Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

محمد إسماعيل يكشف أكاذيب العشرية السوداء

"باب الزوار" تسرد عبثية الحرب وتناقض المواقف والتصورات

لوحة للرسام الجزائري محمد إيسياخم (صفحة الرسام - فيسبوك)

عشرة أعوام من عمر الجزائر اتشحت بالسواد، حتى أُطلق على الفترة الممتدة بين أوائل تسعينيات القرن الماضي ومطلع الألفية الثالثة عنوان "العشرية السوداء"، لما شهدته من حرب أهلية، طاول سعيرها كل شبر فيها. وراح ضحيتها حوالى 200 ألف قتيل، لتضاف هذه الحصيلة من القتلى إلى أكثر من مليون شهيد، سقطوا أثناء حرب التحرير، ومقاومة المستعمر الفرنسي. لكن القتل هذه المرة، جرى على يد أبناء الوطن الواحد، بعضهم ضد بعض ..... من هذه المفارقة انطلق الكاتب المصري محمد إسماعيل في روايته "باب الزوار" (دار العين للنشر)، ليعيد كتابة تاريخ دموي ويوثق - أدبياً - أكثر المراحل مأساوية في تاريخ الجزائر. ولعل التحدي الذي يبرز هنا هو خوض روائي مصري تاريخ الجزائر الحديث.

بدأت الأحداث باختفاء باهية، التي اتضح مع تدفق السرد، هروبها من الجزائر، إلى العاصمة البلجيكية بروكسيل، مصطحبة ابنتها الصغرى زهرة، ومخلفة وراءها زوجها صالح والابنتين الكبريين فاطيما ولميا. ثم تحول الهروب والتخلي بأشكالهما المختلفة، إلى ثيمة رئيسة، جمعت بين الشخوص. فالمعلم المصري، الذي يعمل بالجزائر، اختارت زوجته الهروب من مؤسسة الزواج والبقاء في مصر، والتخلي عن الاستمرار معه في العاصمة البيضاء. وفريال تسعى وأمها للهروب من جحيم الحرب إلى فرنسا، حتى وإن كان ذلك من خلال ابن الجنرال العربي، الذي تكرهه الأم المتعصبة لهويتها الأمازيغية. والزوج صالح  يلوذ بالعزلة ويهرب من مجتمع لا يستطيع مواجهته، بعد هروب زوجته.

 

يؤدي الأسى الذي نزفته الأحداث دور البطولة الأولى في النص. ثم وزع الكاتب البطولة الثانية، على الشخوص. وهذا ما جعل اللجوء إلى الصوت المركزي مبرراً لاسيما مع ما يتيحه الراوي العليم، من صورة كاشفة للشخوص، من الخارج والداخل، استناداً إلى تيار الوعي أو المونولوغ الداخلي.

اغتيال هيبة الموت        

اعتمد الكاتب الوصف على اختلافه، الإبهاري والتفسيري، ليضمن الوصول بالقارئ، إلى بقعة جغرافية لم يبلغها على الأغلب. غير أن غاية أخرى دفعته لاستخدام هذه التقنية، بهدف تفنيد الأحداث، وتفكيك الحرب، التي راحت ضحيتها هيبة الموت. ورصد ما تلا ضياع هذه الهيبة، من التعاطي مع القتل، بالصفة العادية، التي نفت عنه كونه أمراً جللاً. فكان وصف المنطقة التي تقطنها فاطيما، بالقرب من المجزر، والمنطقة المحيطة بجامعة باب الزوار، التي ترتادها، دالا على التفاوت الطبقي، والأوضاع الاقتصادية الصعبة والظالمة، التي عاشها الجزائريون. وكانت السبب الرئيس في بروز الإسلام المتطرف، عبر حزب الجبهة الإسلامية للإنقاذ. كذلك كانت لإشارته إلى البيوت المغلقة أبوابها ونوافذها بالقضبان الحديد، دلالة على هروب الشعور بالأمان، وما شهدته الجزائر - في النصف الثاني من تسعينيات القرن الماضي - من شيوع القتل وحصد الرؤوس.

خصوصية ثقافية

 مرر الكاتب ملامح الثقافة الجزائرية في كل زاوية من النص، مرة عبر الأطعمة المحلية مثل حلوى البراج، الهريسة الحارة، المحاجب، طاجن الحوت، طاجن قاضي وجماعته، المارجاز، رأس الحانوت... ومرة عبر الأزياء التقليدية، وما لحق بها من تطور، تأثراً بالوجود الفرنسي.  وكان الفلكلور معلماً آخر، أبرز عبره الكاتب خصوصية الثقافة الجزائرية.  فعرج على الموسيقى والغناء، مستدعياً أشكالاً مختلفة من الموسيقى المحلية مثل الراي والمالوف القسنطيني. واستدعى أسماء أشهر المطربين الجزائريين، مثل محمد الطاهر الفرقاني، الهاشمي قراوي، دحمان الحراشي. وكذلك بعض الأمثال المتداولة. وكان لبروز دور العرافة غاية مزدوجة في البناء، فإضافه إلى تأثيرها في تحريك الأحداث وتطويرها، كانت وسيلة أخرى للدفع بالفولكلور والموروث. وبدا ذلك عبر استدعاء ما تقوم به الأمهات الجزائريات، وما يصنعنه لدى العرافات من "قفل" لبناتهن لتحصينهن، والحفاظ على عفتهن حتى زواجهن. كذلك كانت شخصية العرافة وسيلة الكاتب، لتمرير لمحات من الفانتازيا إلى نسيجه الروائي.   

شروخ غائرة

 

استبق إسماعيل بالفراق وأرجأ أسبابه، فلم يكشف سر تخلى الزوجة المصرية عن زوجها المعلم، وتفضيلها البقاء في مصر، عن العودة إلى الجزائر، إلا في نهاية الأحداث. ومرر رؤية مفادها أن الفراق، الذي تكون أسبابه الظاهرة قسوة المكان، لابد من أنّ له أسباباً أخرى، وشروخاً عميقة وغائرة في العلاقة من داخلها. هذه الحقيقة تشاركتها أيضاً باهية، عندما فرت من زوجها إلى بروكسيل. وإلى جانب هذه الثنائية المتقابلة بين المعلن والمسكوت عنه، برزت ثنائية أخرى بين الحقيقة والظنون، بدت في حلم الهروب إلى الغرب، والظن بأنه يحمل النجاة، في حين أثبتت الحقيقة أنه لم يحمل إلا مزيداً من الغرق. فباهية التي رحلت إلى أوروبا، أملاً في مستقبل أفضل لها ولبناتها؛ انتهى بها الحال كقوادة. وتركت ابنتها ليستخدمها تجار الحشيش في توزيع بضاعتهم.

رؤى متباينة

استخدم الكاتب شخوصه لتمرير الرؤى المتباينة داخل المجتمع الجزائري، حول أسباب صعود تيارات الإسلام المتطرف، والفوز الساحق الذي حققته جبهة الانقاذ في الإنتخابات الجزائرية عام 1991. وكذلك حول حقيقة الحرب الأهلية. وألقى اللوم عبر كل شخصية، على أحد أطراف الصراع. فكانت فاطيما ممثلاً عن الجانب الذي اتهم الإسلاميين بإشعال نار الفتنة، وعلى رأسهم عباس مدني وعلي بالحاج وأتباعهم. "يجند بعضهم ربما، أو يعمل حثيثاً على أن يقدم يد العون للمحتاجين تماماً مثلما فعلت جماعته وقت زلزال تيبازا منذ عشرة أعوام. كانوا في المدينة قبل الحماية المدنية، يمنحون الأغطية والخيام ويوقدون تحت القدور الضخمة، يعدون الطعام للمتضررين. مازال البعض يصدقون تلك الحيل فيبتلعون الطعم، ويتبعون أولئك الشياطين". ص 64

بينما مرر من خلال صالح رؤية أخرى، شاعت في ذلك الوقت، تتكأ على نظرية المؤامرة. وتتهم الجيش بالضلوع في المذابح، لإلقاء اللوم على تيارات الإسلام المتطرف، وخلق مناخ عام من الكراهية تجاههم. "لو كنت مكان جبهة الإنقاذ وعندي السلاح وقادر على محاربة الدولة بأسرها لست سنوات، لوفرت رصاصاتي لمن اتخذ القرار بحرماني من حقي في البرلمان، بدلاً من إضاعة وقتي وجهدي في قتال مدنيين عزّل لم يوذوني، وانتظر دعمهم لي بعد استعادة برلماني المنهوب". ص137

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

وبين الرؤى المتناقضة بدت عبثية الحرب، التي دائماً ما تكون مقدسة لدى كل طرف من أطراف الصراع، فالمتطرفون الإسلاميون يحاربون الطاغوت، بينما الجيش يحارب الإرهاب. والضحايا هم أولئك الذين لا ناقة لهم ولا جمل. ولا فرق بين رضيع وشيخ، أو رجل وامرأة، فالجميع عند تجرع القتل سواء.  ومرر الكاتب رؤى مغايرة لبعض الجزائريين، حول الاحتلال الفرنسي وبعض من جاءوا معه من جنود. ونسج شخصية غير نمطية، تجسد صورة أخرى غير تلك المألوفة عن المُستعمر؛ دفعت بباهية للاعتقاد بمثالية الغرب، ليكون لها حلما، وخلاصا من وطن محترق:"آخر لقاء بموريتي حاولت أن تدفع نفسها عليه دفعاً تحت الماء، صفعها وخرج من البحر مسرعاً. أعادت ارتداء لباسها تحت الماء قبل أن تخرج له، كان يدخن بعصبية، تذكر جيدًا آخر ما قال لها: أنا عائد إلى فرنسا قريباً. من سيتزوجك إذا أطعتك؟". ص 77

ومرر هذه الصورة الإيجابية لدى بعض الجزائريين عن المحتل، مرة أخرى عبر قصة انتحارأبي فريال بعد الاستقلال، لانعدام شعوره بالأمان، بعد جلاء الفرنسيين. ومخاوفه أن يوصم بالخيانة إذا ما انضم إالى الموالين لهم، وغادر معهم إلى فرنسا. تلك الوصمة التي طاولت حتى "جميلة بوحريد" بعد زواجها من محاميها الفرنسي.

ما بين يوسف وحميد

استخدم الكاتب من التناص ما عزز من جمالية البناء وقوته. وكان في غالبه مباشراً وغير مباشر مع الموروث الديني. كذلك لجأ إلى الموروث نفسه، حين استخدم التناظر بين حميد وبين النبي يوسف، فكلاهما فضلا السجن على المعصية، التي دُعيا إليها. ولم يكتف بهذا التناص، وإنما استدعى أبياتاً شهيرة من شعر إيليا أبو ماضي "كن جميلاً تر الوجود جميلا"، ومن ديوان الحلاج "فليتك تحلو والحياة مريرة". وأفرد مزيداً من المساحات داخل النسيج للشعر. ووظف تلك المساحات، لا سيما التي استدعى عبرها أبياتاً من قصيدة أمل دنقل "تعليق على ما حدث في مخيم الوحدات"، في خدمة رسائله الضمنية.

ومرر كذلك العديد من المفارقات الدلالية، فبينما تجتمع الأديان الثلاثة على حائط كاتدرئية "سيدة أفريقيا"، يتناحر الناس خارجها لأسباب قبلية وطائفية. وبينما يجبن البعض عن قول الحقيقة، يمتلكون في الوقت نفسه شجاعة السباب. وبينما يترفع البعض عن إتيان الرذيلة، يعودون ليأتوها من بابها الخلفي، مدعين نظافة أياديهم. ومثل هذه المفارقات لا تنتهي ولا تتوقف، وإن توقفت الحرب بعد إقرار بوتفليقة قانون الوئام. هكذا يتجاور الجمال والقبح، الموت والحياة. وتتجلى الحقيقة في وجوه كثيرة، يصدّق منها، كلٌ، ما يريد. 

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة