Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

رحيل فرحان بلبل رائد مسرح العمال في سوريا عن 88 عاما

ادخل عامة الناس الى المسرح  معترضا على فن النخبة وعالج  قضايا الصراع الطبقي والحريات الفردية والتسلط

الكاتب والمخرج المسرحي السوري فرحان بلبل (مؤسسة المسرح)

ملخص

برز اسم فرحان بلبل (1937- 2025) في المشهد الثقافي السوري بعد تأسيسه فرقة "مسرح عمال حمص" عام 1973. كان بلبل حينها عرّاب هذا النوع من المؤسسات النقابية التي كتب وأخرج لها عشرات العروض. ومنذ سبعينيات القرن الفائت لمع اسم الكاتب والمخرج السوري، كأحد أبرز المدافعين عن حقوق الطبقة العاملة، ووجد ابن مدينة حمص في المسرح ضالته للتعبير عن آلام المسحوقين في وجه ما كان يسمى حينذاك "المسرح البرجوازي" أو المسارح ذات النزعة التجارية الصرفة.

استطاع فرحان بلبل خلال نضال أكثر من نصف قرن أن يرسخ الفرقة التي أسسها، والتي كانت تقدم عروضها في التجمعات السكانية العمالية، من حمص ومناجم الفوسفات في البادية السورية انطلاقاً إلى حقول النفظ في رميلان وجبسة في أقصى الشمال الشرقي للبلاد. وعكف بلبل على تكريس عروض مسرحه الجوال هذا وصولاً إلى الدورة الـ20 من مهرجان "مسرح العمال" عام 2009، وهو بداية فترة شهدت ركوداً لظاهرة العمال المسرحيين، فانكفأ فرحان عن أحلامه الكبيرة، التي كان حملها من خطوط الإنتاج إلى مسارح المدن والأرياف السورية.

 كان صاحب كتاب "من مقعد المتفرج" حينذاك يقدم عروضه كمسرح للبسطاء وعامة الناس في وجه مسرح لا يعترف بحق "الجماهير" بالدخول إلى صالات العرض ومشاركتها في ميادين الثقافة. وعن هذا التوقف لفرقته قال فرحان بلبل في إحدى مقابلاته الصحافية "إن ما حدث في المسرح العمالي تراجعٌ وسقوط وافتقاد هوية، وبدأ هذا السقوط والافتقاد للهوية منذ أن أخذت الطبقة العاملة تفقد كثيراً من خصائصها وطموحاتها. وعندما بدأت تخرج عن موقع القوة السياسية والاقتصادية، فلم تعد قادرة على إبراز بل وحماية المسرح المعبر عنها، وأصبح المسرح العمالي مجرد زينة في المناسبات الوطنية. وصار اتحاد كل محافظة يلملم كل عام مجموعة من الأشخاص لا يعرفون عن المسرح شيئاً، ولا يمتلكون أية رؤية فنية أو فكرية، فيقدمون عملاً مسرحياً ما. ومن هنا فقد المسرح العمالي موقعه وخصائصه ودوره، فصار شيئاً مهملاً في المسرح السوري".

عالجت مسرحيات بلبل موضوعات متعددة من مثل الصراع الطبقي والحريات الفردية والنضال السياسي، وكانت أولاها مسرحيته "الجدران القرمزية" التي كتبها رداً على هزيمة 1967، وأخرجها وقتها محمود حمدي لفرقة "دوحة الميماس" الحمصية عام 1969. بداية جاءت مبشرة للرجل الذي حقق عدداً من النصوص المسرحية اللافتة بعد ذلك، ولعل أبرزها "الطائر يسجن الغرفة" و"العيون ذات الاتساع الضيق" و"الحفلة دارت في الحارة"، وهذا الأخير هو النص الأول الذي قام فرحان بإخراجه عام 1972، وفيه تناول شخصيات من مثل الشاعر والسجين الهارب والمرأة اللعوب في إطار عبثي وجودي.

الدراما المسرحية

 حقق بلبل نصوصاً اقتربت من الدراما العائلية، وأخرى انتهجت المزج بين الحاضر والتاريخ كما في مسرحيته "الممثلون يتراشقون الحجارة"، التي استحضر فيها أحداث عام الفيل وغزو أبرهة الحبشي للجزيرة العربية عام 570م. من هنا بدأ بلبل يستعير أدواته لتحقيق إسقاطاته على الواقع الراهن، والخروج من المعالجات المباشرة لقضايا التحرر والخوف من السلطات الأمنية، فكان نصه "يا حاضر يا زمان" بمثابة هجاء عالي النبرة للفساد القائم زمن الأسد الأب، وكيف تُفبرك حرائق مستودعات للتغطية على سرقة مواد البناء الخاصة بتشييد مساكن للعمال.

واقترب فرحان بلبل في النص الماضي من أسلوب الخطابة والبيانات السياسية، لكنه عاد وحقق مسرحيته "لا تنظر من ثقب الباب". العرض تناول قصة أحد العمال النقابيين الذين لا يخضعون لابتزاز أصحاب وسائل الإنتاج، ويناضلون من أجل تحقيق العدالة الاجتماعية. معادلة أجادها الفنان الحمصي في توجيه الانتقادات اللاذعة لطبيعة السلطة، والخروج من مسطرة الرقابة إلى مواجهات مع اللصوص الجدد لحقوق الطبقة العاملة. وهكذا كتب تباعاً نصوصاً أكثر نضجاً مع مسرحيتيه "القرى تصعد إلى القمر" و"لا ترهب حد السيف" و"الميراث"، وفيها جميعها يعود الكاتب السوري إلى معالجات فنية أكثر نضجاً في تشريح بنية القهر عبر أسلوب يدمج بين الحاضر والماضي، والمسرح داخل المسرح وصولاً إلى محاكاة مسرح العبث.

كان فرحان بلبل كتب كلمة اليوم العربي للمسرح عام 2018، وأبرز ما جاء فيها وقتها "نريد أن يكون المسرح العربي حراً، وأن نقفل مخافر الشرطة في عقول المبدعين، نريد أن تتحطم الأقفال المفروضة على ألسنة المسرحيين وأفكارهم، ونريد أن يزول الخوف من قلوبهم عندما يفكرون. فهل يستطيع المسرحيون العرب انتزاعها والدنيا جحيم من حولهم؟" مناشدات كثيراً ما كان بلبل سباقاً إليها في نصوصه وعروضه ومقالاته وكتبه النقدية قبل أن يجهر بها في كلمته تلك، فعمل طوال ثمانينيات وتسعينيات القرن الـ20 على مسرح يتجاوز التقليد.  

وعلى مستوى آخر، برز فرحان بلبل كناقد مسرحي بين عامي 1979 و1994 وهي الفترة التي تناول فيها الكاتب عروض المسرح الرسمي والخاص في بلاده. وكتب عن بعض المهرجانات المسرحية المحلية كالمسرح الجامعي والطلبة والمسرح العسكري، وقدم في هذا الإطار عدداً من المؤلفات لعل أبرزها "المسرح السوري في 100 عام" و"من التقليد إلى التجديد" و"من مقعد المتفرج"، وفيها جميعاً حاول بلبل أن يوثق لنقلات مهمة في مسيرة الريبرتوار السوري، وتحليل تطور الأصول والقواعد في التأليف المسرحي داخل بلاده، والخروج على بناء المسرحية التقليدية ذات الحبكة التي تسير في تصاعد صارم، من الذروة فالعقدة فالحل نحو آفاق المسرح التجريبي.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

وعلى مدى 50 عاماً استطاعت كتب فرحان بلبل النقدية أن تكون مرجعاً لكل الباحثين العرب، فوضع كتباً عن المسرح الجوال والمسارح القومية والمسارح التجريبية، وكان أبرزها كتاباه "مراجعات في المسرح العربي منذ النشأة حتى اليوم" و"المسرح التجريبي الحديث عربياً وعالمياً"، إضافة إلى كتابه "النص المسرحي- الكلمة- الفعل". جهود كبيرة لم تكتف بوضع الكتب، بل تجاوزتها إلى حضور فاعل في مهرجانات المسرح العربي، عبر إدارة بلبل لعدد من الندوات التطبيقية والجلسات الفكرية في مهرجانات القاهرة وبيروت والشارقة ودمشق وتونس.  

ولم يقتصر مجال عمل فرحان بلبل على تأليف النصوص ونقد العروض المسرحية، بل تعداها إلى تقديم إعدادات ماهرة لأبرز النصوص العالمية. فقدم في هذا المجال جهداً لافتاً في فهم عملية الإعداد للنص المسرحي، وذلك عبر تطويع النص لشروط الزمان والبيئة في مكان العرض المسرحي العربي. وحافظ بلبل على الخط الأساس لحكاية المسرحية، وحذف ما هو خاص بزمان الكاتب الأصلي ومكانه. وبهذا الفهم عرف بلبل أن الإعداد الجيد للنص المسرحي ما هو سوى نوع من التأليف الجديد، فقدم في هذا السياق إعداداً لنصوص ناظم حكمت وغريغوري غورين وأمانويل روبلس وفون كلايست.

وُلد فرحان بلبل داخل حمص عام 1937، وفقد أباه ولم يزل عمره سبعة أشهر، وافترق عن أمه بسبب زواجها من رجل آخر، فعاش في الميتم الإسلامي 10 أعوام، ثم خرج عام 1948 من الميتم ليعيش في بيوت أعمامه زكريا وشكيب وأديب. وبعد حصوله على الشهادة الثانوية ذهب إلى دمشق ودرس اللغة العربية في جامعتها، وشهد عدداً من الأحداث السياسية والانقلابات العسكرية. وبعد تخرجه في الجامعة عام 1960 ذهب للتدريس في مدينة القامشلي (شمال شرق سوريا) وهناك كتب أول نص مسرحي بعنوان "الثأر الموروث" للمخرج إسكندر عزيز. وصباح أمس الجمعة أغمض فرحان بلبل عينيه عن عمر ناهز 88 سنة، ونعته مديرية المسارح والموسيقى واتحاد الكتاب العرب، وكتب العشرات من طلابه وزملائه في رثائه على حساباتهم عبر "فيسبوك".

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة