في كتاب ذكرياته الرائع الذي كتبه خلال المرحلة الأخيرة من حياته، لم يحي الكاتب النمسوي الكبير شتيفان تسفايغ (1881 – 1942) كاتباً من غير بلده ولغته ولو أعشار ما حيا به الفرنسي رومان رولان (1866 – 1944)، إذ كرس له صفحات عديدة تذكر على أية حال بما خص به صاحب "جان كريستوف" المعتبرة أول رواية، نهر في تاريخ الأدب الفرنسي. فكبار الكبار بمن فيهم تولستوي وغاندي وفرويد وحتى بانيت إستراتي تحدثوا في كتبهم وبإعجاب هائل عن رومان رولان، وذلك طبعاً على عكس "القومجيين" و"الحربجيين" الفرنسيين من الذين كرهوا رولان دائماً وغمطوه حقه، والحال أن كثراً من المعجبين في العالم الخارجي برولان كانوا يفعلون ذلك بفضل أدب الرجل، وكذلك بفضل أخلاقه التي عرف به ونزعته الإنسانية التي لم تبارح لا فكره ولا أدبه بشكل عام، أما بالنسبة إلى تسفايغ، فإن المسألة كانت أعمق من ذلك ومردها إلى بعض الأمور الملموسة حقاً التي، وكما يخبرنا هو بنفسه في "عالم الأمس"، أدهشته حين استبد به اليأس خلال الأشهر الأولى من الحرب العالمية الأولى.
عزلة قاتلة
فتسفايغ الذي حين اندلعت تلك الحرب، وبعد أن استبدت به أول الأمر أفكار وطنية عابرة، سرعان ما وجد في عزلته في بلده، أن الأمور لم تعد تطاق، وأن الحرب العسكرية سرعان ما باتت حرب أفكار وكراهية بين الشعوب وحتى بين كبار المفكرين الذين راح كل منهم يناصر بلده وقوميته من دون تمحيص، ومن دون إدراك لأن تلك المناصرة إنما تقودهم جميعاً إلى الوقوف إلى جانب الجزارين القتلة، حينها باتت خشية تسفايغ كبيرة من أن تؤدي به عزلته والتعاطي مع العالم من خلال أخبار الحروب والجبهات كما من خلال البذلات العسكرية التي راح يرتديها بكل تباهٍ كتاب ومبدعون كانوا حتى الأمس القريب إنسانيي النزعة، بمن فيهم هو نفسه الذي سيشكر ربه لاحقاً على أن الزي العسكري الذي ارتداه لفترة، كان يعلن انتماءه إلى الصليب الأحمر والقطاع الطبي في جيش بلاده، فراح يحلم بأن يخرج بأية طريقة من تلك العزلة القاتلة لينقذ نفسه من "مصير أخلاقي" كان قد بات يراه مريعاً، وكان من حسن حظه أن أتيحت له الفرصة حين دعي إلى سويسرا المجاورة المحايدة ليشارك في تقديم مسرحيته "إرميا" على مسرح في زيورخ، تنفس الرجل الصعداء آملاً في أن يتيح له وجوده في زيورخ، كما في جنيف القريبة والمحايدة بدورها، أن يعود إلى طبيعته وإلى هواه الإنساني، كما إلى الالتقاء بمعارف له من كتاب ومفكري الأمم الأخرى، بما فيها تلك المعادية الآن لبعضها البعض ولبلده بخاصة، ولم يخب أمله.
رولان المنقذ
لم يخب أمله بخاصة حين التقى رومان رولان المقيم حينها في جنيف، وكان تسفايغ قبل مبارحته بلده قد كتب رسالة مفتوحة "إلى الأصدقاء في الخارج" يعلن فيها بأنه على الرغم من "ضجيج الكراهية المستعرة سأبقى وفياً للعلاقات الرفاقية الودية" مع صعوبة ذلك الآن، حينها "ربما سيتاح لنا من جديد أن نعيد بناء الثقافة الأوروبية معاً"، ولقد فوجئ تسفايغ بعد نشر رسالته بأسبوعين، برسالة تصله من رومان رولان يقول فيها هذا "أنا لن أتخلى عن أصدقائي"، وعلى الفور أدرك مغزى هذا الإعلان و"رحت أتطلع إلى لقاء الكاتب الفرنسي الكبير" على الرغم مما بين بلديهما من عداوات وقتل ودماء، وسرعان ما تواصل تبادل الرسائل بين الكاتبين عبر الجبهات والكراهية السائدة.
كبيران فوق المعمعة
ومن هنا، حين التقيا في جنيف، حيث كان رولان مقيماً، كانت الأرضية ممهدة للتفاهم بينهما واستعادة رابط الصداقة، بل الضحك معاً على تلك الأجواء التي إذا كانت قد زادت من أوار الحرب، خلقت حرباً أخرى في الثقافة بلغت من السخافة أن جعلت "الألمان يؤممون دانتي كصاحب أصل جرماني، والفرنسيين يعتبرون بيتهوفن بلجيكياً، وقس على ذلك"، والحقيقة أنه لئن بدا ذلك كله طريفاً ومضحكاً على الرغم من مرارته، فإن التقاء تسفايغ برولان كان أكثر أهمية وخطورة بكثير بالنسبة إلى الكاتبين، فرولان كان في تلك الأثناء قد نشر سلسلة مقالات في "جورنال دي جنيف" سيجمعها من فوره تحت عنوان "فوق المعمعة"، وكان أهم ما فيها أنها تحمل دعوة من المؤكد أن تسفايغ سوف يتلقاها بدوره ويسعى إلى نشرها، وهي تنطلق من فكرة اشتغلت في رأس رولان أولاً ثم في رأسيهما معاً فحواها أنه قد حان للمفكرين المبدعين أن يتركوا صغائر النزعات القومجية التي لا تفتأ تحركهم منذ ما قبل اندلاع القتال بين أممهم.
البرلمان المنشود
والحقيقة أن الفكرة أتت في الأصل نوعاً من رد على اليأس الذي أبداه الكاتب كارل تسوكماير الذي أعلن بقنوط تام أنه "خلال الحروب ستبقى الكلمات عاجزة على الدوام، الكلمات نقولها ثم نسكت عاجزين"، والحقيقة أن رولان وتسفايغ أرادا هنا أن يصلا إلى تحقيق مشروع رأيا أن في وسعه أن يعطي للكلمات قوتها الجبارة، إذ في لحظة بدا فيها على تسفايغ أن يأسه يدفعه إلى ترديد ما قاله تسوكماير، سأله رولان "فماذا يا عزيزي لو نسعى لكي نؤسس هنا في سويسرا جمعية عالمية، نوعاً من برلمان فكري، مهمته الأساسية استخدام مكانة أعضائه وهيبتهم ومواهبهم للتصدي للحرب والوقوف ضد كل أنواع الأحقاد والكراهية بين الشعوب؟".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
حينها، دهش تسفايغ أمام الفكرة التي أثارت حماسته من فورها، وطفق الاثنان حتى يضعا ليس فقط لمسات محددة بغية تصميم الفكرة ووضعها موضع التنفيذ، بل أكثر من ذلك، شرعا يضعان لائحة معقولة تضم أسماء عدد من كبار المفكرين والمبدعين الذين رأيا أن الحرب لم تلوثهم، بل لا يمكنها أن تفعل، وقد حرصا على أن يتمثل كل بلد من البلدان الأوروبية، وربما غير الأوروبية أيضاً بكبير من كباره: غرهارت هاوبتمان من ألمانيا، هيرمان باهر من النمسا، فردريك فان إيدن من هولندا، إلين كي من السويد، مكسيم غوركي من روسيا، بيندتو كروتشه من إيطاليا، بيار فيرهيرين من بلجيكا، كارل شبيتلر من سويسرا، هنريك سينكيفيتش من بولندا، وأتش جي ويلز أو جورج برنارد شو من بريطانيا، وتم التوافق بين تسفايغ ورولان على أن يكون الشعار الأساس لهذا البرلمان أن المثالية يمكنها بعد أن توجد في هذا العالم بقدر وجود النزعة الوطنية، بل حتى "القومجية".
لا مكانة لنبي في وطنه
ولقد كان آرثر شنيتزلر النمسوي الأول الذي فاتحه تسفايغ بالمشروع وتحمس حماساً شديداً، بل إن حماسه فاق حماس تسفايغ الذي كان قد بدأ يتراجع أمام حال يأس واتته بعد أن لمس خلال الأشهر السابقة أن تحقيق المشروع يبدو شبه مستحيل لأن قلة من المفكرين والأدباء الذين تم الاتصال بهم رأته ممكناً، أما بالنسبة إلى رومان رولان فإنه واصل اهتمامه بالمشروع معبراً عنه في سلسلة المقالات التي سيجمعها لاحقاً في كتابه "فوق المعمعة"، لكن مشكلته الكبرى كمنت في فرنسا نفسها، حيث لم يلق المشروع الصدى الذي كان يتوخاه، كما أن أقلاماً كثيرة راحت تهشم الكتاب وكاتبه نقداً ونقضاً، وهكذا من دون أن تخف حماسة رولان لمواقفه الإنسانية السلمية، ومن دون أن ينكر أي كلمة مما جاء في "فوق المعمعة" نحا فكرة البرلمان نفسها جانباً وتابع نضاله وحيداً عبر كتاباته كما تواصلت صداقته مع تسفايغ وتوسعت سمعته حول العالم، هو الذي استتبع للروحية التي كانت تحكم روايته "جان كريستوف" واصل التفريق بين نظرته إلى الشعوب وموقفه من الحكام رافضاً اعتبار الشعوب مسؤولة عن جرائم القيادات السياسية أو العسكرية، ما جعل "فوق المعمعة" ببرلمان فكري أو من دونه، "بياناً يستدل به جميع محبي السلام وأصحاب النزعة الإنسانية في العالم"، في العالم، ولكن ليس في فرنسا تحديداً كما سيقول لنا شتيفان تسفايغ الذي يقدم على صفحات "عالم الأمس" واحدة من الصور الأكثر نصاعة التي رسمها قلم أديب لزميل له.