رافقت زيارة رئيسة مجلس النواب الأميركي نانسي بيلوسي إلى تايوان، عاصفة دبلوماسية تزامنت مع تحركات عسكرية في مضيق تايوان، لتنذر بتدهور الأوضاع واندلاع صراع بالمنطقة في المستقبل القريب بما لا يخدم أي طرف في الصراع.
الصين تؤكد موقفها من تايبيه وتقطع أي طريق أو محاولات للتعامل مع تايوان سياسياً كدولة مستقلة، فيما يرى مراقبون أن هناك بوادر تكرار سيناريو الحرب الروسية- الأوكرانية في الشرق الآسيوي بعد اعتبار بكين الزيارة الأميركية الأرفع منذ عقود خرقاً صارخاً لسياسة "الصين الواحدة"، بينما تحاول دول شرق وجنوب شرقي آسيا أن تقف على الحياد من خلال علاقات دبلوماسية مع جمهورية الصين الشعبية، فلا تعترف بتايوان كدولة مستقلة، وعلى الرغم من ذلك تقيم مع تايبيه علاقات اقتصادية قوية. وتسعى "آسيان" إلى أن تمسك العصا من المنتصف لتتمكن من المشاركة مع تلك القوى المتصارعة في الحوار وبناء الثقة.
أجواء ضبابية
كانت الأجواء المحيطة بزيارة بيلوسي إلى شرق آسيا تميل إلى الضبابية وتتسم بالتوتر، بحيث سرت الأخبار عن إمكانية زيارة رئيسة البرلمان الأميركي إلى تايوان، لتكون بذلك أرفع مسؤول أميركي يزور الجزيرة منذ 25 عاماً. وكانت الزيارة الأولى لمسؤول أميركي رفيع المستوى في 1997 حين زار رئيس الكونغرس الأميركي في وقتها، غينغريتش، تايوان عقب زيارة إلى الصين.
ومع ذيوع أخبار الزيارة المرتقبة من دون وجود تأكيدات رسمية من الجانب الأميركي، صدرت تصريحات عدة وتهديدات من بكين استباقاً للزيارة التي بقيت حتى اللحظات الأخيرة طي الكتمان الرسمي، إذ أعلنت أكثر من مرة أن الزيارة ستضر العلاقات الأميركية الصينية، رافضة بشدة أي تدخل في الشأن التايواني باعتباره من الشؤون الصينية الداخلية.
كانت الولايات المتحدة أعلنت في نهاية ولاية الرئيس الأميركي السابق دونالد ترمب، زيارة مرتقبة لسفيرة واشنطن في الأمم المتحدة إلى تايوان، لكنها ألغيت في اللحظات الأخيرة بسبب الانتخابات الرئاسية الأميركية.
جولة آسيوية
ومع انطلاق رئيسة البرلمان إلى جولتها الآسيوية، هدفت إلى تثبيت أقدام الدور الأميركي في المنطقة وإعادة تأكيد التزام الولايات المتحدة مع حلفائها وأصدقائها، بحسب بيان رئيسة البرلمان.
تأتي جولة بيلوسي بعد عدد من زيارات أميركية متوالية رفيعة المستوى بدأت بزيارة وزير الدفاع العام الماضي إلى المنطقة، التي شملت سنغافورة وفيتنام والفيليبين، أعقبتها زيارة نائبة الرئيس كامالا هاريس في أغسطس (آب) الماضي إلى سنغافورة وفيتنام، إلى جانب زيارة وزير الخارجية أنتوني بلينكن نهاية العام الماضي إلى إندونيسيا وماليزيا وتايلاند، فيما عقد الرئيس الأميركي جو بايدن قمة استثنائية في مايو (أيار) الماضي، استضاف فيها البيت الأبيض زعماء دول رابطة "آسيان" في سابقة هي الأولى في تاريخ العلاقات الأميركية الآسيوية.
بيلوسي استهلت جولتها من سنغافورة، حيث التقت برئيس الوزراء لي هسين لونغ، والرئيسة السنغافورية حليمة يعقوب وعدد من المسؤولين. وتُعدّ الولايات المتحدة أكبر مصدر للاستثمار الأجنبي في البلاد بقيمة تصل إلى 528 مليار دولار في 2020.
وكانت محطتها الثانية في ماليزيا، واجتمعت بيلوسي مع رئيس البرلمان الماليزي أزهر عزيزان هارون ورئيس الوزراء إسماعيل صبري يعقوب. ووصفت زيارتها إلى كوالالمبور بالمثمرة، إذ ناقش فيها الجانبان هدفهما المشترك في تحسين حرية منطقة المحيطين الهادئ والهندي وأمنهما.
وفي محطتها قبل النهائية بكوريا الجنوبية، لم تحظَ بيلوسي باستقبال من الرئيس الذي كان في عطلة، فاكتفى بمحادثة هاتفية مع رئيسة البرلمان التي التقت برلمانيين وزارت المنطقة الحدودية بين الكوريتين.
وفي اليابان، حيث اختتمت بيلوسي جولتها الآسيوية، اجتمعت مع رئيس الوزراء الياباني فوميو كيشيدا، وأكدا عمل البلدين للإبقاء على السلام والاستقرار في مضيق تايوان.
في تايبيه
كانت المحطة الأبرز للجولة الآسيوية لرئيسة البرلمان الأميركي تايوان في الثالث والرابع من أغسطس الحالي. وأصبحت بيلوسي بهذه الزيارة أرفع مسؤول أميركي يزور الجزيرة منذ 25 عاماً. والتقت في رحلتها إلى تايبيه بالزعيمة التايوانية تساي إينغ وين، التي قلدتها وشاحاً تعبيراً عن شكر الجزيرة لها.
وأثارت هذه الزيارة غضباً صينياً عارماً، فخرجت وزارة الخارجية الصينية ببيان طويل تستنكر فيه الزيارة التي اعتبرتها انتهاكاً لسياسة الصين الواحدة التي تقرها الولايات المتحدة، وأنها تبعث إشارات خاطئة إلى الانفصاليين في تايوان عن استقلال الجزيرة عن البر الصيني، كما استدعت بكين السفير الأميركي اعتراضاً على الزيارة، معلنة إيقاف المحادثات العسكرية رفيعة المستوى والمتعلقة بالمناخ مع واشنطن إلى أجل غير مسمى. من جهته، أعلن البيت الأبيض رغبته في احتواء الأزمة الحاصلة من جراء زيارة بيلوسي إلى تايوان حتى لا تسبب أي نزاع أو صراع.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ولم يقتصر الرد الصيني على الشق السياسي وحده، بل ارتفعت درجة التأهب العسكري، إذ أعلنت بكين إجراء سلسلة تدريبات عسكرية جوية وبحرية في مناطق حول الجزيرة التايوانية، في ما وصفته تايوان بـ"الحصار الجوي والبحري والانتهاك الخطير لاتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار"، وأطلقت عدداً من الصواريخ في المياه المحيطة. ويقول مسؤولون عسكريون صينيون إن جزءاً من هذه التدريبات شهد للمرة الأولى إطلاق صواريخ مباشرة فوق تايوان. كما منعت استيراد عدد من السلع والمنتجات من الجزيرة في ما يشبه العقوبات.
وتلتزم الولايات المتحدة بموجب اتفاقها لتطبيع العلاقات مع الصين في عام 1979 سياسة "الصين الواحدة"، التي تلزم واشنطن الاعتراف بوجود دولة صينية وحيدة وهي جمهورية الصين الشعبية، التي تُعدّ مفتاحاً رئيساً في إقامة العلاقات بين البلدين. وتسبب الزيارة الأخيرة توتراً في تلك العلاقات، إذ يؤكد خبراء في الشأن الآسيوي أن بكين تعتبر الزيارة خرقاً لسياسة "الصين الواحدة". وفي الوقت ذاته، ترى واشنطن أنها لا تزال ملتزمة بهذه السياسة وحريصة على استمرار الوضع الحالي في مضيق تايوان.
زيارة أم دعاية انتخابية؟
في تصريحات سابقة، اعترف بايدن أن المستشارين العسكريين ذكروا أن رحلة رئيسة مجلس النواب إلى تايوان فكرة سيئة، لكنه لم يكُن قادراً على منع زيارة الوفد البرلماني، بينما أشار محللون آسيويون متخصصون في الشأن السياسي إلى أن زيارة بيلوسي لتايوان لم تكن ضرورية وفشلت في أن تخدم أي أهداف استراتيجية، فيما يرى مراقبون أن الزيارة افتقرت إلى الحس الاستراتيجي. كما أن توقيتها يتزامن مع الانتخابات النصفية التي ستجرى في الولايات المتحدة في نوفمبر (تشرين الثاني) المقبل، إذ يسعى الحزب الديمقراطي إلى زيادة أسهمه لدى الناخبين ويخشى من فقدان الغالبية بسبب تداعيات الركود الاقتصادي الحالي، ما أضفى على الزيارة دلالة إنجاز شخصي لبيلوسي والحزب في المقام الأول، فيما تستعد الشركات اليابانية لأخذ احتياطاتها في الوقت الحالي والتحضير الاستباقي لحدوث أزمة في تايوان.
من جانب آخر، تسببت زيارة بيلوسي في مضاعفة قوة الرد الصيني، فالرئيس شي جينبينغ مقبل على انتخابات الحزب الوطنية في نوفبمر المقبل، ما يجعله في حاجة ماسة لإثبات سيطرته على الأوضاع وتأكيد الدعوات المتكررة لإعادة تايوان مجدداً إلى الحضن الصيني.
وقد شهد المضيق التايواني أزمات عدة في الأعوام الماضية. ففي 1995، أجرت الصين اختبارات صواريخ تجريبية في المياه المحيطة بتايوان، اعتراضاً على زيارة الرئيس التايواني إلى الولايات المتحدة وإعلانه تفضيل إعلان تايوان كدولة مستقلة.
ولا تزال بكين تصر على استعراض قوتها العسكرية قبالة الجزيرة التايوانية، فالاختراقات الجوية بطائرات الصين العسكرية للمجال الجوي التايواني مستمرة بشكل شبه يومي، فيما وصلت ذروة اختراقات الطائرات العسكرية الصينية للأجواء التايلاندية إلى 56 اختراقاً في يوم واحد في أكتوبر (تشرين الأول) الماضي. وعلى الرغم من التوترات التي تعصف بالجانبين بين حين وآخر، فإن استطلاع رأي العام الماضي أظهر أن غالبية المواطنين في تايوان لا يرجحون إمكانية وقوع حرب بين الصين وتايوان.
حذر آسيوي
تحتفظ دول جنوب شرقي وشرق آسيا بعلاقات دبلوماسية مع جمهورية الصين الشعبية، ما يجعلها لا تعترف بتايوان كدولة مستقلة، على الرغم من ذلك، فإنها تقيم علاقات اقتصادية قوية مع الجزيرة الصغيرة. وتُعدّ تايبيه المصدر الرابع للواردات اليابانية بحسب إحصاءات 2020، فيما وصلت قيمة الصادرات الإندونيسية لتايوان إلى 5.5 مليار دولار، كما تصنف تايوان كخامس أكبر شريك اقتصادي لماليزيا.
ونظراً إلى القرب الجغرافي مع جانبَي الأزمة، فإن الأطراف الآسيوية في المنطقة تنظر بحذر شديد إلى عواقب زيارة بيلوسي ونتائجها، فدعت كوريا الجنوبية إلى الاعتماد على الحوار للإبقاء على الاستقرار في المنطقة، فيما أعربت إندونيسيا وتايلاند عن قلقهما من الموقف الحالي في مضيق تايوان وطالب البلدان كل الأطراف بالحفاظ على الاستقرار والأمن في المضيق والمنطقة.
كما انتقد مبعوث رئيس الوزراء الماليزي زيارة بيلوسي إلى تايوان وذكر أنها تهدد استقرار المنطقة، متهماً واشنطن بخرق سياسة "الصين الواحدة"، فيما أوضحت الحكومة الماليزية أن هذه التصريحات لا تمثل الموقف الرسمي لكوالالمبور.
وأعلنت سنغافورة في بيان أنها تأمل بأن تعمل الولايات المتحدة والصين على "تسوية مؤقتة" - أو وسائل للتعايش في سلام - وممارسة ضبط النفس والامتناع عن الإجراءات التي من شأنها تصعيد التوترات، فيما حثت فيتنام جميع الأطراف المعنية على ضبط النفس.
وأعربت اليابان عن قلقها من التدريبات العسكرية التي يجريها الجيش الصيني حول تايوان، داعية إلى حل الخلافات والقضايا العالقة مع الجزيرة التايوانية من خلال الحوار السلمي. فيما غردت كوريا الشمالية خارج سرب الشرق الآسيوي، داعمة الموقف الصيني الرافض زيارة بيلوسي ومنتقدة التدخل الأميركي في الشأن الصيني الداخلي.
وتزامنت الجولة الآسيوية لنانسي بيلوسي مع اجتماع وزراء خارجية "آسيان" في العاصمة الكمبودية بنوم بنه، وكانت الأزمة الصينية التايوانية سيدة الملفات المهيمنة على الاجتماع الدوري، فقد أكد المتحدث باسم الرابطة أن التكتل الإقليمي سيعمل على المساعدة في تهدئة الأوضاع والتوتر الحالي في مضيق تايوان بحيث لا يؤدي إلى صراع ويسبب تصعيداً سياسياً لجميع الأطراف. كما حذرت دول رابطة جنوب شرقي آسيا في الاجتماع من مخاطر التصعيد الناتج من التوترات في مضيق تايوان، وما يمكن أن يفضي إليه من صراع مفتوح بين القوى الكبرى. وأكدت الرابطة استعدادها للعب دور بناء في تسهيل محادثات السلام بين جميع الأطراف.
ويذكر محللون آسيويون أن مستقبل "آسيان" يستند إلى قدرتها على التكيف والاستجابة للمشهد السياسي والاقتصادي الناشئ، وأن تتعلم رابطة دول جنوب شرقي آسيا أنه، من أجل البقاء، يجب أن تكون الكتلة مكاناً محايداً وآمناً حيث يمكن لجميع القوى المشاركة في الحوار وبناء الثقة.
وكان من المقرر عقد لقاء بين وزيري الخارجية الأميركي والصيني على هامش لقاء وزراء خارجية "آسيان"، لكن الجانب الصيني ألغاه بسبب اعتراضه على زيارة بيلوسي واستيائه من تصريحات مجموعة السبع في شأن أزمة تايوان.
ولعل أكثر ما يقلق الدول الآسيوية في المنطقة تكرار سيناريو أوكرانيا في الجزيرة التايوانية، إذ سبق أن حذر محللون من إمكانية أن يصبح النزاع بين بكين وتايبيه أكبر نقطة تهديد في القارة الآسيوية.