبعثت رائحة كريهة كأن هناك شخصاً ميتاً في الداخل منذ زمن".

بخطوات متثاقلة دخل مصطفى زنزانة "النجوم الخمس"، كان طولها متراً واحداً وعرضها مترين، فيها مرحاض أرضي وصنبورة ماء لا تعمل، جدرانها متهالكة من الرطوبة وسقفها ينزل منه الماء، وفي أسفل بابها فتحة صغيرة جداً لإدخال الطعام.

بحسب مصطفى فقد اقتاده السجان إلى أقذر زنزانة عزل، يتابع "كانت الصراصير والحشرات وحتى الفئران تعيش في المرحاض، أما الجدران لا يوجد فيها أية فتحة لدخول ضوء الشمس وللتهوئة، وتنبعث منها رائحة لا شبيه لها، كنت أسميها رائحة الموت العفن، أما في السقف فمصباح خافت الإنارة".

الذكريات علاج

قضى مصطفى اليوم الأول من دون أن يشعر بالملل وهكذا استمر حتى الأسبوع الثاني، بعدها بدأ اليأس يتسلل إليه، "كنت وحيداً لمدة 15 يوماً، وخلالها لم أشعر للحظة بالإحباط ربما لأني مستجد في العزل الانفرادي وأشعر بأنني منتصر على السجان، ولا أرغب في أن يكسر عزيمتي وإرادتي".

بدأ الأسير وقتها يتذكر أطفاله وأكلات والدته، وتارة أخرى دعم والده في الدراسة، ولحظات جميلة قضاها برفقة زوجته. كان يتخيل بحر غزة وأنه يبحر فيه ويتعارك مع أمواجه، ثم يخرج ليقوم بشواء السمك.

هذه الذكريات التي تتجاوز المسافات الطويلة ولا تتوقف أمام جدران الزنازين وتتسلل إلى عقل مصطفى كانت نفسها لحظات ضعفه، يقول "الأيام الجميلة عندما تعود للذاكرة تكون قاسية داخل العزل الانفرادي، حينها تحتاج إلى أهلك أكثر من أي وقت، وتشعر بأنك وحيد، كيف يمكن أن يعيش الإنسان بين أربعة جدران من دون أن يخالط البشر؟".

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

يكمل "الجنة من غير ناس لا تداس"، وهو مثل شعبي معناه أنه الحياة تحتاج إلى مشاركة البشر، ويتابع "تؤثر هذه اللحظات في مشاعري وأبدأ أتخيل نفسي وأنا أعيش فيها".

ويعود في الذاكرة لحين كان يصل إلى المنزل وهو يصرخ "بابا بابا تعالي يا هدى لتري ماذا أحضرت لك، لعبة حديقة الحيوان التي طلبتها مني، وفيها حصان وأسد ونمر أيضاً"، وقتها كانت ترد قائلة "لا أريد لأنك دائماً ما تكذب علي". هذه المشاهد التي عاشها الأسير داخلة العزل الانفرادي جميعها تخيلات تؤنس وحدته وعتمة الليل ووحشة باب زنانة "خمس نجوم".

ظروف العزل الانفرادي هذه تعد مخالفة لأحكام القانون الدولي الإنساني، كما تتعارض مع المادتين الـ91 والـ92 من اتفاق جنيف الرابع الخاص بمعاملة المدنيين في النزاعات المسلحة وحالات الاحتلال.

وبحسب هيئة شؤون الأسرى الفلسطينيين (مؤسسة حكومية)، فإن إسرائيل تعزل حالياً 15 أسيراً في زنازين انفرادية بينهم طفلان، وتمنع عنهم زيارات المحامين أو مندوب اللجنة الدولية للصليب الأحمر.

تدمير شخصية

"الموت البطيء" هكذا وصف مصطفى الحياة داخل الزنزانة التي يمنع عنه فيها الصحف والكتب، ويحرم من استكمال تعليمه، ويمنع من الزيارات أو مقابلة البشر، موضحاً أن الهدف الأبرز هو تدمير بنية وشخصية الأسير من خلال عقوبة العزل.

داخل تلك الغرفة الضيقة التي تطبق على الأنفاس نسي مصطفى عد الأيام، ولم يعد يعرف كم له ماكث في العزل، حتى أنه لم يكترث لمعرفة تاريخ اليوم على الرغم من تشوقه لمعرفته. والأصعب من ذلك أنه بات من المستحيل معرفة الوقت، وهل حل الليل أم أن نور الشمس لا يزال ساطعاً؟

ويؤكد مصطفى أنه في الغرفة يتيمة النوافذ وكثيرة الرطوبة والعفن لا مجال لمعرفة الوقت سوى عن طريق التقدير أو بربط الوقت بأوقات تقديم الطعام أو عن طريق العداد (جندي التمام)، فبعد انقطاع طويل عن رؤية أو سماع الحارس فهذا يعني أن الصباح قد اقترب، وإذا تغيرت المناوبة يعني أن الساعة تجاوزت الرابعة مساء.

ومن المضحك والمبكي في الوقت نفسه، أن مصطفى لجأ إلى الصراخ أكثر من مرة داخل الزنزانة ليكسر صمت وحدته، فيما كان يومياً يتحدث مع نفسه بسبب البقاء لأيام أو أسابيع من دون مقابلة أحد حتى لو كان جندياً.

وفقاً للمادة الأولى من اتفاق مناهضة التعذيب المبرم عام 1984، فإن العزل الانفرادي من طرق التعذيب النفسي المحظورة، ويعد من أساليب المعاملة اللاإنسانية والحاطة بالكرامة". كما أنه ينتهك المادة الخامسة من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، والمادة السابعة من العهد الخاص بالحقوق المدنية والسياسية التي تمنع ممارسة التعذيب والمعاملة القاسية واللاإنسانية والحاطة بالكرامة بشكل قاطع.

رؤية الشمس

وبعد أربع سنوات سمح لمصطفى الخروج إلى ساحة السجن للجلوس تحت أشعة الشمس ورؤية السجناء الآخرين، وقتها مكث لمدة عشر دقائق شعر وكأنه نال الحرية، وبدأت تعود له الحياة عندما رأى البشر.

في "الفورة" أو مكان رؤية الشمس، عرف مصطفى أنه قضى أربع سنوات في العزل الانفرادي، يقر مصطفى أنه كان متعباً نفسياً وأنه فقد التواصل الاجتماعي مع البشر، وبدا له وكأنه غريب.

وأصعب ما واجه مصطفى داخل العزل عدم معرفته بموعد انتهاء عقوبة سجنه الانفرادي، وعندما عاد إلى زنزانته نسي أن يعد الأسير أيام حياته، ولم يعد يتذكر سوى أن هناك عائلة في الخارج تنتظر عودته.

يقول مدير مركز دراسات الأسرى رأفت حمدونة إن العزل الانفرادي يعد أقسى أنواع العقوبات التي تلجأ إليها سلطات إسرائيل، لأنه يخلف أثاراً جسدية ونفسية عميقة كالاضطرابات والميل للعزلة وعدم الرغبة في التعامل مع الفضاء الواسع، وحالات حادة من الارتباك والتوتر، ولكن من شأنها أن تتلاشى بعد انتهاء مدته وبفعل الحرية والزمن.

ويضيف "لا يقتصر الضرر على الجانب النفسي فحسب، بل أثبتت التقارير الطبية بما لا يقبل التأويل أن العزل يصيب الأسير بأمراض في الجهاز الهضمي والأوعية الدموية والقلب والصداع النصفي والإرهاق المزمن، واضطرابات دقات القلب وضيق التنفس".

وسبق أن أفرجت إسرائيل عن الأسير منصور الشحاتيت بعد انتهاء محكوميته البالغة 17 سنة، قضاها في العزل الانفرادي فاقداً للذاكرة ولم يستطع التعرف على أفراد عائلته.

من جهة إسرائيل، يقول جدعون ساعر وزير العدل في تل أبيب إن العزل الانفرادي لبعض السجناء السياسيين والجنائيين مسموح وقانوني بحسب لوائح مصلحة السجون، مشيراً إلى أن هناك خمسة أسباب للعزل، وهي أمن الدولة وأمن السجن والحفاظ على السلامة وصحة المعتقل أو المعتقلين الآخرين ومنع الإضرار الحقيقي بالانضباط ومنع ارتكاب عنف. وهذا أمر معمول به في جميع دول العالم، ويطبق على السجناء الإسرائيليين أيضاً.

اقرأ المزيد

المزيد من تقارير