Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

بشارة تقلا الصحافي الرحالة كان سباقا في نقد الكولونيالية

جاب أوروبا وبلاد الشام والأستانة وكتب مقالات بعين مختلفة وانحاز لمصريته

الكاتب والصحافي بشارة تقلا مؤسس جريدة "الأهرام" (علاء رستم ـ اندبندنت عربية)

خص الصحافي اللبناني بشارة تقلا ابن قرية كفر شيما صحيفة "الأهرام" المصرية التي كان أسسها بالشراكة مع شقيقه سليم تقلا، في الإسكندرية عام 1875، بمقالات حول رحلاته في المدن العثمانية والأوروبية لمدة ثلاث سنوات من 1880 إلى 1883. وأثناء رحلاته أرسل بشارة إلى "الأهرام" سبعة وثلاثين مقالاً، كتبها برؤية مناوئة للكولونيالية، إذ عقد مقارنات بين سياسات المستعمر في بلاده مصر، وسياسة الحكومات في البلدان المتحررة. وأوضح الفرق بين حرية الفرد وشعوره بكرامته في بلد يقوم على فكرة المواطنة، وآخر قائم على الاستعباد والتحكم. وكان في كل مناسبة تعترض رحلاته، وخلال لقاءاته مع السياسيين والمثقفين والبرلمانيين يندد بالاستعمار البريطاني لمصر، وكان في اجتماعاته مع رؤساء تحرير الصحف في بلاد الراحلات، ولقاءاته برجال الأعمال العرب في أوروبا أو إسطنبول، يتحدث بإسهاب ووعي عن ممارسات الإمبراطورية الاستعلائية.

طروحات لحظة التنوير

نقلت لنا عين الرحالة تقلا الناقدة الحياة الفنية والأداء الثقافي في كل مدينة توقف فيها، ولم يتخل لحظة عن حسه الصحافي، وفضوله، وأسئلته، وتقصيه ما وراء الظواهر. وكان يحرص على مقاربة الشخصيات السياسية والدبلوماسية في بلاد الشرق والغرب، لمحاورتها في ما يتصل بالمسألة المصرية تحديداً، القائمة على المواجهة مع الإنجليز والخديوي والعثمانيين، وهو يعرف بمهارته الصحافية كيف يستعمل مفاتيح المغاليق بالتقرب من القناصل والمترجمين والفنانين، متابعاً الحالة الصحافية في كل بلد، متقصياً أدواتها ومؤسساتها، والصحف التي تصدر فيها وسياساتها الإعلامية.لعل لحظة التنوير في الشرق هي التي أفرزت هؤلاء الكتاب والصحافيين والنقاد والروائيين، لا سيما المسيحيين الشوام منهم، الذين آمنوا بأن التنوير لا يكون بمعزل عن معرفة الآخر، وعن المقارنة بين بنيتين ثقافيتين من غير انسحاق أو تملق ثقافي، مع رفض للاستعمار، ناجم عن وعي الذات ونقد أخطائها، الذي لا يمنع من الاعتزاز بالجذور وعدم الذوبان في الآخر، وذلك كله يحث على دراسة خريطة الطريق التي أوصلت الآخر إلى التمدن والحرية وإعلاء العقل على النقل.

 
 
كان بشارة تقلا واعياً لفكرة أدب الرحلة بمفهومه العام، وقد أشار إلى ذلك في مقدمة رحلته إلى الأستانة ومجموعة المدن الأوروبية إذ قال، "كانت -ولم تزل- السياحة من أفيد الوسائط لدرس عوائد الشعوب، والوقوف على حالتها نظر العين، وكان الأفيد منها نشر ذلك لعم الفائدة، فلا تكون مقصورة على المتسوح نفسه. وهي ضربان: إما معرفة أمور جديدة تؤثر في أولئك الذين يطلعون عليها، أو المقابلة بين ما يراه الإنسان في بلاده وسواها، على حدي الحسن وضده". ويمكن الاستزادة في ذلك بمطالعة كتاب "رحلات بشارة تقلا في المدن العثمانية والأوروبية" الذي أصدرته دار الكتب والوثائق القومية في القاهرة أخيراً، بإعداد كل من أشرف مؤنس وأحمد الشرقاوي.

سؤال الهوية والولاءات

نجد مع ذلك الهدف العام الذي رمى إليه تقلا، من رغبة في المعرفة عبر نهج النقد والتصحيح بالمقارنات، هدفاً أبعد هو "إبراز ما كان يسمى المسألة المصرية في كل مكان" في دول أوروبا، بين السفراء والقناصل والسياسيين والبرلمانيين المؤثرين. وأيضاً في الدولة العثمانية وعلى مستوى أعلى شخصية فيها، إذ قابل بشارة السلطان عبد الحميد الثاني عام 1888 في رحلته إلى الأستانة مرات عدة، وفي إحداها نبهه إلى خطورة ما يجري في مصر بخاصة، وفي أفريقيا التي ستصبح عما قليل مستعمرة بريطانية قائلاً له، "مولاي، إن أفريقيا ستصبح ميداناً واسعاً للاستعمار، ولجلالتكم فيها ملايين عديدة من إخواننا المسلمين، فهلا صرفتم شيئاً من عنايتكم إلى استمالة أفريقيا قبل اقتسام أوروبا لها، بدلاً من صرفها كلها في تركيا أوروبا...". وهكذا كان يستعمل دبلوماسيته التي لا تنقصها الشجاعة، فيطرح آراءه التي يجد نفسه فيها ممثلاً الشعب المصري، مدركاً واجبه الصحافي وقيمته، ببعد نظر سياسي يجب على الصحافي أن يتمتع به ليكون محللاً للحدث، ثم يقوم بصياغته برؤيته الذاتية، ليعطي الخبر محرراً، كما يفعل عتاة المهنيين اليوم في استوديوهات الأخبار ومكاتب التحرير، يساعده على ذلك لغته الفرنسية التي استعملها للكلام مع السلطان عبد الحميد، بلا وسيط.

ونجده مرة مقرباً من أصحاب النفوذ من سلاطين ووزراء وسفراء، في ضيافتهم وعلى موائدهم، كما نجده مرة أخرى في سجونهم. ولعل السبب في كلتا الحالتين هو التعبير عن الرأي بشجاعة والاستجابة للحس العالي بالمسؤولية، ووعي أهمية أن يكون الإنسان صحافياً صاحب رأي وقلم. فهو سجن عام 1879 حين كتب مقالة "ظلم الفلاح"، كما أوقفت "الأهرام" حين كتب، "إن الحكومة المصرية لا تخدم مصر بل إنجلترا"، منطلقاً من حريته، فهو ليس محسوباً على أية سلطة لا السراي، ولا الحكومة، ولا الإنجليز، ولا العثمانيين. وبهذا الوجه فإنه يمثل معنى حرية الصحافة التي ينادي بها الجميع، لكن حرية الصحافة لا تكون بأن يعارض الصحافي طرفاً ويكون مأجوراً لطرف آخر.

 

إن معارضة بشارة تقلا ثورة عرابي عرضته لحريق مطبعته وداره، وقد عارض تلك الثورة لأنه وجدها في صالح الإنجليز، وهذا ما حدث فعلاً، لكن لا بد من التساؤل عما إذا كان بشارة تقلا بريئاً من الولاءات حقاً، في ذلك العصر المعقد، عصر التحولات القومية، والهجنة الثقافية، وتبادل المصالح، وقلق تشظي الهوية العثمانية. وما يثير هذا السؤال لدينا هو وعيه لفكرة الآخر وللمصالح الدبلوماسية، حين أسس "الأهرام" الفرنسية (بيراميد) عام 1899 للدفاع عن مصالح مصر في الغرب، وعن مصالح فرنسا في الشرق، كما يقول.

ثلاث رحلات صحافية

كانت الرحلة الأولى من الإسكندرية إلى سوريا، أي بلاد الشام، وزار خلالها يافا ولبنان ودمشق، وكانت مقالاته في هذه الزيارة ناقدة للأحوال الاقتصادية والإدارية. فهو فوجئ في يافا التي تضم أهم مرفأ لسوريا وأشهر بحارة فيها، بفساد الجمرك، وسوء معاملة نوتيي السفن للركاب، وعدم الاهتمام بموارد البحر، فالأسواق قذرة، والتجارة في حالة فوضى نتيجة سوء الإدارة، والموظفون مرتشون. يشير أيضاً إلى غياب فكرة الإعلان والترويج لمقدرات البلاد، "لا زلت أيها الشرقي غافلاً، فإن فضل بلادك طبيعي، ولم تمد للعمل يداً. تقيم أوروبا المعارض، وتعظم أحكامها وتنظيمها قبل حدوثها، وتعلن عنها في الجرائد في أنحاء العالم لأجل جلب الأهلين إلى البلاد فيبذلون الدراهم في مدنها، وينتفع منهم سكانها، فتعتز الحكومة لأن قيامها متوقف على ثروة الرعية وعزها".

يتحدث في رحلته إلى بيروت عن معاقل العلم، كالجامعة الأميركية التي كانت تسمى بالكلية، وعن المرصد الفلكي للفيلسوف فان ديك فيها، وعن مطبعتها. ويناقش في ذلك قضية ساخنة هي نية المسؤولين في ذلك الوقت إبطال التعليم باللغة العربية واستبدال الإنجليزية بها. ويشير هنا إلى فائدة إتقان اللغتين، ودوره في تطوير حركة الترجمة، كما يتحدث عن زيارته المدرسة اليسوعية، ومدرسة الحكمة المارونية، والمدرسة البطريركية للروم الكاثوليك، ويقترح تعليم النحو واللغة بوجههما العملي لا النظري، عبر استثناء تدريس التلامذة خلافات المدرستين البصرية والكوفية، والتركيز على قضايا الاستعمالات اللغوية الأكثر حيوية، وفتح السياقات لاستقبال تدريس مدونات مهمة مثل "مقدمة" ابن خلدون في علم الاجتماع. ويبدو في طروحاته مديناً التعصب الشرقي المرتبط بمصالح الحكام، موضحاً في كل مناسبة الفرق بين المذهبية والوطنية.

يشيد بشارة تقلا في رحلته إلى دمشق بما يسميه (جوقة مشخصي الروايات العربية) ويقول، "وعسى أن يتقدم هذا الفن"، ولعلها إشارة لافتة إلى الحالة الثقافية والفنية في النصف الثاني من القرن التاسع عشر. ويشير إلى لقائه بالأمير عبد القادر الجزائري، وإلى النشاط الاجتماعي في دمشق ممثلاً بمدارس الأيتام، وإلى العمارة الفريدة في بيوت "متقنة النظام"، والاهتمام بصناعة الأقمشة والمنسوجات التي تنمي الدخل الوطني. ويتحدث عن التجارة التي أضر بها فتح قناة السويس، وعن إهمال حكومة الأستانة الزراعة كمصدر للدخل الوطني، واقتصارها على الزراعة الأهلية الضيقة. ويأتي على ذكر جمال نساء حارة اليهود، وفنونهن في اللبس والزينة.

 

مسألة تركيا

يتحدث في رحلته الثانية إلى الأستانة العلية وأوروبا عام 1881 عن تفاصيل كثيرة من نظم الحياة والإدارة والعمران والمشاهدات، وأهم ما يخلص إليه هو مسألة الهوية التي لا تزال تعانيها تركيا إلى اليوم، والتي نجدها في أعمال الروائيين الأتراك في مرحلة ما بعد إعلان الجمهورية إلى اليوم. وأقصد بها الهجنة الثقافية، التي تأخذ شكل الفصام أحياناً، "ولكن لا لذة بما تأكل أو تشرب، فالمعنى فقيد لأنهم لم يبقوه شرقياً، ولم يتقنوه إفرنجياً محضاً، فكان بين بين، عادم الأصلين".

تحدث في هذه الرحلة عن تحكمات قناصل الدول الاستعمارية في القرارات الإدارية الداخلية للدولة العثمانية حفاظاً على مصالح تلك الدول، كتدخل سفير إنجلترا لإلغاء قرار منع البوسطة الإنجليزية في الدولة، والتي كان مقرراً إدارتها محلياً بعد إنشاء خط للبوسطة من بيروت إلى بغداد. وقد أشاد بدعم رجال الأعمال السوريين في الأستانة لأبناء وطنهم حيث قصدوهم. وفي رحلاته نحو العمق الأوروبي في بوخارست وبودابست وفيينا، ينبه المتلقي إلى أن المال والتجارة متركزان بأيدي اليونانيين والإسرائيليين، وفي فيينا تحديداً يؤكد صفة التمدن وعلاقته بالإنفاق من جهة، وبالفن من جهة أخرى. يفرد هنا الحديث في مقالاته عن المسرح وأثره في الفرد ومن ثم في المجتمع، وتأثيرات المحاكاة التي تذهب إلى ما وراء اللغة، "وكدت أجدني متهيجاً من قوة فعل التشخيص وإجادته، فاستعملت حركة الشعب نفسها، وكان كذلك كثيرون غيري ممن لا يعرفون الألمانية". ويقارن ذلك بما في البلاد العربية، "وذكرت بلادنا وقلت في نفسي أين همة رجالنا عن إحياء هذا الفن، ومما يصلح بي سرده أن الأجانب يحضرون هذه الألعاب دون أن يقول الإنجليزي لمَ لا يشخصون بالإنجليزية، أو العربي بالعربية، أو الفرنسي بالفرنسية".

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

مقارنة حياتية

وفي سياق المقارنات لصالح الحياة العربية هذه المرة، يشير تقلا إلى التفاوت الطبقي المتجاوز في فيينا، وإلى الجوع الذي لم تكن تعرفه بلاد العرب آنذاك، "فكم من امرئ يموت هنا جوعاً، وليس لذلك من أثر في مصر وسوريا. ولو لم يكن النظام أمسى طبيعياً في كل إنسان حتى الفلاح وأدنى القوم، لحكمت أن فلاحنا يعيش أهنأ عيشة".

دارت المقالات عن مدينة "باريز" حول فكرة الحرية والاستبداد، وتثقيف النساء، وعن الفن والتمثيل في تياترو البلاط الملكي، ودور المحاكاة في التطهير والتربية واكتساب الخبرات. أما لندن فلم تبدُ عظيمة في عينه، وقد تحدث عن نشأتها، وعن طاعونها. وأشار إلى رداءة المطبخ الإنجليزي، وعظم في مانشيستر قوة التجار السوريين ودورهم الكبير في تنمية الثروات ومدى عائدات ذلك على البلاد العربية.

قام بشارة تقلا برحلته الثالثة التي نشر مقالاته عنها في "الأهرام" عام 1883، وقد أكبر في اليونانيين تمسكهم بلغتهم وبالكتابة بها، وباهتمام الأثرياء فيهم بتشييد المدارس ومراكز العلم. وأشاد بحرية الصحافة وبالإصلاحات المستمرة وبالحالة المدنية المتطورة فيها آنذاك. وقد التقى رئيس الوزراء الذي أعرب له عن الباعث لهذه النهضة قائلاً، "أرى أمامي واجبين اثنين يتفرع عنهما واجبات عديدة، أولهما خدمة الشعب بإخلاص وصداقة، وهذا يمهد لي سبل الوصول إلى الواجب الثاني، وهو القصد بأن نقنع أوروبا أننا أهل للحرية...".

 وهكذا، تخبر هذه الرحلات بأن العالم الذي نعرفه لم يتغير منذ أواخر الخلافة العثمانية إلى اليوم، فالصراعات ذاتها، والرغبات الاستعمارية ذاتها، وكذلك رغبات الأمم المغلوبة في إثبات ذاتها واستعادة أمجادها الغابرة هي ذاتها. وفي كل مقالة يلقي الضوء فيها على جزء من تلك الرحلة، كان بشارة تقلا ينهيها بعبارة أشبه بالتوقيع الدامغ تقول، "والبقية تأتي...".

المزيد من ثقافة