Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

مقالات مي زيادة في "الأهرام" تطرح قضايا راهنة

كتاب يواكب مرور 80 عاماً على رحيلها ويكشف رؤيتها الحدثة ومعاناتها

الكاتبة اللبنانية مي زيادةالتي أقامت في القاهرة (متحف مي زيادة)

صدر عن "المركز الماروني اللبناني للثقافة والإعلام" في القاهرة، بالتعاون مع "مركز الأهرام للترجمة والنشر"، كتاب "مي زيادة... مقالات الأهرام"، بتصدير لمطران الموارنة والرئيس الأعلى للمؤسسات المارونية في مصر جورج شيحان.

والكتاب الذي تولى الشاعر والصحافي المصري عزمي عبد الوهاب إعداده، جاء في 864 صفحة من القطع الكبير، وهو الأول في سلسلة تصدر بالتعاون بين المركزين تتضمن كتباً عن الرواد اللبنانيين الذين أسهموا في النهضة المصرية أوائل القرن الماضي، ومن العناوين التالية في السلسلة نفسها: "أوراق الهرم السادس... مقالات أنطون الجميل في الأهرام"، و"المعمار الكاثوليكي في مصر".

ويعيد الكتاب اكتشاف مي زيادة (1886–1941)، طارحاً قضايا لا تزال صالحة للمراجعة في وقتنا الراهن مثل: المساجد في مصر، والآذان، والترانيم، والنشيد الوطني، وأسماء الشوارع وسواها، وقد تناولتها مي زيادة من خلال مقالاتها التي نشرت في جريدة "الأهرام" بين عامي 1916 و1935، وهي الفترة التي تميَّزت بغزارة إنتاجها الصحافي. ومن المقالات التي كتبتها مي وتضمنها الكتاب: "مشكلة المشاكل في مصر: التعليم وبعض المشاكل الأخرى المتصلة به"، "جواب إلى سائل عن قائمة كتب لعروسه"، "تربية المرأة في مصر"، "البوليس النسوي في مصر"، "آثار مصر في روما"، "خطاب إلى شعراء مصر: أين النشيد القومي المصري؟"، "حول تغيير أسماء الشوارع وهدم الآثار"، "صوت رمضان في سبيل المسجد الأقصى"، و"أجراس عيد الفصح".

وجاء في تصدير المطران شيحان للكتاب: "منذ أن أدخل الموارنة أول مطبعة الى الشرق (مطبعة دير مار انطونيوس قزحيا)، في لبنان الشمالي في العام 1585، أولوا اهتماماً خاصاً بنشر العلم والمعرفة، فكان الدير الماروني أقدم منبر للطباعة في الشرق، والنواة الأولى لنشر الكتاب، وما تبعه من نهضة ثقافية وتعليمية كان من خلالها الأجداد الموارنة، وأبناء بلاد الأرز حاضرين، يبدعون، ويناضلون بقوة العقل والمعرفة والوطنية، التي رفع رايتها الأولى المعلم بطرس البستاني (1819-1883) أبو التنوير العربي، من خلال شعاره "حب الوطن من الإيمان"، ومدرسته الوطنية التي أخرجت نخباً سياسية وأدبية وفكرية كان لهم دور بارز في نهضة لبنان والمشرق العربي".

اسم جريح

وتضمن التصدير نفسه أنه في النصف الثاني من القرن التاسع عشر ارتحل هؤلاء الرواد بعقولهم وأوراقهم من بلاد الأرز إلى بلاد النيل، فعلَّموا، وتعلَّموا، أفادوا واستفادوا، أعطوا وأخذوا... هولاء الرواد دافعوا أيضاً عن الحق العربي والحرْف العربي، ومن ذلك حينما وقف الماروني اللبناني سليمان البستاني يرفع شروطه في "مجلس المبعوثان" 1908 بمنع توظيف غير الناطقين باللغة العربية في الدواوين الرسمية للسلطنة العثمانية، فارضاً لغة القرآن على الأراضي التي حاول العثمانيون تتريكها.

وفي المقدمة التي كتبها عزمي عبد الوهاب نجد أنه يستعير عنوان كتاب عبد الكبير الخطيبي؛ "الاسم العربي الجريح"، لارتباطه لديه، بعيداً من مضامينه وحقوله الدلالية لدى الخطيبي، باسم مي زيادة. فهي، بحسب عبد الوهاب، تمتلك الاسم الجريح ذاته؛ "لأنها عربية بكل ما يحمله الماضي منذ ميلادها وحتى رحيلها، مِن إرث وتاريخ يقهران النساء لمجرد أنهن نساء".

عاشت مي زيادة إذن باسم جريح وهوية مجروحة، وظلت حتى رحيلها تسأل: "أين وطني؟"، بين أناس قال لها بعضهم: أنتِ لستِ منا لآنك من طائفة أخرى"، فيما قال لها آخرون: "أنتِ لستِ منا لأنك من جنس آخر"... "ولدتُ في بلد، وأبي من بلد، وأمي من بلد، وسطي في بلد، وأشباح نفسي تنتقل من بلد إلى بلد، فلأي هذه البلدان أنتمي، وعن أي هذه البلدان أدافع؟".

ولاحظ عبد الوهاب أن تلك كانت بداية الأزمة الوجودية التي عانت منها مي زيادة طوال حياتها، ومن ثم فإنها تعرضت لمصير جائر؛ لأن صراع الهويات ذاك، أوصلها إلى تلك الحال التي آلت إليها... "إنسانة وحيدة، تعاني في صمت من دون أن تمتد إليها يدٌ من غابة الأيادي، التي كانت تسهر في ضوء القمر، لتكتب إليها رسائل الغرام على "أوراق الورد"، أو تكتب القصائد والمقالات تغزلاً في رجاحة عقلها ونبوغها". وبعد رحيلها – يقول عزمي عبد الوهاب – انشغل المثقفون في مصر ولبنان باستعادة مي زيادة، وكأنهم يعيدون توزيع التركة التي كانت سبباً في إدخالها "العصفورية". فاللبنانيون يرون أنهم أولى بها، والمصريون يرونها جزءاً أصيلاً من تاريخ بلدهم. لقد عاشت وماتت وهي تشغل الناس، وبعد 80 سنة من وفاتها لا تزال امرأة عابرة للأجيال والأساطير، امرأة وحيدة وسط عشرات الرجال الكبار، الذين كانوا يخطبون ودها، وفق ما أورده عزمي عبد الوهاب في مقدمته للكتاب.

ليست مجرد امرأة جميلة

ويضيف عبد الوهاب أن تلك المرأة الجميلة لم تكن مجرد يمامة بين الصقور أو الغربان، لكنها مأساة الرجل والمرأة في شرقنا التعيس، فهو لا ينظر إلى عقلها بقدر ما ينظر إلى أشياء أخرى! وهكذا كان أغلب من يحيطون بها لا يرون فيها سوى الأنثى الجميلة. بعد سنوات من موت مي التراجيدي ستكتب الناشطة اليسارية المصرية أروى صالح (1951–1997) – يتابع عبد الوهاب - عن الرجل الذي ينظر إلى النصف السفلي للمرأة، وهو يحدثها عن العقل والحرية والعدالة الاجتماعية، ثم ألقت بنفسها من شرفة أحد الأبراج السكنية، لترتطم بالأرض، تاركة كتابها القنبلة "المبتسرون".

من يطالع مقالات مي زيادة في "الأهرام" والتي كانت تنشر غالباً في الصفحة الأولى، يتأكد – كما يقول عزمي عبد الوهاب – أن رهان الصحيفة الكبرى على "الآنسة مي" ككاتبة كبيرة، لم يخِب أبداً، فهي لم تكن مجرد فتاة جميلة، يلتف حولها كبار الأدباء والساسة في مصر والعالم العربي من خلال صالونها الأسبوعي الذي تثار فيه مناقشات ومبارزات بين أقطاب الثقافة المصرية. فمقالات مي في "الأهرام" لم تكن تشي بأننا - بحسب مقدمة عبد الوهاب – أمام فتاة قليلة الخبرة بدروب الفكر والحياة معاً، أو أن الكتابة بالنسبة إليها مجرد زخرفات لغوية، وجمل شعرية، استمدت عنفوانها من اللغة الفرنسية، التي كانت تجيدها حديثاً وكتابة.

أم المشاكل

وقد وضع القدر مي زيادة أمام المجتمع الأدبي والكتابات الأدبية – يقول عبد الوهاب -، فلأن والدها كان يعمل في الصحافة، وأصبحت جريدة "المحروسة" مِلكه، شعرت كاتبتُنا بأنها تستطيع أن تكتب، لكنها كانت تخشى أن توقع باسمها، إلى أن تكوَّنت لديها الجرأة الأدبية فبدأت تنشر باسمها. قرأتْ كثيراً وترجمت عدداً من الكتب إلى اللغة العربية، حتى قال يعقوب صروف: "ما عرفتْ العربية كاتبة أفضل من مي وأجلى وأرقى". وكان لأحمد لطفي السيد فضل كبير في تحول مي إلى تعلم اللغة العربية، وكانت قد التقته في بيروت، وأعجِبَ بذكائها وحماستها للدفاع عن المرأة العربية، ومن وقتها حمل إليها العديد من الكتب العربية، مثل "النسائيات" لباحثة البادية، وديوان محمود سامي البارودي، و"تحرير المرأة" لقاسم أمين، وكان للصالونات الأدبية دورها المهم في نشر الثقافة، وإلقاء الضوء على نتاج الأدباء والمفكرين.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

هذه المقالات، تكشف عن مثقفة وكاتبة منغمسة في قضايا الواقع الاجتماعي والسياسي، لا الأدبي فحسب، فقد كانت – بحسب مقدمة عبد الوهاب – مشكلة التعليم هي أم المشاكل بالنسبة لها، وعلى حسب تعبيرها، فهي لم تكن ترى الحل في زيادة عدد المدارس، والتوسع في بناء الفصول، بما أننا بصدد مشكلة أكثر تعقيداً من هذا. ومي زيادة التي كانت عضو لجنة تحكيم في اختيار الأعمال التمثيلية، هي نفسها مي المشغولة بمطالبة شعراء مصر بإنجاز نشيد وطني يليق بهذا الوطن. ومثلما طالبت بإطلاق سراح الزعيم سعد زغلول، طالبت بعمل تمثال له، مع ضرورة مراعاة الارتباط بين التمثال والمكان الذي يقام فيه. وهي أيضاً التي وضعت تصورها حول "البوليس النسوي" في مصر. وهي التي قامت بجولة في شوارع القاهرة رصدت خلالها جَلَال الحجر والبشر، فكتبت عن مساجد مصر وآثارها عبر سلسلة ممتدة من المقالات، وطالبت بتغيير أسماء عدد من الشوارع في القاهرة، بما يشبه حملة صحافية، تدعو للحفاظ على هذا التراث وعلى شخصية هذا البلد العريق... "ما أثارته مي زيادة في هذا الشأن، يبدو وكأنه كتب لأيامنا"، يختم عبد الوهاب مقدمته.

وهو ختام صائب، لولا أن ما كانت تتيحه صحافة زمن مي زيادة، من التعبير الجسور عن مثل تلك القضايا، بات بعيد المنال، إلى حد كبير في صحافة وقتنا الراهن، على رغم ما تشهده من تطور تقني، ومن انفتاحها المفترض على فضاء شاسع تمثله السوشيال ميديا، لكنه فضاء خاضع لرقابة صارمة، ولا يستطيع من يرتاده أن يأمن عقوبة تجاوز السقف المحدد سلفاً لما يمكن تناوله من قضايا سياسية وهموم اجتماعية وثقافية.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة