تتسارع الأحداث بين الجزائر وفرنسا بعد توتر كاد يعصف بالعلاقات الثنائية بينهما، وجاء إعلان باريس عزمها فتح أرشيف حرب التحرير الجزائرية، ليؤكد التحول في التعاطي الفرنسي مع ملف الذاكرة الذي كان من بين أبرز العراقيل التي تمنع إنهاء "الخصام" التاريخي بين البلدين.
خطوة فرنسية يدعمها الرئيس ماكرون
وبعد عبارات الاعتذار "الضمني" الذي حمل صفة "التراجع" الذي اعتمدته باريس بعد تصاعد التوتر مع الجزائر، عقب تصريح رئيسها عبدالمجيد تبون، بأنه لن يبادر بالخطوة الأولى لإعادة العلاقات بين البلدين إلى طبيعتها، وبعد زيارة وزير الخارجية الفرنسي جان إيف لودريان إلى الجزائر، وما أعقبها من تصريحات "حسن النية"، أعلنت وزيرة الثقافة الفرنسية روزلين باشلو عن عزم باريس رفع السرية عن أرشيف حرب الجزائر قبل 15 عاماً من المهلة القانونية. وأوضحت أن الأمر يتعلق بأرشيف "التحقيقات القضائية لقوات الدرك والشرطة" خلال حرب التحرير الجزائرية بين 1954 إلى 1962، مضيفة في تصريحات صحافية أن "هذه المسألة باتت مزعجة ومثيرة للغضب". وقالت، "هناك مزورون للتاريخ يعملون، ويجب أن نكون قادرين على مواجهتهم، لا يمكن بناء رواية تاريخية على كذب"، مشيرة إلى أن "التزوير هو الذي يجلب كل الأخطاء والمشكلات وكل الكراهية". وشددت على أنه "في اللحظة التي تطرح فيها الحقائق على الطاولة، ويتم الاعتراف بها وتحليلها، من تلك اللحظة فقط يمكننا أن نبني تاريخاً آخر ومصالحة".
وأضافت الوزيرة الفرنسية، "لدينا أشياء يجب إعادة بنائها مع الجزائر ولا يمكن إعادة بنائها إلا بناءً على الحقيقة". وردت على سؤال عن تداعيات القرار، لا سيما في ما يتعلق بحدوث أعمال تعذيب ارتكبها الجيش الفرنسي في الجزائر، أنه "من مصلحة البلاد الاعتراف بها".
ولم ينتظر طويلاً المتابعون الذين شككوا في قدرة وزيرة الثقافة الفرنسية على تحقيق رغبتها، وخرج بعد ساعات الرئيس إيمانويل ماكرون عن صمته، وقال إن "فتح أرشيف حرب الجزائر هو جزء من عمل عميق لكشف حقائق تاريخية ضرورية والاعتراف بكل مكونات ذاكرتنا".
تعدٍّ على القانون
وتعليقاً على القرار، رأى الحقوقي والمحامي المعتمد لدى المحكمة ومجلس الدولة، عابد نعمان، أن القرار من الناحية القانونية أمر طبيعي بعد استنفاد قانون سرية الأرشيف حياته الزمنية المقررة بموجب نص في تسيير أرشيف الفترة الاستعمارية، مضيفاً أن الإقدام على الخطوة خضع لنظرية المصالح، وشدد على أن القرار هو تعدٍّ على القانون ومساس بسيادة دولة والشأن الداخلي، "لأنه حتى وإن كانت فرنسا هي المشرفة على الأرشيف، لكن منذ استقلال الجزائر، يصبح أرشيف تلك الفترة مؤمماً بقوة القانون، فقط نص السرية هو الذي أعطى حق وضع اليد والتسيير".
وتابع نعمان أن الدولة الجزائرية تعلم جيداً خطورة الرفع في هذا الوقت بالذات، مبرزاً أن الجزائر تطالب بالأرشيف، وليس برفع السرية، لأن هناك فرقاً بين تأميم الأرشيف ورفع السرية، وقال إن الخطوة تصنف في خانة الضغط على الجزائر ليس إلا، على اعتبار أنها ستكشف عن أمور قد تحدث فتنة بين الجزائريين، وربما قد يكون القرار انتقاماً من إجراءات اتخذتها الجزائر مثل حظر عبور الطائرات العسكرية الفرنسية نحو مالي، وكذلك خسارة العقود الاقتصادية، بالإضافة إلى تراجع اللغة الفرنسية. وأضاف، "لو نركز في تصريح وزيرة الثقافة الفرنسية، فإنه تمحور حول التاريخ والتزوير وقول الحقيقة، بمعنى أن الأمر تحول من مبادرة حسن النية إلى تهديد قومي يفجر الذهنية الجماعية للشعب". وأشار إلى أن المعلومة التي سوف ترفع عنها السرية تتعلق بالتحقيقات القضائية، ما يفتح أبواب التشكيك وتبادل الاتهامات.
محاولة لإثارة الجدل
من جانبها، اعتبرت الباحثة في العلاقات الدولية، شروق مستور، أنه بالنظر إلى الأزمة التي تشهدها العلاقات الجزائرية - الفرنسية، "يمكننا القول إن فرنسا تحاول الضغط على السلطات الجزائرية، بخاصة بعد تصريحات الرئيس تبون ومطالبة فرنسا بالاعتراف بجرائمها الاستعمارية كافة، بالإضافة إلى تأكيده أنه لن يقوم بالخطوة الأولى في تخفيف التوتر مع فرنسا"، وهو ما استفز الطرف الفرنسي. وأوضحت أن إعلان وزيرة الثقافة الفرنسية فتح الأرشيف الخاص بثورة التحرير الجزائرية قبل 15 عاماً من المهلة القانونية، يعتبر نوعاً من الضغط، مشيرة إلى أنه إذا كان فتح الأرشيف مرتبطاً بمهلة قانونية، فإن الموضوع يتحول إلى المجال القانوني.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
أضافت مستور أن الرغبة في فتح الأرشيف الخاص بالثورة التحريرية، هو محاولة لإثارة الجدل في الأوساط الجزائرية، و"لكن أعتقد أنه انتهاك للشأن الداخلي الجزائري، فهذا الأرشيف جزائري ويخص قضية داخلية في وقت الحرب"، موضحة أن الجزائر تطالب باسترجاع الأرشيف كاملاً، وفتح ملف التجارب النووية في الصحراء الجزائرية، واستعادة جماجم أبطال المقاومة الشعبية، وكذلك ملف المفقودين. وختمت بأنه "في الوقت الذي يجب فيه على فرنسا تقديم الاعتذار عن جرائمها، تستغل قضايا أخرى لمحاولة الضغط وتخفيف التوتر مع الجزائر".
إشارات إيجابية
في المقابل، رأى الإعلامي الفرنسي المهتم بالشؤون السياسية آلان جوردان، أنه بالنظر لتزامن تصريحات وزيرة الثقافة روزلين باشلو مع اقتراب ذكرى "اتفاقيات إيفيان" بين الحكومة الفرنسية والحكومة المؤقتة الجزائرية التي أفضت إلى استقلال الجزائر، واقتراب موعد الانتخابات الرئاسية الفرنسية التي من المنتظر أن تشعل ضغطاً سياسياً، فإن قرار رفع السرية عن الأرشيف ليس من أجل خلق مشاكل، ولكن هي إشارات إيجابية موجهة إلى الجزائر بهدف تهدئة الأجواء بعد التوتر الدبلوماسي.
أضاف جوردان أن الخطوة الفرنسية تندرج في سياق إظهار الإرادة على تحقيق مصالحة تاريخية وتجاوز الأحداث التي جرت خلال حرب التحرير الجزائرية، وقال إن الرئيس ماكرون لا يريد مزيداً من التوتر مع الجزائر قبل الانتخابات الرئاسية، على عكس بعض الأطراف، مثل المرشح المثير للجدل إريك زمور، الذين يسعون لرفع حرارة الاحتقان.
صمت جزائري وهجوم يميني
وفي حين لم تصدر الجزائر ردوداً رسمية، هاجم عضو في البرلمان الأوروبي، تيغي ماغياني، المحسوب على التيار اليميني المحافظ، قرار فرنسا رفع السرية عن جانب من أرشيف حرب الجزائر، وعدَّه خطوة لإرضاء البلد العربي، وقال، "مرة أخرى، خطوة لإرضاء الجزائر، مع العلم بأنها لن تقدم في المقابل أي إشارات تهدئة تجاه فرنسا. إن سياسة الاعتذار والتوبة عار على فرنسا".