Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

"مشاحنات" مسرحية عن أم تحتضر وشقيقتين تتصارعان

الفرقة مصرية والكاتبة بريطانية والقسوة واحدة في المجتمعين

الشقيقتان والأم المريضة في المسرحية المصرية (الخدمة الإعلامية)

في العرض المسرحي "مشاحنات" الذي يقدمه المخرج هاني عفيفي، على مسرح مركز الإبداع بدار الأوبرا المصرية، أنت أمام خمس وخمسين دقيقة، هي مدة العرض، من القسوة، والكآبة، والأنانية، والمشاعر الباردة، والمطفأة، لكنك أيضاً أمام الدقائق نفسها من المتعة الفنية، والتمثيل الصادق والمتقن، وهي معادلة صعبة سعى العرض إلى تحقيقها.

نص العرض، أبطاله ثلاث نساء، أم تحتضر، وشقيقتان تتشاحنان في انتظار موتها، وهو مأخوذ، بتصرف، عن نص الكاتبة الإنجليزية كاثرين هايس، ترجمة المخرج والممثل الراحل هناء عبد الفتاح. والتصرف هنا يتعلق ببعض الأحداث والرغبات التي ربما لا تناسب المجتمع المصري، أو لا تتسق مع عاداته، كأن تفكر الشقيقتان، مثلاً، في إحراق جثة والدتهما بعد موتها، لكن ذلك لم يؤثر بتأكيد الرؤية الكلية للنص الأصلي.

ثلاث ممثلات فقط، أم تصارع الموت، وشقيقتان ممتلئتان بالقسوة والأنانية، والعلاقة بينهما ملتبسة، ومتراوحة بين الحب والغيرة والكراهية.

الأم مريضة وملازمة الفراش، في حالة احتضار، وإحدى ابنتيها، لا تنجب، تركها زوجها وسافر، لا نعرف لماذا ولا إلى أين. تقيم مع أمها وترعاها بتأفُّف، وتنتظر موتها، بل واتفقت مع اللحاد على تفاصيل دفنها، وأعدت، بدم بارد، الكلمات التي ستكتبها على وسائل التواصل الاجتماعي عند موتها. أما الابنة الأخرى فتقيم في مكان بعيد عن بيت العائلة، تأتي، متعجلة، لزيارة الأم، حيث ينتظرها زوجها وأولادها، ولا وقت لديها للإقامة الطويلة مع أمها.

التاريخ الشخصي

تدور المشاحنات بين الشقيقتين، لنتعرف من خلالها على تاريخهما الشخصي، وتركيبتهما النفسية، وكيف وصلت العلاقة بينهما إلى هذه الدرجة من النفور، وإن كانتا، بين الحين والآخر، تفصحان عن خيط رفيع، وربما واه، من الحب يربط بينهما.

حالة إنسانية يغلفها البرود والقسوة، أم تحتضر وصار وجودها ثقيلاً على ابنتيها اللتين تتعجلان موتها، لتتفرغ كل منهما لشؤونها، لا مشاعر دافئة، أو ذكريات طيبة يتم استحضارها للتخفيف من وطأة هذه الحالة الشديدة البؤس.

ينتهي العرض بموت الأم، وإن لم يختتم على أسئلة كثيرة حول تشوهات اجتماعية وإنسانية طاولت هذا العصر المرتبك، الذي ضاقت فيه كثيراً، مساحات الحب والتعاطف، حتى بين أفراد الأسرة الواحدة. وإذا  كانت كاتبة النص الأصلي تعبر عن بيئتها في هذا النص، فإن ذلك ينسحب أيضاً على مجتمعاتنا العربية، أو في الأقل على نسبة من أفراد هذه المجتمعات ليست قليلة. فمشاعر مثل القسوة والجحود والأنانية لا تخص مجتمعاً بعينه، أو بيئة بعينها، وإن اختلفت النسب بين مجتمع وآخر.

ما الذي يمكن أن يثيره هذا العرض في نفوس مشاهديه؟ إن كثيرين منا يمكنهم أن يشاهدوا صورتهم مجسدة على الخشبة، وإن بدرجات متفاوتة. فكم من ابن أو ابنة، إما بفعل العقوق، وإما بفعل انشغالات الحياة ومتاعبها، يعتبران رعاية الأم أو الأب، في أيامهما الأخيرة عملاً ثقيلاً ومزعجاً، فينتظران خلاله ساعة الخلاص، لينفضا عن كاهلهما تلك المهمة، التي يعتبرانها عبئاً لا بد من القيام به، حتى ولو على غير إرادتهما. فمن لم يدفعه الدم يدفعه العار كما يقولون، عار أن يوصف بالعقوق ونكران الجميل.

هي إذا صرخة المسرح، في دوره الاجتماعي، لكنها الصرخة التي لايعقبها سوى الصمت، بمعنى أن العرض لم يكن مشغولاً إلا بتقديم هذه الحالة وحسب،هنا ينتهي دوره ورسالته، ليبدأ دور المشاهد في التأمل وطرح الأسئلة. لسنا بصدد عمل مليودرامي، يفرط في الحوارات والأحداث وتشابكاتها، كعادة الأعمال التي تتناول القضايا العائلية، ولسنا أمام حبكة مثيرة، ولا أمام تحديات شخصيات خارجية، شريرة ومتآمرة مثلاً، ولا أي شيء من هذا القبيل. أم تحتضر وشقيقتان تتصارعان وتتشاحنان، وتمنحنا تلك المشاحنات بعض المفاتيح، وليس كلها. هذا كل ما في الأمر، أو على الأقل هذا كل ما يظهر أمامنا في العرض، وعلينا أن نملأ بمعرفتنا نحن ما لم يظهر.

رؤية ناعمة

الألم والكآبة والقسوة، التي سادت العرض، عادلتها تلك النعومة التي عالج بها المخرج عرضه، سواء على مستوى الصورة البصرية، أو على مستوى الأداء التمثيلي الذي جاء مشحوناً بانفعالات لم يعبر عنها الحوار المنطوق فحسب، بل عبرت عنها أيضاً أجساد الممثلات وحركتهن وإيماءتهن. كل ذلك في هارمونية متقنة وبليغة.

الأحداث كلها تدور في حجرة الأم المحتضرة، الديكور (صممته مروة عودة) ليس سوى سرير ترقد عليه الأم ومقعد ومنضدة صغيرة، وباب، في مساحة تبدو واسعة وباردة ومقبضة. ربما لو أفرطت المصممة في قطع الديكور لضاع ذلك المعنى أو الإحساس الذي يجسده كل هذا الخواء. يمكن القول إن مصممة الديكور، هنا، لم تعمل لحسابها بقدر ما عملت لحساب العرض ورؤيته، فلم تفرط في استخدام أي قطع أخرى لا وظيفة لها في خدمة رسالة العرض، وهو ما يحسب لها، ويجعل من ديكورها الواقعي المتقشف جزءاً مهماً وفاعلاً في دراما العرض.

الأداء الواعي

ولأن اختيار الممثلات وتوظيفهن في أدوارهن، من مسؤولية المخرج، فقد كان هاني عفيفي موفقاً وذكياً في اختياراته، التي منحت العرض قدراً كبيراً من الطاقة والحيوية. ريم حجاب في دور الشقيقة المقيمة مع الأم، المتأففة من رعايتها، كانت على وعي كبير بطبيعة الشخصية وأزمتها النفسية وتاريخها الشخصي. تلك المرأة التي لم تنجب، والتي تركها زوجها وسافر خارج البلاد، إما للعمل، وإما هرباً من تلك الأجواء المقبضة والزوجة التي لا تنجب، ونعرف أن مشكلة عدم الإنجاب تخصها هي، ولا تخصه. هي المرأة الوحيدة، الباحثة عن حماية لها متمثلة في وراثة بيت الأم، جسدت هذه الشخصية بنعومة بالغة ودرجة عالية من الصدق.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

ولعبت هند حسام دور الشقيقة الأخرى الممزقة بين رعاية أولادها وزوجها، وحبها الدفين لأمها. وهو ما تبدّى، مثلاً، في فتحها الباب وإغلاقه أكثر من مرة، علامة على ترددها بين البقاء والانصراف، وكذلك في موت الأم بين أحضانها. لعبت هذا الدور بدرجة عالية من الصدق والإقناع، والمحبة للشخصية. وحتى تكوينها الجسماني وإيماءتها ونظراتها كانت مناسبة لشخصية فتاة اختطفت رجلاً من زوجته، وارتبطت به على غير إرادة أهلها.

أما سهام عبد السلام، التي لعبت دور الأم المحتضرة، فلم تنطق سوى كلمات قليلة في نهاية العرض، أفصحت فيها عن حبها لابنتها الصغرى المقيمة بعيداً عنها. وعلى الرغم من أنها لم تغادر سريرها طوال العرض، فقد كانت حاضرة بكثافة، ليس لأنها محور الصراع فحسب، ولكن لأن أداءها الصامت وحركتها كسيدة تحتضر كان لافتاً للنظر، ومجسداً إمكانات ممثلة على درجة عالية من النضج والموهبة.

التمثيل في هذا العرض هو درة تاجه، كما يقولون، فالنص مغامرة غير مأمونة العواقب. فكل هذا القدر من الكآبة والقسوة، لا يشجع على تقديمه، فإذا لم يتوافر له ممثلون على قدر عالٍ من الوعي والموهبة والدربة على قراءة ما بين سطوره، فلا شيء يبقى سوى هذه الحالة الثقيلة المقبضة، التي ربما تعد جلسة تعذيب للمشاهد، إذا هي لم تأتِ محمولة عبر أداءات تمثيلية متقنة ومقنعة، وهو ما استطاعت الممثلات الثلاث تحقيقه.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة