Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

محمد علي باشا حاكم لبنان ... ترك آثارا ملتبسة

كتاب جماعي يلقي أضواء جديدة على الحكم المصري والصراعات التي نشبت

محمد علي باشا حاكم لبنان وبلاد الشام (وزارة الثقافة المصرية)

ينطوي التاريخ، البعيد والقريب، على أحداث مفصلية ذات تأثير بنّاء أو هدّام، وأياً يكن زمن هذه الأحداث أو مدتها. لعل هذا ما ينطبق على الحقبة القصيرة التي حكم فيها القائد المصري محمد علي باشا، بلاد الشام ساعياً إلى منافسة الدولة العثمانية التي كان قائداً عسكرياً في جيشها الداخل إلى مصر لمواجهة حملة بونابرت، منذ عام 1798. بل لعل الإحاطة التاريخية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية لهذه الحقبة أشبه بصورة بانورامية مكبرة عما حصل في البلاد، وأسهم في إدخالها إلى مسار الحداثة تمثلاً بالنموذج الأوروبي ونسخته المصرية، على ما يتبين ذلك للقارئ.

في الكتاب الصادر حديثاً (2022) عن دار سائر المشرق، بعنوان "المناطق اللبنانية خلال الحكم المصري" (1831-1840)، من تأليف مجموعة من الباحثين المنتمين إلى "الجمعية اللبنانية للدراسات العثمانية"، ترد أسماؤهم ومساهماتهم فيه على التوالي (خالد زيادة، بطرس لبكي، ميشال أبي فاضل، سيمون عبد المسيح، طوبى يلدز، نايل أبو شفرا، جمانة الدبس، محمود حداد، عبدالله سعيد، غنى مراد، إبراهيم دربلي، سعاد سليم، سعاد مثلج، إيلي جرجس الياس).

في الدراسة الافتتاحية التي أعدها الباحث خالد زيادة، مدير المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات والمشرف على الدراسات الواردة في الكتاب، يبين وجاهة التركيز في البحث على الحقبة المشار إليها، لكونها "سنوات حاسمة بالنسبة لمستقبل البلاد (بلاد الشام) لما اشتملت عليه من إجراءات وإصلاحات أدت إلى تغييرات عميقة على المستوى السياسي والاجتماعي والاقتصادي" (ص86).

القضاء على الثورات

 

وإذ يعرف الباحث زيادة بالشخصية التاريخية (محمد علي باشا) يورد ما مفاده أنه كان قائداً عسكرياً، من أصل ألباني، وقد أرسلته السلطنة العثمانية إلى مصر لمواجهة نابليون بونابرت في حملته التي جردها على مصر، كما أشرنا، وأنه لم يكتفِ بصد الحملة، والعمل على إخراج الفرنسيين من مصر، وإنما عزم على بناء الدولة المصرية على الطراز الأوروبي، والفرنسي تحديداً. وأول ما قام به كان القضاء على الأمراء المماليك المنافسين له، ثم تشييده مصانع الأسلحة وأحواضاً لبناء السفن الحربية المزودة بالمدافع، ومن ثم قيامه بفرض الضرائب على الأملاك بحجة تمويل الجيش للقضاء على الثورات التي كانت لا تزال مندلعة في كل من الجزيرة العربية واليونان والسودان وغيرها. ولكن الداعي الأهم، بالنسبة له وللدارسين، هو ما رافق حملة محمد علي على بلاد الشام (ولبنان) من تدابير اقتصادية وسياسية كان لها الأثر الكبير على تحول هذه البلدان من المرحلة الإقطاعية إلى الرأسمالية الأولية، على ما يفصله الباحثون الآخرون لاحقاً.

 

وفي السياق عينه يجري الباحث المختص بالتاريخ الاقتصادي بطرس لبكي دراسة حول "المناطق اللبنانية خلال الحكم المصري (1832-1840)، فيتبين له، وفق جداول إحصائية مستمدة من مراجع ومصادر أجنبية وتركية، أن مدينة بيروت تحولت إلى مرفأ بالغ الأهمية، بعد أن كانت عاصمة لولاية صيدا، وأن البضائع الأجنبية، الفرنسية والإنجليزية باتت تدخل المدينة، وتتلقفها الطبقات الميسورة، من التجار وأرباب صناعة النسيج (الحرير) والإقطاعيين ذوي الرأسمال المتراكم من الديون لصغار المزارعين. وقد تم التشجيع على الزراعة، ولا سيما أشجار الزيتون والتوت الداخل في صناعة الحرير، واحتكار أغلب الموارد الطبيعية، مثل الفحم والحديد المستخرجيْن من بعض مكامنهما في جبل لبنان (قرنايل، ضهور الشوير، الخ). وبالمحصلة، يمكن القول، إن محمد علي باشا، ولئن أدخل البلاد في حلقة السوق الاقتصادية الأوروبية والعالمية، فإنه عرضها بالمقابل لسلسلة من الأزمات الاقتصادية والاجتماعية (كساد مواسم الحرير مقابل رخص المنتجات الأوروبية المصنعة، وبطالة شاملة، فقر) التي قد تؤول في ذروتها إلى تجريد اللبنانيين الفقراء من ثرواتهم، وتقودهم إلى التمرد على الحكم المصري، لاحقاً.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

أما الباحث سيمون عبد المسيح، والذي ركز على "الأسباب الاقتصادية للتوسع المصري إلى بر الشام في ثلاثينيات القرن التاسع عشر"، وبعد أن أجرى مراجعة لحال مصر الاقتصادية في القرن الثامن عشر، فقد تبين له أن مصر أنجزت تحولها من المرحلة الإقطاعية إلى الرأسمالية الصناعية والتجارية، بفضل تدخل محمد علي باشا، وتسريعه توفير البنى التحتية اللازمة لهذا التحول، من مصانع أسلحة وذخائر وأحواض لبناء السفن، وآلات بخارية، وشق قنوات مياه وإقامة السدود لري المساحات الزراعية وغيرها. ولما تم هذا لمصر، وسارعت الدول الأوروبية إلى إفشال مشاريعها الاقتصادية الصاعدة، خوفاً من منافسة صناعتها ومنتجاتها المصدرة إلى أفريقيا، اتجه محمد علي ناحية بلاد الشام ولبنان، وجرد حملته المشهورة، بغية إنقاذ تجربته في مصر، وافتتاح سوق جديدة لمنتجات صناعته المصرية، على غرار ما تفعله الرأسمالية الأوروبية الصاعدة، وقامت به من مستهل القرن التاسع عشر.

أعمال التقصي

ويورد الباحث عبد المسيح، مصداقاً لتحليله، بعضاً من الوثائق المتعلقة بعمليات التقصي التي كانت السلطات العثمانية (المصرية) تجريها عن أنواع الشجر والغابات في سوريا وجبل لبنان والموافقة أخشابها الصلبة لبناء السفن وقواعد المدافع، ومثلها عمليات التقصي عن الفحم الحجري والحديد وغيرهما، وقطعها واستخراجها وجلبها إلى مصر. إلى ذلك، لم يكن محمد علي ليغفل عن ضبط وضع مصر المالي، فكان حريصاً على صك العملة بما يحفظ المعادن الثمينة (الذهب، والفضة) ويضمن استقراراً لسعر العملة المحلية. غير أن معاكسة الدول الأوروبية له، وخشيتها من حلوله بديلاً عن السلطنة العثمانية وحكمها في الآستانة، غداة تمرده على أسياده الأوائل، وبلوغ جيوشه مدينة كوتاهيه، غرب تركيا، دفعتا بها إلى محاربته حيثما كان. فشجع القناصل (الفرنسي والإنجليزي) جموع الغاضبين من اللبنانيين والسوريين على  إطلاق الثورات والاحتجاجات ضد الحكم المصري المتمثل بإبراهيم باشا، ابن محمد علي، بعد أن أثقل كاهلهم بالضرائب، ومنها ضريبة "الفردة"، وضاعف أعمال السخرة بحق أبناء الجبل، وشدد من قمعه لهم، بعد بوادر الثورات وعامية أنطلياس.

وفي البحث الذي أعدته طوبى يلدز، المختصة بالتاريخ العثماني عرض لواقع الأحوال الشخصية عند الدروز والموارنة في جبل لبنان، إبان الحكم المصري، وكيف أن الفضل يعود إلى إبراهيم باشا في تطبيق التنظيمات في الولايات العثمانية، ولا سيما في جبل لبنان، بعد أن كانت الهوية الحقوقية للموارنة، وما تعلق بقوانين الإرث والتملك وغيرهما، ملتبسة، بل معتبرة من ضمن قوانين الذمية.

بين الدروز والمسيحيين

في حين تناولت الأبحاث الأخرى، على التوالي، "حروب إبراهيم باشا في سوريا ولبنان وتداعياتها على الدروز والمسيحيين، أعده نايل أبو شقرا، و"ثورة الدروز ضد إبراهيم باشا خلال احتلاله بلاد الشام" أعدته الباحثة جمانة الدبس وبينت فيه نقمة الإقطاعيين الدروز على إبراهيم باشا الساعي إلى تجريدهم من امتيازاتهم، بالإضافة إلى تبيينها دور المستشارين المسيحيين في إدارة شؤون جبل لبنان. وأبحاث أخرى عالجت الآثار السياسية والاجتماعية لحكم محمد علي في جبل لبنان وبلاد الشام، أعده الباحث محمود حداد، وأثر الحكم المصري على مجرى أحداث جبل لبنان، أعده الباحث عبدالله سعيد، والحملة المصرية وأثرها على ولاية طرابلس، أعدته الباحثة غنى مراد، وخلع شعار الذمية أعده الأب إبراهيم الدربلي، وأخيراً مجالس المشورة (الشورى) في أيام محمد علي، أعدته كل من الباحثتين سعاد سليم وسعاد مثلج.

هل يمكن للناظر في الحراك السياسي والاجتماعي والاقتصادي والعمراني، الذي يسعه استخلاصه من دروس حقبة محمد علي باشا وابنه إبراهيم التي لم تتجاوز العقد الواحد من السنين، ألا يربطه بالتحولات الثقافية الكبرى التي أعقبتها؟ وبهذا المعنى ألا يمكن اعتبار نشوء مدينة بيروت، بعد مرفأها، وقيام الجامعتين فيها (الكلية الإنجيلية السورية، وجامعة القديس يوسف)، إضافة إلى العشرات من المدارس ذات البعد الوطني (المدرسة الوطنية لبطرس البستاني مثلاً) وبروز العشرات من الصحف والمجلات ودور النشر، نوعاً من إعادة الاعتبار للفرد المواطن ذي الحقوق والواجبات الكاملة، بعد أجيال من استغلاله لأجل عصبيات ومصالح مادية عمياء؟

ثم ألا يحسن بالناظرين في التاريخ الحديث، أي قبيل تأسيس الدول العربية على الطراز الأوروبي المعروف آنئذ، في القرن التاسع عشر، والتبصر في محنه والحروب الأهلية (في جبل لبنان، والشام، وغيرهما) عدا عن الحروب التي خاضها الطامحون إلى توسيع مصالحهم في ما يتجاوز حدود دولهم القومية، والتساؤل عما حصلوه منها، في مقابل المآسي الفظيعة واتساع رقعة الدمار في المدن والدساكر البعيدة، وشيوع الفقر وسائر الشرور والمظالم المترتبة عنه، مع إغفال للمآثر التي تركها الفاتحون وراءهم.

اقرأ المزيد

المزيد من كتب